هذا الموضوع ضمن هاجس «من نراقب؟ من يراقبنا؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
يتمتع عالمنا العربي بواحدة من أعلى نسب استخدام شبكات التواصل الاجتماعي ونموها، مقارنةً بمناطق كثيرة في العالم. وطبقًا لأحدث التقارير، يبلغ عدد مستخدمي فيسبوك المنطقة العربية نحو 150 مليون شخص.
عزز فيسبوك وتويتر من تواصل الناس والقدرة على الحشد، ففي المنطقة العربية، ارتبط استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بموجة ما سُمِّي «الربيع العربي»، بدايةً من تونس ثم مصر، التي انطلقت شرارة ثورتها من دعوة على صفحة فيسبوك اسمها «كلنا خالد سعيد». ولعبت تلك الشبكات دورًا مهمًّا في الانتخابات الأمريكية، إذ ساعدت على حشد الناخبين صغار السن لانتخاب باراك أوباما، أول رئيس أمريكي أسود البشرة. كانت لحظة مهمة وثورية دون شك في التاريخ الأمريكي.
اليوم، تغير حجم تلك الشبكات الاجتماعية وطبيعتها وقدراتها ومخاطرها، وتغيرت معها رؤية الحكومات والمستخدمين معًا. يمكن ملاحظة هذا في فضيحة الخرق المعلوماتي الأخيرة التي طالت فيسبوك، وهي الأكبر والأهم في تاريخ شبكات التواصل الاجتماعي.
استخدمت شركة «كامبريدج أناليتيكا» بيانات فيسبوك، دون معرفة أصحابها، لبناء تحليلات نفسية توضح دوافع الناخبين وطموحاتهم ومخاوفهم حيال أمور بعينها، وتحولت تلك المعلومات إلى رسائل وأخبار موجهة بغرض تغيير آراء الناخبين بخصوص مرشح أو وضع سياسي واجتماعي معين.
كشفت تحقيقات «القناة الرابعة» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأمريكية أن الشركة استخدمت تلك الوسائل المعتمدة على انتهاك بيانات مستخدمي فيسبوك في الحملات الانتخابية للمرشحين الجمهوريين: تيد كروز ودونالد ترامب، أعقبها دخول الأخير إلى البيت الأبيض بعد حملة انتخابية صدامية.
طبقت «كامبريدج أناليتيكا» تلك الطرق بعد تجربتها في انتخابات دول عدة. ففي كينيا مثلًا، عملت الشركة مع الرئيس «أوهورو كينياتا» ضد منافسه القوي «رايلا أودينغا»، في انتخابات أدت إلى انقسام حاد بين النخبة السياسية.
الخرق المعلوماتي الأخير لفيسبوك وضَّح لكثيرين حجم وخطورة المعلومات التي تجمعها شركة مثلها عن مستخدميها، وحجم الفجوة الحقيقية التي نعاني منها كمجتمع عالمي في حماية المعلومات والخصوصية.
قد يهمك أيضًا: ما يمكن أن تفعله «البيانات الوصفية» بعلاقاتك وحياتك
تجمع شركات التقنية العملاقة مثل غوغل وفيسبوك وآبل وأمازون قدرًا ضخمًا جدًّا من المعلومات عن جميع مناحي حياتنا. الغرض الواضح والمعلَن أن تلك المعلومات تساعد في بيع منتجات بشكل أفضل لمستخدمي تلك الشركات. بالنسبة إلى غوغل وفيسبوك، المنتَج الأساسي هو الإعلانات، فالشركتان جمعتا نحو 150 مليار دولار في 2017 (110 لغوغل، و40 لفيسبوك)، أغلبها نظير الإعلانات التي تستهدف المستخدمين.
لكن هذه المعلومات يمكن أن تُستخدَم للتأثير في أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سواء عن طريق شركات أو حكومات. وكلما زاد حجم وعمق تلك المعلومات، زادت القدرة على التأثير.
مثلًا، يستطيع فيسبوك حاليًّا أن يعرف ما اشتريته، وما تفكر في شرائه، وأين كنت، وأين أنت الآن، وأين ستذهب، وهكذا. يمكنه أيضًا أن يعرف لحظات ضعفك ونشاطك وعملك وراحتك، إضافةً إلى قدرته على تحليل توجهاتك السياسية والحزبية ورؤيتك العالم والآخرين من حولك بشكل دقيق.
للحصول على تلك المعلومات، يستخدم فيسبوك نشاطك اليومي على الموقع منذ اشتراكك به، وجميع معلوماتك الشخصية، بما في ذلك صورك وكل محادثاتك، ودائرة معارفك القريبة والبعيدة، وتاريخ تفاعلاتك وتواصلك معهم. فيسبوك يعرف كل ذلك وأكثر عن 2.2 مليار شخص، هو حجم مستخدميه.
هل استُغلت المعلومات التي تجمعها شركات التقنية العملاقة من مصر وتونس في وقت الصدام السياسي منذ 2010 حتى الآن؟
يتزامن هذا الكم الهائل من المعلومات مع تطور ملحوظ في مجال الذكاء الاصطناعي و«تعلُّم الآلة»، الأمر الذي يُسهِّل عملية جمع المعلومات وتحليلها، بل واتخاذ قرارات وإجراء تعديلات بناءً عليها.
