الجمعيات التعاونية: حتى لا يفوز رأس المال مجددًا

 جمعية تعاونية في الكويت - الصورة: Ahmad AbdulMajeed Alhamood

شيخة البهاويد
نشر في 2018/04/03

حين كنت في المدرسة الابتدائية، حَيَّتنا المعلمة في اليوم الدراسي الأول وأبلغتنا بأن بإمكاننا الإسهام في «المَقصَف» (متجر بيع الأغذية في المدرسة). لم أفهم معنى أن نُسهِم في المقصف إلا في اليوم الدراسي الأخير، حين وزعت المعلمة أظرفًا على الطالبات المساهمات فيها أرباح المقصف. كان الموضوع محيرًا بالنسبة إلى طفلة. إذًا، نحن نتشارك في دعم المقصف، ونستفيد من منتجاته، ثم تعود إلينا أرباحه، هذا رائع.

لطالما كانت فكرة التشاركية مثيرة بالنسبة إليَّ، وبابًا يفتح الأسئلة حول العمل التعاوني، لذا بحثت في الموضوع أكثر.

الفكر التعاوني: البداية

جمعية الجابرية التعاونية في الكويت

في رد فعل على قسوة الرأسمالية وسحقها للطبقات العاملة والفلاحين، جاء «روبرت أوين» عام 1843 ليطلق من بلدة روتشديل البريطانية أول جمعية تعاونية في العالم، حين أنشأ متجرًا للسلع الاستهلاكية جمع رأس ماله من العمال سنتًا سنتًا حتى وصل إلى 26 جنيهًا إسترلينيًّا.

انتشر بعدها الفكر التعاوني في بريطانيا وتطور، ما دفع «فريدريك رايفايزن»، رئيس بلدية مجموعة قرى ألمانية، ليحذو نفس الحذو، ويؤسس أول جمعية تعاونية للتسليف والتوفير في ألمانيا. بعدها انتشرت الجمعيات التعاونية في أوروبا كافة، ثم باقي العالم.

تتأسس هذه الجمعيات بناء على مبادئ العضوية الاختيارية المفتوحة، والإدارة الذاتية الديمقراطية للتعاونيات عن طريق انتخابات عادلة ونزيهة ينتخب فيها الأعضاء ممثليهم في الإدارة، وإسهام الأعضاء في رأس مال تعاونيتهم على شكل أسهم، «فيتلقى الأعضاء تعويضًا عن رأس المال، ويمكن تخصيص الفائض لتطوير التعاونية ودعم الأنشطة الأخرى التي يوافق عليها الأعضاء، ويوزَّع الباقي على الأعضاء بنسبة تعاملهم مع التعاونية»، وهو ما يسمى «الأرباح».

تتأسس الجمعيات على الاهتمام بالتعليم والتدريب والتوعية وتنمية المجتمع، ما يعود بالنفع الاجتماعي والاقتصادي على الأعضاء. ولا يتوقف عمل الجمعيات على التجارة، بل تدخل في العمل الاجتماعي أيضًا، إذ توفر للمسهمين كثيرًا من النشاطات والخدمات بأسعار رمزية.

قد يهمك أيضًا: حياتنا تتغير لو توقفنا عن التسوُّق

أشكال ونماذج الجمعيات التعاونية

توفر التعاونيات 100 مليون فرصة عمل في العالم، وتتجاوز عائداتها في السنوات الأخيرة تريليون يورو.

أعلنت الأمم المتحدة 2012 سنةً دوليةً للتعاونيات بهدف تعزيز العمل التعاوني، لما له من أهمية في تحريك الاقتصاد الوطني. ويقول «هانز بيتر إيغلِر»، الذي يعمل في شعبة التعاون والتنمية الاقتصادية بوزارة الاقتصاد السويسرية، إنه «في كثير من الأحيان لا يمتلك الأفراد وسيلة لإسماع أصواتهم، بينما تلعب التعاونيات دورًا مهمًّا في إسماع صوت صغار المنتجين، وتمكينهم من حماية أنفسهم ضد منافسة الشركات متعددة الجنسيات».

في أوروبا، تمكنت التعاونيات من التغلُّب على الأزمة الاقتصادية لعامي 2008-2009 «بجدارة فاقت نظيراتها من المؤسسات المالية»، بحسب «إيمانويل كامديم»، الخبير لدى منظمة العمل الدولية. ويعود السبب إلى أن الأعضاء المساهمين في التعاونيات هم في نفس الوقت عملاء ومُلَّاك، لذلك يمارسون رقابة أفضل، ناهيك بحق الجميع في التصويت، بغض النظر عن حصة الفرد منهم في رأس المال، وهو ما يقويهم ويعطيهم فرصة مناورة أكبر».

وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة، تضم التعاونيات في العالم أكثر من مليار عضو مساهم، وتوفِّر نحو مئة مليون فرصة عمل، وتجاوزت عائداتها في السنوات الأخيرة تريليون يورو، ووفرت سبل المعيشة لنحو ثلاثة مليارات نسمة في شتى أنحاء العالم».

