انطلاق الحراك الشعبي المُطالِب بالتغيير الديمقراطي منتصف 2011، كان مرحلة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث. حين وضعت الثورة السورية نقطة رئيسية يستكمل بعدها السوريون حياتهم الطبيعية. إذ توقف كل شيء على إسقاط النظام. فقد خرجت التظاهرات من المدارس والجامعات، وكانت مركزًا رئيسيًّا لانطلاق الحراك السلمي المطالب بإسقاط النظام في سوريا.
بدأت الحناجر تصدح بـ«لا دراسة ولا تدريس.. حتى يسقط الرئيس»، في محاولة من المجتمع السوري للفت الأنظار الدولية والعالمية نحو ثورته. لكن الأمور لم تسر كما توقع كثيرون، وأخفقت الثورة في تحقيق أي تغيير. وبعد شهور من الحراك السلمي الذي واجهه النظام بالقوة، تطورت المظاهرات إلى حراك عسكري، شكَّل بداية الحرب السورية الطويلة، ما نتج عنه انقطاع تام عن التعليم، وتسبب في أزمة تعليم الأطفال.
بدأ الحراك العسكري ضد قوات النظام، تحت شعار حماية المدنيين. لكنه سرعان ما نجح في إخراج مناطق كاملة من تحت سيطرة نظام الأسد، لتقبع تحت سيطرة كتائب معارضة مسلحة.
سيطرة المعارضة على بعض المدن والبلدات جعلها عرضة لقصف النظام بالمدفعية، ثم بالطيران المروحي والحربي بشكل متتالٍ، وكان القصف متركزًا على منازل المدنيين والمدارس والمؤسسات الحكومية.
نتيجة لهذا القصف العنيف، تضررت غالبية المؤسسات التعليمية كباقي المؤسسات الحكومية والرسمية التي كانت تدير شؤون المدن والبلدات في أثناء سيطرة النظام، وخرجت عن الخدمة بشكل كلي أو نسبي، بسبب دمار البنى التحتية بعد استهدافها من النظام بالمدفعية والطيران الحربي، ما جعل عودة التلاميذ إلى المدارس خطرًا في حد ذاته، لأنها أصبحت مركزًا لاستهداف النظام.
في السنوات الأولى للحرب، توقف التعليم في مناطق المعارضة، وأدى القصف إلى إغلاق المدارس بشكل كامل وخروجها عن الخدمة.
القصف المستمر نفسه، أدى إلى تشريد آلاف العائلات والأسر السورية على الحدود التركية، لا سيما عندما عمد النظام إلى استهداف منازل المدنيين. وبخروجهم من مناطقهم أصبحوا خارج أي منظومة للتعليم، ما وضع الجيل الناشئ في خطر الجهل والانتشار الواسع للأمية.
من جانبه، عمد النظام إلى استغلال فترة قبض الرواتب باعتقال عشرات من المعلمين الذين اتُّهِموا بمشاركتهم في الثورة السورية، وذلك عن طريق الحواجز التي كانت منتشرة على مداخل المدن والبلدات، في كل محافظة سورية.
لم يقف النظام عند هذا الحد، بل قطع رواتب المعلمين الذين شاركوا في الحراك السلمي، خصوصًا الذين يقيمون في المناطق التي خرجت عن سيطرته، وذلك بهدف إجبارهم على ترك وظائفهم، ما جعل عددًا من المعلمين يمتهنون أعمالًا أخرى لا علاقة لها بالتعليم.
الحلول البديلة
الحاجة إلى التعليم وإنقاذه في مناطق سيطرة المعارضة، دفع بعض المعلمين إلى اتخاذ الأقبية الواقعة تحت الأبنية السكنية، مراكز تعليمية بسيطة تفتقر لأدنى مقومات التعليم، في خطوة منهم للنهوض بالتعليم بعد سنوات من الانقطاع، بسبب تعرُّض المدارس للقصف، وكذلك منازل المدنيين. وتسبب نزوح آلاف الأسر إلى الحدود، في إجراء محاولة جديدة لإنقاذ التعليم وافتتاح المدارس في الخيام المهترئة وسط غياب شبه تام للخدمات.
