يبالغ الآباء والأمهات في مجتمعاتنا أحيانًا في لوم أطفالهم وانتقاد سلوكهم ومطالبتهم بتحقيق الكثير، ظنًّا منهم أن ذلك يصب في مصلحة الأبناء ويجعلهم أكثر انضباطًا وقدرة على الإنجاز؛ لكن العلم يؤكد أن تلك الطريقة لها آثار نفسية سلبية تمتد إلى ما بعد الطفولة.
الأطفال أيضًا يصيبهم القلق
في دراسة حديثة أُجريت على مدار خمس سنوات (من 2010 إلى 2014) على طلاب إحدى مدارس المرحلة الابتدائية في سنغافورة، اكتشف الباحثون أن تسلط الوالدين وتدخلهما في حياة أطفالهما يجعل الأبناء أكثر ميلًا إلى المبالغة في انتقاد أنفسهم والقسوة عليها، وأن تلك المشكلة تتزايد بمرور العمر، وتنتج عنها آثار بعيدة المدى؛ فالأطفال الذين يتسمون بنزعة انتقادية متزايدة للذات تظهر لديهم أعراض الاكتئاب والقلق أكثر من غيرهم، وهو ربما ما يبرر الكثير من القلق الذي يصيب الكثيرين منا في مراحل لاحقة من حياتنا.
قد يهمك أيضًا: كوكب الأرض يطلب منا التوقف عن الإنجاب
ربما أخطأ الوالدان
الدراسة، التي نقلها موقع كوارتز وأشرف عليها «ريان هونغ» (Ryan Hong)، الأستاذ المساعد بجامعة سنغافورة الوطنية، وجدت أن تدخل الوالدين في حياة أبنائهما هو أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى تزايد سلوك انتقاد الذات لدى الأطفال بمرور السنوات، رابطًا بين ذلك الأسلوب في التربية وبين ظهور النزعة الكمالية (Perfectionism)، التي رأى أن هناك نوعين منها: نوع إيجابي «يسعى فيه الإنسان إلى التميز» ويبذل قصارى جهده لبلوغه، ونوع سلبي يميل صاحبه إلى المبالغة في انتقاد ذاته و«يقلق بشأن صورته أمام الآخرين وأمام نفسه».
حتى مع تناقص سلوك انتقاد الذات لدى بعض الأطفال، ظلوا يعانون مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق.
سعى «هونغ» وزملاؤه إلى فهم ما يؤدي لظهور تلك النزعة الكمالية السلبية لدى الأطفال؛ أهو المزاج الطبيعي للطفل أو شخصيته؟ أم الحالة الاقتصادية الاجتماعية؟ أم سلوك الوالدين؟ كما درس العوامل التي تؤدي إلى زيادتها أو انحسارها بمرور الوقت.
وفي المرحلة الأولى من الدراسة، حاول الباحثون معرفة مدى تدخل الآباء في حياة أبنائهم، فطلبوا من كل طفل أن يحل لغزًا في مدة زمنية محددة، مع السماح للآباء بالمساعدة، ثم عمد الباحثون إلى تقييم الأطفال لاحقًا في سن الثامنة ثم في سن التاسعة ثم في سن الحادية عشرة، وذلك من خلال التقارير التي كان يقدمها الأطفال والآباء والمعلمون، والتي استخدمها الباحثون في تحديد سلوك انتقاد الذات لدى الأطفال.
وذكر البروفيسور «هونغ» في دراسته أن الأطفال الذين يتدخل آباؤهم في حياتهم بدرجة كبيرة يكونون أكثر ميلًا إلى إظهار سلوك انتقاد الذات، وأن ذلك السلوك يتزايد لديهم مع مرور الوقت. كذلك، أظهرت نتائج الدراسة بعض الإشارات المقلقة؛ إذ ذكر «هونغ» أنه حتى مع تناقص سلوك انتقاد الذات لدى بعض الأطفال، ظل هؤلاء يعانون من مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق، كما أظهروا ميلًا أكبر إلى السلوك المتمرد، وهو ما أرجعه البروفيسور إلى «التربية الخاطئة» أو العقاب القاسي إذا ما أخفق الأطفال في تحقيق ما ينتظره الآباء منهم.
