«نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله». هذه العبارة كانت رد عمر بن الخطاب على من اقترح عليه أن يغير لباسه وهيأته عند وصوله إلى القدس ليظهر بشكل أكثر أُبَّهةً وجلالًا.
كان هذا رأيًا شخصيًّا لعمر وليس قاعدة كونية أو سُنَّة إلهية تجري على العرب، فلو كانت كذلك لما انتصر أيٌّ من القادة أو الخلفاء الذين يرتدون الأزياء الفخمة والمبهرجة ويفضلون الأُبَّهة على الزهد ويستمتعون باللهو كغيرهم من البشر، ولو كانت قاعدةً خاصة تجري على العرب لما انتصروا في وثنيتهم على الإمبراطورية الفارسية في معركة «ذي قار»، بسبب اتحاد عدد من القبائل العربية.
مَن قال بتعارض اللهو مع بناء الحضارة؟
كان أحد أهم أسباب انتصار العرب في «ذي قار» هو اتحاد عدة قبائل عربية معًا.
سبب اعتقاد البعض أن تلك المقولة قاعدة سياسية اجتماعية أو سُنَّة إلهية هو الخلط بين حدثين مهمين في تاريخ العرب: الأول حدث ذو بعد ثقافي، وهو ظهور دين جديد (الإسلام)، بما فيه من حَثٍّ على الزهد والجدية، والثاني حدث ذو أبعاد سياسية وعسكرية، وهو تبلور «الإمبراطورية» العربية ابتداءً من عهد عمر بن الخطاب.
يكمن دور الإسلام، كحدث مركزي في قيام حضارة العرب وإمبراطوريتهم، في توحيده قبائل عربية عدة تحت قيادة واحدة وهدف واحد، وخلق هوية جديدة تجمعهم، لا في خلق مجتمع زاهد مبتعد عن الترفيه.
وكما كان أحد أهم أسباب انتصار العرب في «ذي قار» هو اتحاد عدة قبائل عربية معًا، كان هذا سبب قيام إمبراطورية العرب وتوسعها، إلى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متعددة، مثل الصراعات الداخلية في الإمبراطورية الفارسية، والنزعة الانفصالية لدى سكان أقاليم الإمبراطورية البيزنطية، والذكاء السياسي والعسكري لبعض القادة العرب، والوفرة الاقتصادية التي نتجت عن توسُّع الدولة.
هل حقًا يمنع الترفُ التقدم؟
يخبرنا تاريخنا عن الكثير من الخلفاء والسلاطين الذين أسهموا في توسع رقعة الإمبراطورية العربية وتطوُّر حضارتها، وفي نفس الوقت عُرفوا بحب الترف واستخدام وسائل ترفيه متعددة، ويشهد على ذلك ما ترويه كتب التاريخ عنهم وما بقي من آثارهم.
ورغم ذلك، فقد زُرعت في الأذهان صورةٌ عن العرب قديمًا بأنهم يعيشون حياةً جدية بحتة، تتصف بالخشونة والبعد عن المرح، في محاولة لترسيخ فكرة مفادها أن هذا هو الشكل النموذجي للدولة والمجتمع القوي والمتقدم، حتى ظننا بسبب تلك النظرة أن المجتمع الذي يعطي أهميةً للفنون والترفيه يكون مجتمعًا تافهًا فاشلًا، ودولته في طريقها إلى السقوط والزوال.
اقرأ أيضًا: هل علينا أن ندرس الفنون؟
أي قارئ متمعن للتاريخ سيعرف أن الترفيه واللهو والاهتمام بالفنون لم يكن سببًا في سقوط دولة أو اندثار حضارة، بل على العكس، كان كل ذلك من أسباب انتشار الثقافات ووسائل الغزو الفكري. ولكن يحصل خلط لدى البعض بين عوامل مثل التفكك الداخلي والضعف السياسي في حضارة ما، ووجود مظاهر للترف والترفيه في مجتمعات هذه الحضارة، رغم أن مظاهر الترف ذاتها قد وُجدت في العصور الذهبية للدول والحضارات السابقة.
«أوقفوا منكرات الترفيه»
فتحت الأندلس ب 12ألف مسلم مقابل100ألف نصراني
— عبدالله البلاجي (@ALblagi) March 3, 2017
وسقوطت ب 200ألف نصراني مقابل500ألف مسلم
الفاتحون همهم #الإسلام
الخاسرون همهم #هيئة_الترفيه
يكثر استخدام مقولة عمر بن الخطاب ومقولات مشابهة هذه الأيام في المملكة العربية السعودية، بعد استحداث هيئة للترفيه فيها. ويستشهد محاربو الترفيه كثيرًا بتاريخ الأندلس، ويعزون سبب سقوط حكم العرب فيها إلى ميلهم للهو والترف والفنون والموسيقى، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
يكفي أن تبحث في تويتر عن عبارتي «هيئة الترفيه» و«الأندلس»، أو أن تبحث في هاشتاغ #أوقفو_منكرات_الترفيه، لتجد تغريدات يؤمن كاتبوها بأن اللهو والترف كانا سبب انهيار الحضارات ودمار المجتمعات.