استُخدمت المنازل أيضًا مراكز دراسية للأطفال، حيث حاول بعض المعلمين إفراغ محتويات المدارس المتبقية من كتب ممزقة ومقاعد مكسرة، في المنازل لاستخدامها، لا سيما المدارس التي تعرضت للقصف. كانت جميع هذه المدارس أهلية بحتة، ويُدرِّس فيها متطوعون.
لم تكن قلة المدارس العائق الوحيد أمام استمرار التعليم، بل كانت هجرة المعلمين، واعتقال الآلاف منهم من ضمن الأسباب.
مع الوقت حاول عدد من المنظمات دعم التعليم والحد من انتشار الجهل والأمية بين الأطفال السوريين، لكن ذلك جاء بشكل محدود بسبب ضعف الإمكانيات التي تغطي المناطق المحررة. حتى عندما تشكل «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، يوم 11 نوفمبر 2012، لم يبدأ بعمله في الداخل السوري حتى عام 2014.
عمل الائتلاف كان إشرافًا فقط، دون النظر إلى أحوال المدارس التي تعرضت للدمار والقصف، ولم يُبد استعداده لدفع رواتب للمعلمين. وما قدمه من جهود يتمثل في إقامة مراكز لاختبار طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية، في مختلف المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة، وجميعها كانت تطوعية من معلمي المنطقة.
خلال فترة زمنية انبثق عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، «الحكومة السورية المؤقتة» التي تشكلت في 17 مايو 2016، متضمنة ثمانية وزارات، من بينها وزارة التعليم التي قدمت الكتب لعام دراسي واحد في المناطق المحررة، وتعاقدت وزارة التعليم مع منظمات لدعم المعلمين برواتب شهرية على فترة الدوام فقط، أي ثمانية أشهر من العام، وخلال هذه الفترة واجهت المدارس صعوبات كثيرة نتيجة عدم القدرة على استمرار الدوام بسبب القصف المستمر على يد النظام.
قد يهمك أيضًا: ليس كل الإجابات في المدرسة: الجهل كوسيلة للتعليم
قلة الكوادر دفعت لإنشاء معاهد متوسطة لإعداد المدرسين
لم تكن قلة المدارس والموارد المادية العائق الوحيد أمام استمرار التعليم في مناطق المعارضة، فكل ذلك كان مصحوبًا بهجرة مئات المعلمين من البلاد، واعتقال الآلاف منهم، وقتل بعضهم. إذ كان هناك احتياج لتدريب معلمين جدد.
في محاولة جديدة لتسيير التعليم، اجتمع عدد من الأساتذة والخرجين في ريف حلب الشمالي، لإنشاء معاهد متوسطة تنقذ العملية التعليمية، وأُقِر إنشاء المعهد عن طريق وزارة التعليم العالي التابعة للحكومة السورية المؤقتة، مقدِمة اعترافها الرسمي بشهادة المعاهد المتوسطة.
كانت المعاهد المتوسطة لإعداد المدرسين التي أنشئت في العام الدراسي 2014 - 2015، مركز استقطاب لمئات الطلاب المنقطعين عن الدراسة، في الجامعات سابقًا، وأيضًا لطلاب جدد حاصلين على الشهادة الثانوية العامة من الائتلاف. احتوت هذه المعاهد على عدد من الأقسام، أهمها معلم الصف واللغة العربية واللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم، وذلك لسد الثغرات في المدارس التي افتُتحت في مختلف المواقع.
