قد نكون طرفًا في علاقة عاطفية يملؤها الشغف والحب، ثم تنتهي التجربة التي جمعتنا مع من اعتقدنا لفترة أن الحياة دونهم مستحيلة، وربما تفعل الحياة ما تفعله فنلتقي مرة أخرى، صدفةً أو اتفاقًا، ونحاول استرجاع ما فات.
رغم الألم الذي يرافق تجربة الفراق، والضرر النفسي الذي نتكبَّده في فترة قد تمتد شهورًا طويلة، فإن رؤية حبيب سابق تعيد إلينا أحاسيس ظلَّت محفورة في أدمغتنا، حسب ما ذكره مقال على موقع «Discover»، حاول استكشاف كيفية تجاوب الدماغ مع هذه التجربة.
لماذا لا ننسى من أحببناهم؟
تصير تفاصيل الحب الأول مهمة لتحديد صفات شريك الحياة في المراحل اللاحقة.
يشير علماء الأعصاب إلى أن الدماغ يحتوي على دوائر عصبية تجمع ملايين الخلايا في روابط ومسارات تزداد قوة وتأثيرًا حسب شدة التجارب التي نمر بها وأهميتها.
عند الدخول في علاقة حب عنيفة مثلًا، تنشط مسارات بعينها في الدماغ، ويؤدي تنشيطها المتكرر إلى تعاظم تأثيرها. وحتى مجرد استرجاع الذكريات السعيدة التي قضيناها معًا مرة بعد أخرى، رغم علمنا أنها انقضت دون عودة، يؤدي إلى تنشيط تلك المسارات في دماغنا مجددًا، وزيادة حدتها كذلك. يعني هذا أن أثر تلك المسارات يستمر حتى إن ارتبطنا بشخص آخر، حسب قول عالمة الأنثروبولوجي والخبيرة في بيولوجيا الحب، «هيلين فيشر».
ما يزيد الأمر صعوبةً أن تلك التجربة، خصوصًا إن كانت تجربة الحب الأولى، تعيد تشكيل مفاهيمنا عن الحب والعلاقات العاطفية، فـيصبح الحبيب السابق نموذجًا نبني عليه تصوراتنا عمَّن سنرتبط به فيما بعد.
وعلى إثر هذا، تصير تفاصيل من قبيل الحديث المُطوَّل على الهاتف، أو الخروج في موعد رومانسي، أو الوصول إلى النشوة الجنسية للمرة الأولى والاستلقاء بعدها وتبادل النظرات، معطيات ذات أهمية قصوى في تحديد صفات شريك الحياة في المراحل اللاحقة من حياتنا، حسب قول أستاذ علم النفس والأعصاب «جيم فوس».
اقرأ أيضًا: لماذا يصعب على جيل الألفية العثور على شريك الحياة؟
كيمياء الحب
يدمن الدماغ هرمونات الحب والسعادة، ويفتش باستمرار عن شعور مماثل للحب الذي عشناه.
يعتقد كثير من الناس أن الحب لا يخضع للقياس والتجربة مثل الظواهر المادية الأخرى، لصعوبة الإحاطة بما يجري داخل نفس المُحِب، وهذا الرأي المتداوَل بكثرة يتعامل مع الحب كما لو كان ظاهرة باطنية لا دخل للجسد فيها، لكن علماء الأعصاب لا يشتركون في هذه النظرة، فـالحب عندهم كغيره من الظواهر البشرية الأخرى، يحدث في حيِّز الجسد، ويمكن قياس ما يجري داخل الجسم خلاله.
قد يهمك أيضًا: ما لا يستطيع العلم كشفه عن مشاعرنا
وجدت دراسة نُشرت في مجلة «علم الأعصاب الفسيولوجي» أن مشاعر الحب والرومانسية تؤدي إلى إفراز «هرمون السعادة» (الدوبامين) في الدماغ، الذي يجعلنا نرغب في تكرار التجارب الممتعة التي نشعر فيها بلذة كبيرة، إضافةً إلى مواد أخرى مثل الأوكسيتوسين، المعروف كذلك بـ«هرمون الحب»، والذي يلعب دورًا أساسيًّا في بناء الرابطة العاطفية بين الأم وطفلها، وتؤدي هذه الإفرازات إلى خلق وتثبيت إحساس القُرب والنشوة الذي نستشعره في تلك اللحظات الرومانسية.