أما في سويسرا، فيزيد تعداد الجمعيات التعاونية على 9600، من بينها نحو 500 تعاونية تجاوز حجم مبيعاتها مليار فرنك سويسري. ومن أشهر التعاونيات وأكبرها حجمًا هناك «ميغرو» و«كوب»، عملاقي التجزئة وبيع المواد الاستهلاكية في البلاد، وبنك «رايفايزن»، والمؤسسة السويسرية للسفريات «ريكا»، ومؤسسة «سويسلوس» الخيرية لليانصيب، وتعاونية النقل «كار شيرنغ موبيليتي».

وفي مقاطعة إيميليا رومانا الإيطالية، تُسهم التعاونيات بـ9% من الناتج إيطاليا المحلي و12% من صادراتها، وهي مسؤولة عن 30% من براءات الاختراع هناك. وفي حين تمثل البطالة مشكلة متنامية في إيطاليا وأوروبا بصفة عامة، فتبلغ نسبتها أكثر من 8%، فإن إيميليا رومانا تفخر بأن نسبة البطالة فيها لا تزيد على 3% فقط.

وفي المنطقة العربية، تُعد الجمعيات التعاونية في الكويت نموذجًا ناجحًا يُحتذى، وصارت التعاونيات أشبه بمجمع تجاري متكامل يُدِرُّ أرباحه على الجميع.

أول الأشكال الجمعيات في الكويت خرجت من المدرسة المباركية عام 1941، وهي أول مدرسة نظامية في البلاد. انتشرت بعدها التعاونيات بشكل مصغر في المدارس، ثم اتجهت بعض الدوائر الحكومية إلى إنشاء جمعيات لمنتسبيها، حتى أُنشئت أول جمعية تعاونية استهلاكية في الكويت في منطقة كيفان عام 1962 بعد الاستقلال.

واليوم، توجد جمعية تعاونية في كل منطقة سكنية، توفر للمقيمين فيها السلع الاستهلاكية والصيدلية وسوق الجملة ومستلزمات العائلة والتموين، وتنظم الرحلات وأنشطة التعليم والتدريب، وكذلك تدعم المتفوقين من أبناء المنطقة. وتنافس الجمعية بخدماتها جمعيات المناطق الأخرى، لجذب المستهلكين وخلق أرباح أكبر للمُسهمين، الذين هم سكان المنطقة أصلًا، وتوفر أكشاكًا للشباب أصحاب المشاريع الصغيرة.

انتقلت فكرة التعاونيات من الكويت إلى الإمارات، ومن هناك غزت بلدانًا أخرى مثل السعودية وليبيا.

كان للجمعيات التعاونية موقف استثنائي خلال غزو العراق للكويت عام 1990، إذ فتحت مخازنها للكويتيين الصامدين، وعملت على توزيع احتياجاتهم.

انتقلت الفكرة إلى الإمارات العربية المتحدة، وكانت جمعية الشارقة التعاونية التي أنشئت عام 1977 من أوائل الجمعيات في الاتحاد، وانتقلت كذلك إلى السعودية وليبيا.

«عابدة»، فتاة من أبو ظبي في العقد الرابع من عمرها، تعول نفسها، ترى أن «السلع في التعاونيات عظيمة، أرخص بكثير من أي مكان آخر، وتتوفر فيها السلع المدعومة من الحكومة والتموين والسلال الرمضانية، تباع بالجملة بسعر أرخص من بيعها كلًّا على حدة. المشكلة أن خيارات السلع في التعاونيات محدودة، على عكس متاجر البيع مثل سبار وكارفور، ما دفع الحكومة إلى التعاقد مع هذه المتاجر لتوزيع التموين».

توضح عابدة لـ«منشور» أن «علاقتنا بالتعاونيات في أبو ظبي تختلف عن بقية الإمارات، ربما لأن المستوى المعيشي عندنا أفضل بكثير، فالإمارات الأخرى تهتم بالعمل التعاوني أكثر بسبب انخفاض المستوى المعيشي».

الجانب الأكثر خطورة لدعم نمو التعاونيات، بحسب عابدة، هو توفير خدمات مالية تتوافق مع نمط عملها، وفي التجربة الإيطالية وغيرها من التجارب الناجحة يعتمد هذا على السماح للتعاونيات بإنشاء مؤسساتها المالية الخاصة بها، أو ما يسمى «الاتحادات الائتمانية»، فالتعاونيات بحكم طبيعة تكوينها والقوانين المنظمة لها لا يمكنها الاعتماد على البنوك التجارية للحصول على التمويل وخدمات الإقراض والائتمان. لذلك تحتاج إلى تجميع عائداتها في اتحاداتها الخاصة، التي تستخدم هذه العائدات لتوفير التمويل للتعاونيات الجديدة والتوسع في القائمة، وفي إقراض التعاونيات لأغراض التحديث أو الإنفاق على مشروعاتها، وفي خدمات الائتمان اللازمة للمنافسة على العطاءات والمناقصات.