قليل من الأمن ينقذ التعليم
بتطور ظروف الحرب، حصلت المناطق المحررة على قليل من الأمن نتيجة بعض الاتفاقات التي ضمت بنود خفض التصعيد، ما جعل إنشاء الجامعة هدفًا للحكومة المؤقتة، وذلك بعد كثير من التحديات التي واجهتها المناطق المحررة، حيث كانت جامعة حلب أبرز المؤسسات التعليمية، ونظرًا لتشتت السكان في المناطق المحررة، توزعت عدة فروع للجامعة في جميع المناطق.
إضافة إلى ذلك، افتتحت وزارة التعليم العالي في الحكومة السورية المؤقتة، جامعة إدلب بعد سيطرة المعارضة المسلحة عليها، حتى جاءت وزارة التعليم في حكومة الإنقاذ التابعة لـ«هيئة تحرير الشام»، «جبهة النصرة» سابقًا، لتفرض سلطتها عليها، وتدير شؤونها. وأغلقت حكومة الإنقاذ عددًا من فروع جامعة حلب في ريف إدلب، لتفرض سيطرتها على جميع المناحي التعليمية في المنطقة.
بعض المناطق كان حظها أفضل من ناحية التعليم. فريف حلب الشمالي والشرقي الذي شهد معركتي درع الفرات وغصن الزيتون، وبعد سيطرة قوات المعارضة المسلحة عليها بدعم تركي، أقدمت وزارة التربية التركية على إعادة ترميم المدارس التي خرجت عن الخدمة خلال السنوات السابقة، وقدمت التربية التركية، بالتعاون مع المجالس المحلية في كل منطقة من درع الفرات، رواتب شهرية للمعلمين بعدما أخضعتهم لدورة تأهيلية لمدة 10 أيام.
لعل أمان المنطقة جعلها تستقطب أعدادًا هائلة من المدنيين نتيجة التهجير الذي تعرضت له المناطق في ريف حمص وريف دمشق ودرعا، وأصبحت المنطقة وجهة السكان نظرًا للأمن النسبي الذي تعيشه منذ أكثر من عام. وكذلك منطقة عفرين التي تحررت بعملية «غصن الزيتون» مطلع 2018.
خلال عام مضى، نال التعليم في مناطق درع الفرات حظًّا وافرًا من التميز، نتيجة الخدمات التعليمية المقدَّمة من التربية التركية، عبر المجالس المحلية ومكاتبها التربوية في المنطقة.
الجدير بالذكر أن مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون» نالت اهتمامًا ملحوظًا، وكان لها كثير من الامتيازات التي قدمتها الحكومة التركية، ومنها الاعتراف بشهادة الثانوية العامة، ويمكن لحامل الشهادة الدخول في كل الجامعات التركية.
وافتتحت التربية التركية جامعات تابعة للجامعات التركية، ومنها فرع جامعة غازي عينتاب في مدينة جرابلس الواقعة في ريف حلب الشمالي الشرقي، وجامعة حران في مدينة الباب في ريف حلب الشرقي. وافتتحت تركيا جامعة في مدينة عفرين، حاصلة على اعتراف تركي بها.
مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون» من أفضل المواقع التي عاد إليها التعليم، نتيجة الأمن النسبي والخدمات التي تقدمها التربية التركية للمكاتب التربوية. لذلك، ضعُف انتشار الأمية بين الأطفال والطلاب في هذه المناطق، بينما يواجه آلاف الأطفال السوريين في إدلب وما حولها، مصيرًا مجهولًا، لا سيما أن توقُّف المدارس وعدم وجود مناهج دراسية، من أهم أسباب انتشار الأمية في المنطقة.
يواجه آلاف الطلبة السوريين في إدلب وحماة الشمالي وريف حلب الغربي والشمالي واللاذقية الشمالي، مستقبلًا مجهولًا نتيجة عدم وجود جهة رسمية تُشرف على التعليم، إضافة إلى أن ملف إدلب الذي وُضِع على الطاولة مؤخرًا، كان له تأثير سلبي جدًّا، والعمليات العسكرية في المنطقة وضعت الأطفال في مرحلة صعبة من طفولتهم، لأنهم بحاجة إلى التعليم، لا العنف.