يوضح الطبيب النفسي «لاري يونغ» أن إفراز هرمون الأوكسيتوسين يؤدي إلى زيادة حِدَّة الإشارات البصرية والروائح والأصوات التي تصاحب الشعور بالحب، ويُسهِم مع الدوبامين والمواد المخدرة الطبيعية التي ينتجها الجسم في حفر السمات البارزة للحبيب في الدماغ وربطها باللذة، بصورة تدفع المخ إلى البحث باستمرار عن تكرار الشعور نفسه، وهو تأثير مماثل للإدمان.
اقرأ أيضًا: الرومانسية الحالمة قد تفسد صحتك
إدمان العلاقات القديمة
62% من المشاركين في دراسة دخلوا علاقة مع شركائهم السابقين خارج إطار الزواج الحالي.
ما يحدث عند لقاء حبيب سابق هو أن الدماغ يستعيد تلك التجربة التي انطبعت عليه سابقًا، حتى لو كان الفراق منذ سنوات، فيُعاد تنشيط الدوائر العصبية نفسها، وتُفرز هرمونات الأوكسيتوسين والدوبامين كما في السابق، كأن شيئًا لم يتغير وكأننا ما زلنا طرفًا في العلاقة.
يشير عالم البيولوجيا التطورية «جاستين غارسيا» إلى أن رد الفعل هذا ليس مفاجئًا، ويقول إننا ننجذب إلى شركائنا السابقين كمدمني كحول متلهِّفين إلى كأس خمر بعد سنوات من الإقلاع عن الشُّرب، لكنه يضيف أن هذا «لا يعني أننا نعاني من خطبٍ ما، أو أننا نريد أن نعيد إحياء العلاقة مرة أخرى، فكل ما في الأمر هو أن هناك روابط فسيولوجية معقدة تنشط أثناء العلاقات الرومانسية، وربما يستمر تأثيرها علينا لبقية حياتنا».
هذه المشاعر التي تطفو على السطح طبيعية ومفهومة إذا وضعنا في الاعتبار كيفية عمل الدماغ، لكن تتبع أخبار شريكنا السابق على مواقع التواصل الاجتماعي ليس الخيار الأنسب، خصوصًا إن كُنَّا طرفًا في علاقة جدية مع شخص جديد.
هذا بالضبط ما أشارت إليه دراسة أجرتها أستاذة علم النفس «نانسي كاليش»، وانتهى الأمر بنسبة 62% من الأزواج المشاركين فيها إلى دخول علاقة مع شركائهم السابقين خارج إطار زواجهم الحالي، مع أن هذه الفكرة لم تدُر في خلدهم خلال التواصل في البداية.
لذلك، بدلًا من الغرق في حنين إلى الماضي، أو محاولة إحياء علاقة قديمة، وهو ما قد نندم عليه لاحقًا، من الأفضل تذكُّر الدور الذي يلعبه الدماغ في هذه العملية، فميلنا إلى استدعاء الذكريات السعيدة فقط يحجب عنا واقع التجربة الفعلي وما تخللها من أحداث قاسية.
قد يعجبك أيضًا: لماذا نقع في الحب؟ لماذا تكون خيبة الأمل ضرورية للشعور بالارتياح؟
إذا استرجعنا مسار التجربة بأكملها، مع ما حملته من لحظات سعادة وخيبات أمل، ونظرنا إليها كخطوة كانت ضرورية في مسار تطورنا العاطفي والنفسي، ربما يساعدنا هذا على أخذ موقف مغاير تجاهها، إذ شاركت تلك التجارب كلها في تشكيل الشخص الذي أصبحناه اليوم، وصقلت هويتنا وصولًا إلى هذه النقطة، ولا يمكن أن نستغني عنها مهما أردنا.