قد يعجبك أيضًا: لماذا يضحك السعوديون؟
ما الذي حدث في الأندلس؟
لنُلقِ نظرة على تاريخ الأندلس، بما أنه المثال المفضل لدى محاربي الترفيه وأنصار الجدية، لنعرف ما إذا كان سقوطها بسبب اللهو كما يزعمون، وهل استطاعت الدول الزاهدة المحارِبة لمظاهر اللهو استعادة الأندلس والمحافظة عليها؟
بحسب كتاب «التاريخ الأندلسي: من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة» لأستاذ التاريخ الإسلامي عبد الرحمن الحجي، مرَّت الأندلس بخمس مراحل للحكم، ولكل مرحلة طابعها الخاص. بعضها كان يعطي الترفيه حقه في الحياة، وبعضها كان فيه الترفيه واللهو مهمَّشًا ومحارَبًا، وهذه المراحل هي:
- من عام 711 إلى 755 م (41 عامًا)، كانت الفترة التي عُرفت بعهد الوُلاة في الأندلس، ويمكن اعتبارها المرحلة التأسيسية للحكم العربي فيها.
- من عام 755 إلى 1091 م (336 عامًا)، هي الحقبة الأولى للازدهار الحضاري والعلمي والفني في الأندلس، ومن أهم الشخصيات المؤثرة في هذه الحقبة «زرياب»، مؤسس المعهد الموسيقي المعروف بدار المدنيات، والذي كان فنانًا متنوع المواهب، فبالإضافة إلى إبداعه وعلمه بالموسيقى، يمكن اعتباره أول مصمم أو منسق أزياء عربي، أو ما يعرف اليوم بـ«Stylist»، كما تنسب إليه فكرة «إتيكيت المائدة» وأدواتها. وينتقد كثير من المتحفظين زرياب ويصفونه بأنه كان أحد أسباب سقوط الأندلس. وفي هذه الحقبة، ظهر علماء ومبدعون خالدون من أمثال عباس بن فرناس، وعميد الجراحين أبو القاسم الزهراوي، وغيرهما.
- من عام 1091 إلى 1134 م (43 عامًا)، كانت فترة حكم دولة المرابطين، المحافظة دينيًّا والمتحفظة اجتماعيًّا، والتي كان قادتها يميلون إلى الزهد والجدية والبعد عن الترف واللهو، ويمتعضون كثيرًا من مظاهر الترف والترفيه التي كانت في الأندلس، وقد جاؤوا من المغرب ليحموا الأندلس من الصليبين بعد ضعفها السياسي والعسكري، لكن حمايتهم لم تستمر طويلًا، فقد سقطت دولتهم على يد دولة دينية أخرى أكثر تحفظًا، هي دولة الموحدين.
- من عام 1134 إلى 1223 م (89 عامًا)، هي فترة حكم دولة الموحدين، التي سارت على نهج المرابطين الملتزمة دينيًّا، وزادت عليها في التشدد وحاربت مظاهر اللهو بشدة، لكن لم تتمكن من الاستمرار لمدة طويلة رغم التزامها بالقيم الدينية وبُعدها عن اللهو والترف.
- من عام 1223 إلى 1492 م (206 أعوام)، هي فترة حكم مملكة غرناطة، آخر دولة عربية في الأندلس، ورغم صغر حجمها وضعفها مقارنةً ببأس وشدة دولتي المرابطين والموحدين، إلا أنها استطاعت أن تستمر وتحافظ على وجودها لما يقرب من ضعف مجموع عمر الدولتين المحافظتين. وإضافةً إلى ذلك، كانت مملكة غرناطة تحذو حذو العصر الذهبي للأندلس في الترفيه والترف قبل مجيء الموحدين والمرابطين، ويمكن مشاهدة العديد من أدوات الترف واللهو الأندلسي ضمن مقتنيات معرض الألعاب واللهو في غرناطة في تلك الفترة. وفي هذه الحقبة، بُني أحد أهم معالم حضارة العرب في الأندلس، قصر الحمراء في غرناطة، الذي لا نزال نتفاخر به كمنجز حضاري.
كانت الأندلس في عصورها الذهبية مشبعة بالترفيه واللهو، وكانت لكل طبقة اجتماعية وسائلها الترفيهية، إذ اختلفت أساليب الترويح واللهو بين الطبقات الاجتماعية.
ومن وسائل الترفيه الأندلسية مجالس الأنس والطرب والرقص، إضافة إلى كثير من الألعاب مثل الشطرنج والنرد واللطمة والمقرع والقرق وألعاب الدوامات، وكذلك الألعاب الرياضية مثل الفروسية والسباحة والرماية، والعروض الحية في الطرقات العامة، التي تشمل الموسيقى وعروض الحيوانات والتمثيل الكوميدي، أو ما عُرف بلعبة «عبد الخالق»، وهي تمثيل لشخصية فكاهية.
