«كَسَر المجنون مرايته، لمّا ملقاش صورته فيها
قام خبطها بكعب حظُّه، اللي صَدّى سنين طويلة»
صوت جديد وغريب، أسهل وصف للشاعر المصري رامي يحيى، الذي كانت بدايته في كتابة الأغاني مع بداية رحلة موسيقى الأندرغراوند في مصر، وبداية تكوين فرق غنائية تكسر حدة الصوت الواحد، وتوازي الحركة التجارية.
رامي ابن الهامش، كما عبّر عن نفسه في قصائده «نوبيًّا وزملكاويًّا وشيوعيًّا و.. إسود»، أو كما قال أيضًا «أنا جعااان/ على رأي عم نِجم (أحمد فؤاد نجم) فِيّا/ «جعان جوع تاريخي»/ كلمة صَحِّت فِيّا كل لحظات الوجع»، لا يمتلك من الحياة إلا حب الحرية والشعر.
تربى يحيى في منطقة باب الشعرية الشعبية في القاهرة، وعمل في عدة وظائف منذ طفولته، حتى أصبح من أهم شعراء العامية وقصيدة النثر في مصر. «صبي ورشة عند جزمجي في العتبة، شاعر ينفع يُحتَرم من ناس بتفهم، مِسِير الناس تصدق لما أبقى شاعر عظيم».
رامي يحيى: الغاضب دومًا
كل هذا الغضب الكامن داخله، ورفضه للمجتمع وعاداته وتقاليده، ورفض المجتمع له كذلك، لِما يحمل من أفكار وحرية، فالشعر كان المكان الذي انفجر فيه غضب رامي، وهو وسيلة تعبيره عن هذا الغضب والرفض والحرية والثورة.
رامي ابن الثورة بكل ما تحمل من معاني ودلائل، القريب منها والبعيد، المباشر وغير المباشر. الثورة على المجتمع هي أكثر شيء واضح في أعمال رامي عامةً، لكن وسط كل هذا الغضب والصراخ والثورة في قصائده، تحمل أغانيه حنانًا مستترًا.
من أين يأتي رامي بكل هذا الحِنِّية؟ وكيف يستحضره وسط الغضب والثورة الداخلية في ذاته والخارجية في الشارع المصري؟
رحلة رامي يحيى مع الأغنية
يغضب رامي ويعلن رفضه للحب بشكل ثوري: «اصحى يا ولهان كفاية نوم فِ ضِلّ السّيْسَبان، الإله كيوبيد بحالُه اختفت منّه السهام».
عدة تجارب خاضها رامي مع فرق الأندرغراوند في بداية الألفينات، لكن تبقى تجربة «بلاك تيما» التجربة الأكثر ثراءً له في كتابة الأغنية، لاستمرارية الفرقة ووجود تسجيلات للأغاني التي كتبها، حتى لو كانت بجودة ضعيفة.
«حلمك يا صاحبي مش جنان
نفسك تنام ملو الجفون
بس الحياة مفيهاش أمان
ودُنيتك ملهاش جفون»
رامي يُعَبر عن الحب من وجهة نظره، يرى الحب بكل بساطة في أغنية لمريم صالح لم أعثر لها على تسجيل على الإنترنت، يقول: «مش مهم إني مفلس، عندي أَهُه الكورنيش جميل، فِ الميعاد ألقاها واقفة، سالفة طقم من وفاء، شحاتين من كل حتة، كل واحد لُه أداء، بعد بياع البليلة، بتاع جيلاتي وعرق سوس، تضحك البنت الحزينة».
يمكنك أن ترى البساطة أحد مفردات الحنان في تلك الكلمات، بدايةً من الاعتراف بالفقر والشحاتة (التسوُّل)، ونهايةً بأن الأمل في ضحك الحبيبة الحزينة.
عندما يغضب رامي ويعلن رفضه للحب، يظهر ذلك في شكل ثوري، هتاف من شخص مجنون في منتصف الشارع ليلًا، «اصحى يا ولهان كفاية نوم فِ ضِلّ السّيْسَبان، الإله كيوبيد بحالُه اختفت منّه السهام».
في وسط غضب يحيى من المجتمع وسياسات الدولة، وتعبيره عن كل ذلك في دواوين وقصائد، تحمل عناوين مثل «صعلوك» و«الغريب» و«المواطن.. إسود»، كان يرى أن الحلم قادم: «اعشق بكره بعِلْو الصوت، عُمر الحلم ما يهاب الموت، نَوّر ضحكة بنورها تفوت، لو ما قادتش اوعاك تستنى».
أغنية سياسية أوسع من السياسة
رامي يحيى ليس شاعرًا غنائيًّا يبحث عن الشهرة، بل شخص عنده أفكار وآراء يريد إعلانها للجميع.
كتب رامي أغانٍ سياسية مثل «مربعات ثورية»، لكنها لم تُسَجّل، وأغنية فيروز كراوية «أحضان الشوارع»، لكن له شكل آخر من الثورة والتعبير عنها، الثورة بمعناها الأكثر شمولية، أغنية «حُر»، التي يقول فيها «حُر في استايلات هدومي، وِفْ ديانتي ووقت نومي، من ملامحي أزهق أَمِلّ، أصلي حُر، حُر إني أعيش طفولتي، حٌر إني أكره حكومتي، إني أعيش في الدنيا أفِنّ».
