كثيرًا ما نصادف حكايات عن فتيات أُرغِمن على ارتداء الحجاب، خلال فترات طفولتهن أو مراهقتهن، لكن ثورات التغيير التي هبَّت على مصر فرضت أشياء بالقوة، وتوالت موجات خلع الحجاب بعد يناير. التمرد يصنع الفارق إذا كان عن إرادة حرة، وليس إرغامًا. لكن ماذا لو كان بالإجبار؟
هذه نماذج لفتيات أُجبرن على خلع الحجاب بمنطق سلطوي، ربما يكون ظاهره التحرر، لكن باطنه سهولة استباحة جسد المرأة، الحلقة الأضعف دائمًا.
الحجاب مرفوض في حفلات الطبقة الراقية
«لم يحترم حجابي الذي ارتديته منذ كنت طفلة لم أتعدَّ 12 عامًا. أجبرني زوجي على خلع الحجاب بسبب عينيه الزائغتين، كان دائم النظر إلى الفتيات والسيدات اللاتي يتركن شعورهن منسدلة، وينتقد حجابي الإسباني بأقسى الكلمات: إيه القرف ده؟ إنتي رايحة تخدمي في البيوت باللي حاطاه على راسك ده؟ شكلك بيئة. شكلك فلاحة. شايفة؟ دي الستات اللي بجد».
كانت نورا تعلم أن نقاشًا مثل ذلك سيفرض نفسه ذات يوم، بسبب الطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها زوجها، المهندس الذي يعمل في شركة والده، أخو الشقيقتين الأكبر منه سنًّا، اللتين لم ترتديا الحجاب، ووالدته سيدة مجتمع تقضي وقتها بين معارض الصور الفنية لاقتناء القطع النادرة.
نورا، ابنة الطبقة المتوسطة خريجة إحدى كليات القمة، أحبت شريف، وأحبها هو الآخر بعدما تقابلا مرات عدة من خلال صديقة مشتركة، ورغم الاختلافات الثقافية والاجتماعية الواضحة قررا الزواج.
كانت نورا تنتظر رفض أسرته لهذا الزواج غير المتكافئ، لكن فاجأها القبول، وإن كان على مضض، إذ لربما تتغير الفتاة بعدما تنتسب إلى العائلة.
يمارس المجتمع سلطته على النساء، فيفرض عليهن الحجاب لاعتبارات سياسية ودينية، ثم يعود ويفرض عليهن خلع الحجاب لأهواء شخصية اجتماعية.
تحكي الفتاة ذات الـ27 عاما لـ«منشور»: «أبكاني شهورًا، وأبكتني أسرته التي لم تصطدم معي مباشرة، لكنهم استبعدوني من حفلاتهم التي كانت تحضرها العائلة والأصدقاء، وحتى زوجي، الذي كان يبرر ذلك بأن الجو ليس مناسبًا لي هناك. صراع دام شهورًا بين زوجي الذي أحبه، وحجابي الذي ارتديته لمدة 13 سنة».
خلعت نورا حجابها في نهاية الأمر: «لا أريد أن أتسبب في إفساد زواجي، أو أن أعطي الفرصة لزوجي كي ينظر إلى فتاة أخرى بسبب شعرها. هو مَن سيُحاسَب عني، وربنا يرى ما يحدث».
حتى بعد أن قررت نورا الاستسلام لإرادة زوجها، لم تسلم من الانتقاد من أسرتها وصديقاتها. كلهم رفع شعار «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». عانت مجددًا حتى وصل الأمر إلى منتهاه. لا تعرف كيف تتعامل مع زوجها وأهله، ولا تقدر على مواجهة أصدقائها وأهلها. ما الصحيح وما الخطأ؟ هل تطلب الطلاق؟ هل تعيد ارتداء الحجاب؟
منى عزت، الباحثة في قضايا النساء و«الجندر» ومديرة برنامج «النساء والعمل» في منظمة «المرأة الجديدة»، توضح أن المجتمع يستخدم منطقًا سلطويًّا في كل ما له علاقة بجسد المرأة وأوضاع النساء: «لهذا ارتباط بالواقع الاجتماعي والثقافي. الرجال يرون النساء الحلقة الأضعف، ويمارسون عليها سلطة لتحديد اختياراتها: ماذا تلبس؟ ماذا تاكل؟».
تؤكد منى أن السلطة حاضرة في كل شيء يراه المجتمع «درجة أدنى»، ويمارس المجتمع تلك السلطة على النساء باعتبارهن تابعات طول الوقت، فيفرض عليهن الحجاب لاعتبارات سياسية ودينية، ثم يعود ويفرض عليهن خلع الحجاب لأهواء شخصية اجتماعية، وفي تلك المعادلة دائمًا تكون المرأة تابعًا لا إرادة لها.