إلى جانب كل هذا الترفيه واللهو، كانت الأندلس قبلة العلوم والفنون بعلمائها وفلاسفتها ومخترعيها، وكان لتلك الحقبة الأندلسية أثر مشهود في مسيرة الحضارة الإنسانية في كل المجالات، من الموسيقى إلي الجراحة.
قد يعجبك أيضًا: لما بدا يتثنى: حكاية الرقص الشرقي من الأندلس إلى أوروبا
هل تنجح الدول الزاهدة؟
المقارنة بين نماذج الحكومات في الأندلس من حيث تبنيها للترفيه والترف تبين انعدام العلاقة بين التحفظ الاجتماعي الثقافي وتقدم وقوة الدول. وليس النموذج الأندلسي هو الوحيد الذي يثبت انعدام هذه العلاقة، فالحضارات التي ازدهرت وسادت في الماضي أو الحاضر تعتبر الترفيه واللهو والفنون من ركائزها الثقافية والاجتماعية.
كثير من الدول الزاهدة الرافضة للترفيه لم تبنِ حضارةً تُذكر.
وها هي أعظم حضارات اليوم وأقوى دول عصرنا وأكثرها إنجازًا علميًّا وثراءً معرفيًّا، يُعتبر فيها الترفيه والمرح صناعةً قائمة بذاتها لها حِرَفها وأسواقها. وإن أردنا استحضار أمثلة من الماضي، سنجد الكثير من الآثار التاريخية التي تثبت اهتمام الحضارات العظيمة بالترفيه.
بينما نجد في الجانب المتحفظ والرافض للترفيه ومظاهر الترف أمثلةً يمكن أن نحتجَّ بها على أن البُعد عن الترفيه والمرح من أسباب عدم قدرة الدول على البقاء والاستمرار وليس العكس، فالجماعات المحاربة لوسائل البهجة إن نجحت في تأسيس دولة فإنها لن تنجح في المحافظة عليها، وذلك ببساطة لأنها تخلق مجتمعات منقوصة، بمنعها لجانب مهم جوانب الحياة الاجتماعية.
قد يهمك أيضًا: هل تُربك الثقافة المملكة؟
كثير من الدول التي تبنَّت نموذج الدولة الزاهدة والمتقشفة ثقافيًّا، الرافضة للترفيه والفنون، لم تبنِ حضارةً تُذكر، بل لم تتمكن من الصمود طويلًا في وجه الزمان، مثل دولتي المرابطين والموحدين في الأندلس، ودولة «طالبان» في أفغانستان.
متى قد يتسبب الترف في سقوط الدول؟
إن قيام الدول وسقوطها شأن سياسي عسكري بحت، أما الترف والترفيه فهي منتجات حضارية اجتماعية، وممارسة الشعوب لهذه الأنشطة دليل على النضج والثراء الثقافي.
أما في حال كان الترفيه والترف مقصورًا على نخبة اجتماعية مرفهة ماديًّا أو طبقة حاكمة، فهذا بطبيعة الحال يعتبر أحد صور انعدام المساواة الاجتماعية، وهو من أهم أسباب سقوط الدول بالفعل، ولكنه سبب متعلق بعدم المساواة لا بالترفيه واللهو.
المنشغلون بلقمة العيش لن يجدوا وقتًا للمرح والاستمتاع بالحياة.
يحاول بعض مناصري فكرة الدولة الزاهدة أن ينزِّه حكوماتها من الفشل الإداري والسياسي والعسكري، فأحد هؤلاء، في محاولة لتحليل أسباب سقوط دولة المرابطين، ذكر عوامل لا يمكن أخذها بعين الاعتبار في أي تحليل علمي، ومنها أنه يرى أن انشغال المرابطين بالجهاد عن تفقيه الناس بالدين كان أحد أسباب سقوط دولتهم، إضافةً إلى انشغال العلماء بالمناظرة.
هذه الأسباب في حقيقتها غيبية ظنية لا يمكن قياسها أو دراستها، كما أنه لا يمكن إسقاط هذه الأسباب إلا على دول ذات حكم مبني على الإسلام.
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع
إن المنشغلين بلقمة العيش والحفاظ على أرواحهم لن يجدوا وقتًا للمرح والاستمتاع بالحياة، ولذلك كانت الدول والمجتمعات الموجودة في ظروف طبيعية قاسية، كالبدو في الصحاري والإسكيمو وسط الثلوج، أو تلك الدول والمجتمعات التي ما تزال تحت التأسيس، تبدو كأنها غير مهتمة بمظاهر اللهو والترفيه، ولكنها في الحقيقة تمتلك عناصر المتعة والترفيه في حدود ما تسمح به إمكانيات أبنائها المعيشية، فالشعر والأهازيج ولعب الأحباش بالحراب كانت من صور المتعة المتوفرة لدى مجتمعات العرب قديمًا، ولذلك يمكن الذهاب إلى أنه كما أن لكل زمان دولةً ورجالًا، فإن لكل زمان ترفيهًا كذلك.