كلمات بسيطة ومباشرة، يعلن فيها يحيى دستوره الخاص، من اختيار الديانة والملابس وحتى كُره الحكومة. وفي الأغنية جملة «أختار نوع وليفي»، يقرر فيها رامي تضامنه مع المثليين في دستوره الخاص. ورغم موافقة «بلاك تيما» على أداء الأغنية بكلماتها كما هي، تراجعت الفرقة عن دعم المثليين، واكتفت بإخراج الأغنية بلغة الإشارة، من باب أن الصم والبكم يدعمهم المجتمع بعكس المثليين.
هذه أهم نقاط الخلاف بين «بلاك تيما» وأحد أهم شعرائها، بسبب تمسك رامي يحيى بدستوره الخاص، ورفضه التام تحريفه أو منع أي شخص من الحرية بموجب العادات والتقاليد، تأكيدًا لأنه ليس شاعرًا غنائيًّا يبحث عن الشهرة، بل شخص عنده أفكار وآراء يريد إعلانها للجميع، والأغنية إحدى وسائل إعلان هذه الأفكار.
قد يهمك أيضًا: ميدو زهير: شاعر الثورة من قبل حدوثها
الشعر والأغنية
لو بحثنا في ما كتبه عن أغنية تجمع كل أفكاره السابقة، ستكون «زحمة المترو» بالطبع.
لدى رامي وسيلتان للتعبير عن ما بداخله:
- الكتابة الشعرية النثرية: تحمل أفكارًا غاضبة ونظرة فيها كثير من المرار والغضب
- الأغاني: تتميز بالبساطة والخفة والوضوح، وأيضًا الكثير من الحلم والأمل
يشير رامي إلى هذه الإشكالية في إحدى قصائده:
«اللي بيتثقف بودانه ماينفعش تقفله
ده زي الطفل، تغطي له قُرص الدوا بطبقة مسكّرة
إنما اللي بيقرا ده عادي، ممكن يشرب الدوا المر على الريق
بالعكس ده بيوصل مع الوقت إن ممكن تدي له المادة الفعالة مباشرة».
ما بين المجنون الذي كسر مرايته، ومجنون أغنية «افلت زمام آمالك»، نجد الفارق عندما يخرج يحيى بعيدًا عن الغضب الساكن في داخله، لتجد الحنية الخفية في جملة مثل «مجنون والحب غاية، بَحْلَم من غير نهاية، أمانة يا بحر طبطب، على شمس تكون مراية».
الأغنية المانيفستو
لو بحثنا في ما كتبه عن أغنية تجمع كل أفكاره السابقة، ستكون أغنية بلاك تيما «زحمة المترو» بالطبع.
في البداية كانت الأغنية فكرة في رأس أحمد بحر عضو الفرقة، وكتب رامي الفكرة بطريقته وأفكاره ولونه، في وسط كل العاطفة التي هي أساس الأغنية، قصة إعجاب بين شاب وفتاة، لحظة خاطةف ربما لم تستمر أكثر من دقائق، تحدُث يوميًّا في وسط «زحمة المترو». الأغنية تمزج الحنان بالرجاء، في وسط حالة الإعجاب والكلمات البسيطة التي تناول بها رامي الموضوع، وكأنه لم يكتبها بل كان يقولها وهو في المشهد نفسه، «ونظرة عينها خطفتني، لِجُوّا عينيها من لونها».
لم ينس رامي في كل ذلك التعبير عن بلده النوبة وما حدث فيها من تهجير. ومع أغنية عاطفية جاء التعبير بكل حنية: «ملامحها شبه حلمي، ولون الخَدّ لون إيدي، لقيتني كإني بعرفها، وبعشقها كَمَا نِيلي».
المواطن «إسود»، يعبِّر عن لونه ونوبيته، وأيضًا لخّص مشكلة النوبة مع الدولة، أنا نوبي أحب النيل كجزء من نوبيتي ومن الوطن، ولأن مشكلتي ليست مع النيل، أنا جاهز كي أضحي بنفسي من أجل النيل والوطن. لكن مشكلته كانت مع ظلم الدولة، والوعود الفانية التي تُعَوِّدهم عليها الدولة منذ زمن بعيد.
لا ينسى رامي يحيى أنه معارض للدولة وسياستها، فتجده يهاجمها بسخرية لاذعة من بين السطور: «بتجري بسرعة ليه دلوقت، ما تِعْطَل حَبّة كالعادة». كلمة بسيطة «كالعادة»، أضافت إلى الموضوع أبعادًا كثيرة خارج إطار الأغنية العاطفية، وفي الوقت نفسه ستبقى ضمن حالة الأغنية الأساسية: علاقة إعجاب بين اثنين لمدة دقائق، لكن رامي عبّر عنها وعن أغلب هواجسه، كأنه تأكيد لأن حرية الحب جزء من هواجسه السياسية والمجتمعية.