قد يهمك أيضًا: لماذا ينظر الرجال إلى النساء كـ«أشياء»؟
الحجاب: إذا لبسته الابنة صار فرضًا على الأم
«رفضت أمي أن ألبس الحجاب. أجبرتني على خلعه وعمري 15 عامًا، رغم أنها معلمة، وتعرف أنه فرض ديني. اضطررت إلى خلعه بعد يومين فقط من ارتدائه، كي لا تضطر أمي إلى لبسه هي الأخرى».
لكن بعد أن أنهت رانيا دراستها الجامعية، وعُينت في الجامعة، قررت أن تعيد التجربة، فهي في وضع أكثر قوة من ذي قبل: استقلَّت ماديًّا عن أسرتها، ويمكنها اتخاذ قرارتها بعيدًا عن سيطرة الأم. ارتدت رانيا الحجاب، فانصاعت الأم ولبسته أيضًا، حتى تقطع الطريق على أي نقد مجتمعي على طريقة: «البنت تغطي شعرها والأم مكشوفة».
تعود قصة ارتداء رانيا الحجاب لأول مرة إلى بداية الألفية، حين كان نجم الداعية عمرو خالد قد بدأ في السطوع، خصوصًا بعد ظهوره على التلفزيون. سمعت الفتاة عن الداعية النجم، هيئته قريبة من شباب عائلتها، وكلماته لينة رقيقة شجَّعت فتيات كثيرات.
تقول رانيا: «سمعت عنه عبر صديقاتي، كان داعية جديدًا يتكلم بطريقة مختلفة. تأثرت به جدًّا، قررت أن أتحجب وأستر نفسي مثلما كان يقول، لكن أمي رفضت. كنت ألبسه بعد أن تغادر المنزل إلى العمل، وذهبتُ إلى المدرسة لمدة يومين وأنا أرتديه، وهناك قابلتني حفاوة كبيرة من صديقاتي والمدرسين. لكن أمي غضبت بالطبع حين عرفت، وأخبرتني بأنني فتاة صغيرة ليس بمقدوري أن أتخذ قرارًا مثل هذا وحدي».
رانيا الآن أستاذة جامعية تجاوزت الثلاثين بقليل، لكن حتى حين كان عمرها 15 عامًا، كانت قد فهمت أن أمها «تضايقتْ لأني أجبرها على لبس الحجاب. حين صممت على قراري، منعتني من الذهاب إلى المدرسة لمدة يومين، فاضطررت إلى خلعه. وحين كبرت عدت لارتدائه، وشعرت بانتصار أكبر حين أجبرتها على أن تتحجب من أجل شكلها أمام الناس».
في لحظات المكاشفة تلوم رانيا، الزوجة والأم، نفسها: «أعتقد أني فعلت ذلك بدافع العِناد»، وتود لو تزيح الغطاء عن رأسها، لكن أكثر ما يقلقها والدتها.
قد يعجبك أيضًا: ملابس النساء كمؤشر لحركة الأسواق المالية
جسد المرأة في الخلافات السياسية
في أغسطس 2018، فاجأت الممثلة المصرية حلا شيحة كثيرين بخلع حجابها والعودة إلى التمثيل، بعد سنوات من الاعتزال. القرار أثار ضجة هائلة على مواقع التواصل الإجتماعي، بين معارضين يرجونها كي تعود عن قرارها «الخطأ»، ومؤيدين يحتفون بعودتها «إلى رشدها» بعد نحو 12 عامًا.
الصراع بين الليبراليين والمحافظين في مصر، اشتعل فور إعلان حلا خلع الحجاب، ووصل إلى اتهامات متبادلة بين «أعداء الدين» و«المتخلفين الرجعيين»، وكالعادة كانت المرأة ساحة المعركة. احتشام المرأة وحجابها كانا القضية التي تبناها الإسلاميون منذ عقود، لتصبح جواز مرورهم، سواء إلى العمل السياسي أو داخل البيوت، فكانت عبارة «الحجاب قبل الحساب» وتنويعاتها الأخرى.
قد يهمك أيضًا: كيف تتعامل الفتاة العربية مع جسدها «الافتراضي»؟
شهدت ثورة يناير 2011، موجة كبيرة من خلع الحجاب، فليس ارتداء الحجاب ما يجعل المرأة محافظة، ولا عدم ارتدائه يجعلها تقدمية.