وأضاف «هونغ» أن «تدخل الوالدين قد يجعل الطفل يعتقد أن ما يفعله لن يكون جديرًا بالتقدير أبدًا، ونتيجةً لذلك؛ يخشى الطفل من ارتكاب أي خطأ، ولو كان بسيطًا، ويلوم نفسه لأنه ليس مثاليًا».
اقرأ أيضًا: داعب رضيعك ما شئت، ليس شرطًا أن يراك.. ماذا تعرف عن حواس الأطفال؟
الأخطاء دروس نتعلم منها
وينصح البروفيسور الآباء بتشجيع أطفالهم، فإذا ما حصل الطفل مثلًا على درجة 90% في أحد الاختبارات، لا ينبغي أن يكون التعليق: «فيمَ أخطأت؟»، بل على الوالدين أن يخبرا طفلهما أنها «نتيجة رائعة»، شارحًا أن الأخطاء هي الوسيلة التيي نتعلم منها، وأنه من الضروري تشجيع الأطفال على عدم الخوف من الوقوع في الخطأ، خصوصًا إذا كانوا يعيشون في بيئة تتسم بالتوقعات العالية.
لا ينبغي أن تكون آمال الأبوين بمثابة توقعات، على الطفل أن يصل لها وإلا اعتُبر «فاشلاً».
ويرى التقرير أن نتائج هذه الدراسة تتفق مع نتائج الكثير من الدراسات والأبحاث الأخرى، التي توضح أنه ينبغي للآباء أن يتسامحوا مع فشل أطفالهم. فعندما يتدخل الوالدان على سبيل المثال لحل الخلافات أو المشكلات التي تواجه أطفالهم في أثناء اللعب مع أطفال آخرين أو في غرفة الصف، تضيع على الأطفال فرص عظيمة لتعلم مهارات حل المشكلات، حتى إن كان ذلك ينطوي على الفشل وإعادة المحاولة من جديد، ودون اكتساب هذه المهارات، قد يصبح الأطفال أكثر اعتمادًا على غيرهم ويعانون من القلق والاكتئاب.
لا شك أن الآباء والأمهات يقومون بتلك الممارسات الخاطئة بحسن نية، وأنهم يرغبون في أن يكون أطفالهم في أحسن حال، ومن الطبيعي أن يأمل الآباء في أن يحقق أبناؤهم نتائج مميزة في حياتهم، لكن ينبغي ألا تكون تلك الآمال بمثابة توقعات على الطفل أن يصل لها وإلا اعتُبر «فاشلاً»، والأفضل أن يدعم الوالدان أطفالهما في تحقيق توقعاتهم الخاصة لأنفسهم، وأن يتعلم الآباء تقبُّل أبنائهم كما هم، بصفاتهم وقدراتهم التي ولدوا بها، ويشجعوهم ويظهروا التقدير والرضا عما أنجزوه. بهذه الطريقة يمكن للآباء أن يسمحوا لأبنائهم بتحقيق المزيد، بما يساعد على تألقهم ويجعلهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم والسعادة بحياتهم.
قد يعجبك أيضًا: علاقتنا بالمال: حتى الأطفال يصبحون أقل نفعًا لغيرهم بعد لمس النقود
ولعل بعد قراءة هذه المعلومات، يمكننا أن نرى ما كان يرمي إليه جبران خليل جبران حين قال في كتابه «النبي»:
أولادكم ليسوا لكم.
أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بِكُم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.
ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم.
أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكارًا خاصة بهم.
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم.
ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم.
فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم.
وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم.
ولكنكم عبثًا تحاولون أن تجعلوهم مثلكم.