ليست الجمعيات الاستهلاكية الشكل الوحيد للتعاونيات، فهناك «التعاونيات المهنية»، وهي نوع من تعاونيات المنتجين التي تسعى إلى توفير ظروف عمل،  وكذا توفير السلع والخدمات اللازمة لأداء مهنة أو حرفة ما بأسعار وشروط عادلة ومناسبة لأفراد المهنة الواحدة، بقصد إشباع حاجاتهم المهنية أو الحرفية، ومن أمثلتها التعاونيات الزراعية أو تعاونيات المزارعين».

أيضًا هناك التعاونيات الإنتاجية، وهي التي يكون نشاطها الرئيسي ذا طبيعة إنتاجية، إذ يؤسسها المنتجون لسلعة ما، وبرؤوس أموالهم التي يجمعونها من مواردهم الذاتية، ليوظفوها في إنشاء مشروع اقتصادي إنتاجي تعاوني لحسابهم وباسم تعاونيتهم، على أن يحصل كل واحد منهم على نصيبه من الفائض الاقتصادي الناتج عن تسويق السلعة التي أنتجوها.

اقرأ أيضًا: كيف تولِّد الأزمات الاقتصادية حلولًا مجتمعية مبتكرة؟

هيا نقتل العمل التعاوني

جمعية الجابرية التعاونية في الكويت - الصورة: Ahmad AbdulMajeed Alhamood

يسعى كبار التجار لتصفية التعاونيات بهدف إطلاق أيدي الرأسماليين بعيدًا عن أي ضوابط.

«لا أشارك أنا وعائلتي بأسهم في تعاونية إمارة أبو ظبي، ليس لسبب معين سوى أننا لا نهتم». هذا ما تقوله عابدة، وما يدعمه ماجد حمد الشامسي، رئيس الاتحاد التعاوني الاستهلاكي في الإمارات، إذ يقول: «في إيطاليا، نجد أن من 70% إلى 80% من المتسوقين في الجمعيات التعاونية أعضاء فيها. أما الإمارات فلا تزيد النسبة عن 40%، أي أن المزايا الاقتصادية التي يتمتع بها أعضاء التعاونية يذهب جزء منها إلى غير الأعضاء».

يؤكد هذا «إيمانويل كامديم»، خبير التعاونيات في منظمة العمل الدولية، الذي يذكر أن «التعاونيات الكبيرة تميل إلى التغافل عن دورها ومهمتها بشأن توعية وتأهيل المُسهمين، الذين يجهلون في الغالب حقوقهم وواجباتهم، ولا بد لهذه الهوَّة من أن تنحسر».

هذا واحد هذا من مثالب عديدة في العمل التعاوني، ومثله أيضًا الفساد الإداري. مثال ذلك ما حدث في الكويت عام 2004، إذ حلت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مجالس إدارات 17 جمعية تعاونية بسبب الفساد الإداري والمالي، وهو رقم ضخم لبلد صغير عدد الجمعيات التعاونية فيه يقارب 43. هذا الفساد يدخل في عمليات شراء البضائع والتلاعب بالحسابات لتغطية العجز المالي وغيره.

لكن العمل التعاوني يواجه ما هو أشد وطأةً من كل هذا، وهو بيعه للقطاع الخاص، أو ما يسمى «الخصخصة». ففي الكويت، أعلنت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، هند الصبيح، أن الخطة التنموية الجديدة تتضمن تخصيص الجمعيات التعاونية وفتح الباب للقطاع الخاص والمستثمر الأجنبي لدخول المجال.

ورغم تأكيد الحكومة الكويتية عدم مساس الخصخصة بأموال المُسهمين، وأن هذا تطوير للعمل في التعاونيات والرقابة المالية والإدارية، عارض التعاونيون هذه الخطوة لِما لها من تبعات سلبية، إذ يرون أن القطاع الخاص والشركات همها الأول الربح، على حساب الدور الاجتماعي المهم الذي تلعبه الجمعيات التعاونية.

ترى الحركة التقدمية الكويتية، وهي تيار سياسي ذو توجه يساري، أن هذه الخطوة ليست سوى «تنفيع» لأصحاب البنوك وكبار التجار، وأن «كبار التجار والرأسماليين يسعون جاهدين منذ سنوات إلى تصفية القطاع التعاوني، الذي يبلغ نصيبه أكثر من 70% من تجارة التجزئة ويُسهم في التخفيف على المستهلكين من غلاء الأسعار، بهدف إطلاق أيدي التجار والرأسماليين بعيدًا عن أي ضوابط، في السيطرة الكاملة على تجارة التجزئة والتحكم أكثر في أسعار السلع، ما سيُلحق أفدح الضرر بالطبقات الشعبية متدنية الدخل، وبالمستهلكين عمومًا».

العمل التعاوني فكرة فريدة، نافعة، تخلق حركة اقتصادية ممتازة، وظهرت كرد فعل على طحن الرأسمالية للطبقات ذات الدخل المتدني، وواجب على المنتفعين منها والمستهلكين والدولة حمايتها من عدوها الأول الذي خرجت لمحاربته، حتى لا يفوز رأس المال من جديد.

مواضيع مشابهة