«بعد الخطبة بأيام زارني خطيبي في بيت أهلي. قابلته بشعري من غير حجاب، وقال إني أبدو أجمل هكذا. فرحت بالطبع، لكنه عاد ليطلب مني خلع الحجاب لأنه ليس جميلًا، ولا فرضًا، ولا علاقة له بالدين. صُدمت من كلامه، خصوصًا أنني اعتقدت أنه يغار عليَّ، ولن يعجبه أن ينظر أحدهم إلى شعري العاري. استمر في حديثه الجاد، وصار يُحضر لي كتبًا تعلن أن الحجاب ليس فرضًا، ويؤكد لي خطأ المشي مع القطيع، وسماع الكلام دون تدقيق وقراءة».
تحكي هبة ذات، 28 عامًا، أن أباها أجبرها (ومعها أختها الأصغر منها) على لبس الحجاب، حين كان عمرها 11 سنة: «شعرت بالضيق، فالجو كان حارًّا والحجاب يقيدني، لكن لم أفكر في خلعه. والدي كان صعبًا للغاية، يضربنا بسبب أصغر الأخطاء. أختي الأصغر خلعت الحجاب قبل سنوات، فضربها أبي وحبسها في البيت، حوَّل حياتها إلى جحيم، لكنها صممت، واضطر في النهاية إلى الموافقة».
والد هبة غير متدين، لا يصلي سوى الجمعة، ويدخن و«يسب الدين»، لكنه يحب إعطاء الأوامر ويكره النقاش: «يفرض رأيه بالصوت العالي والضرب، عكس خطيبي صاحب الصوت الهادئ، الذي يحب الكلام والنقاش، ويقرأ كثيرًا ويسمع رأيي».
يبدو أن هبة في طريقها إلى التخلي عن الحجاب إرضاءً لخطيبها: «يتحدث معي في الموضوع باستمرار، وأنا أحبه وأريد أن أتزوجه». حين أخبرت الفتاة والدها أشاح بوجهه، طلب منها أن تفعل ما تريد، لكن «بعيدًا عني، ولئلا ترى الناس خيبتي في بناتي».
شهدت ثورة يناير 2011، وما تلاها من أعوام، موجة كبيرة من خلع الحجاب، حتى وُصفت بأنها ثورة اجتماعية تُحدِث تحولًا في مصر. فليس ارتداء الحجاب ما يجعل المرأة محافظة، ولا عدم ارتدائه يجعلها تقدمية، بل فعل التغيير هو الذي يصنع الفارق.
شهدت تلك الفترة دعوات لتظاهرات ومليونية في ميدان التحرير لخلع الحجاب، قادها الصحفي شريف الشوباشي، مبررًا بأن ظاهرة الحجاب ارتبطت بالإسلام السياسي، ولا بد من حرب ثقافية لمواجهة الفكر الرجعي.
تلك الدعوة، التي يمكن توصيفها بالمتطرفة، قابلها مقالات ودعوات استجداء من المعسكر الآخر، ترجو الفتيات المحجبات التمسك بعفتهن وطهارتهن وعدم الانسياق وراء محاولات «هدم الإسلام وتشويه صورته».
بالطبع، وكما لنا أن نتوقع، غالبية الدعوات والجدل خرج من ذكور لا تمسهن مسألة ارتداء الحجاب من عدمه، لكن ذكور المعسكرين، وجدوا أنفسهم الأجدر بالحديث نيابةً عن المرأة «التابع» بالنسبة إلى الإسلاميين والليبراليين على حد سواء.
الباحثة في قضايا النساء، منى عزت، تؤكد أن ثورة يناير لم تغير في ثقافة المجتمع، لكنها فتحت طاقة نور بفضل الفعل الثوري الجماعي. فالخطاب الذي كان يحمله الميدان كان مدنيًّا جامعًا، جعل كل من عانى من أشكال الاستغلال والاضطهاد والتمييز يناضل في محيطه.
توضح منى أن «البنت في هذا المجتمع تعاني دومًا من التمييز، سواء في فرض حجاب أو العمل أو الملابس، وصولًا إلى التحرش وغيره. عرفتُ بنات كانت تعلق لافتات في البيت بعد الثورة، كي تناضل من أجل حقها في محيط أسرتها، كل ذلك من أجل أن تختار بنفسها ما تريد»، مؤكدة أن الإجبار على أي فعل، حتى وإن كان في ظاهره تحرر للمرأة، فعل سلطوي يمارَس على من يراه المجتمع حلقة أضعف: «ما زلنا نحتاج إلى إخراج جسد المرأة وأوضاعها من التحكمات السلطوية والدعايات السياسية».