يمكن أن تمنح تلك المعلومات الغزيرة، عند دمجها مع تقنية الذكاء الاصطناعي، قدرًا مخيفًا من القدرة على التأثير الاقتصادي والسياسي في يد شركات التواصل الاجتماعي، وقد يجعلها أحيانًا أقوى من الحكومات ذاتها.
المعلومات والبيانات هي العصب الرئيسي للتقنيات الجديدة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، ويمكن لشركات التقنية العملاقة أن تدفع مبالغ طائلة لجمع تلك المعلومات. فعلى سبيل المثال، دفعت فيسبوك 19 مليار دولار لشراء واتساب. السبب أن واتساب أصبح منصة للتفاعل بين ملايين المستخدمين، وهذا التفاعل يحدد القيمة التسويقية للشركة ولعشرات الشركات الناشئة الأخرى، وهو ما تسعى خلفه الشركات العملاقة.
كل هذا يدفعنا إلى التساؤل عن نوعية المعلومات والبيانات التي تجمعها شركات التقنية العملاقة من العالم العربي، وهل استُخدِمَت في السابق أم تُستخدم حاليًّا في أي سياق سياسي أم لا.
في مصر وتونس مثلًا: هل استُغلت تلك المعلومات في وقت الصدام السياسي بين المعارضة والأنظمة المتعاقبة من 2010 حتى الآن؟
يمكننا أن نتذكر حجم الأكاذيب التي نشرتها الأطراف المختلفة في فترات التوتر السياسي الكبرى، وقدرتها السريعة على الانتشار، ونجاحها إلى حد كبير في تعزيز الخلاف السياسي والإسهام في الاستقطاب الحاد. وحتى لو لم تُستخدم تلك المعلومات في السياسة، فهي ملك أساسي لمستخدميها، ويجب ألا تُستخدم خارج الإطار القانوني الذي ينظم علاقة فيسبوك بمستخدميه.
أعلنت السلطات في إسرائيل وبلجيكا وهولندا وفرنسا وبريطانيا فتح تحقيقات مع فيسبوك بخصوص الخرق المعلوماتي، للتحقق من عدم تضرر معلومات المواطنين.
بجانب المعلومات الهائلة التي يجمعها فيسبوك، تزخر المنطقة العربية بعدد كبير من التطبيقات خفيفة المحتوى مجهولة الهوية، التي تجمع معلومات مستخدميها وأصدقائهم، على الأقل حتى عام 2014، حين منع فيسبوك التطبيقات من الحصول على معلومات الأصدقاء.
تلك التطبيقات تظهر كألعاب مثل «المزرعة السعيدة» و«القراصنة»، واختبارات الشخصية ذات الشعبية الجارفة مثل «من تشبه من المشاهير؟» و«كيف سيكون شكلك لو كنت من الجنس الآخر؟»، وغيرها. ولذلك يمكن لأي مبرمج ناشئ أن يبني تطبيقًا خفيفًا كهذا، ويجمع معلومات من خلال فيسبوك ليستخدمها بأي شكل.
قد يعجبك أيضًا: مستقبل الخصوصية: هل نخوض حربًا خاسرة؟
في المنطقة العربية لا نُنتج تطبيقات عملاقة، ولا نملك شركات تقنية هائلة، نحن أسواق غير منتجة، لكنها غنية بالمستخدمين. فكيف يمكننا أن نمتلك معلوماتنا، أو على الأقل نعرف من يملكها؟ وكيف تُستخدم؟ وما التشريعات التي تنظم عملية جمع تلك المعلومات واستخدامها وحماية الخصوصية محليًّا؟
بعد فضيحة «كامبريدج أناليتيكا»، أعلنت السلطات في إسرائيل وبلجيكا وهولندا وفرنسا وبريطانيا فتح تحقيقات مع فيسبوك، في محاولة لفهم حجم الانتهاك والتحقق من عدم تضرر معلومات مواطني تلك الدول. هنا يكون من حقنا أن نسأل عن الإجراءات التي اتخذتها أي حكومة عربية بشأن تلك الفضيحة.
وفرت تلك الأزمة فرصة حقيقية للحكومات كي تجعل شركات التقنية تستجيب للجهات التنظيمية، وتتخذ إجراءات تكفل الخصوصية لمواطنيها. وهددت بعض الدول بحظر خدمات تلك الشركات ما لم تقدم حماية كافية لبيانات المستخدمين.
قد يرفض بعض الناس تلك الإجراءات التي تضع الفضاءات الإلكترونية تحت سيطرة الجهات الرقابية الحكومية، إذ يمكن أن يُستخدم هذا النفوذ بشكل سلطوي أو أمني، مثل أن تضغط بعض الحكومات على الشركات للإفصاح عن بيانات مواطنيها.
هنا يجب أن نتذكر أن تلك الشركات نفسها هي من ترك معلومات عشرات الملايين من مستخدميها وبياناتهم في أيدي معلنين وشركات تأثير ودعاية دون حماية. افتراض أن تلك الشركات «قوى تعمل من أجل الخير» أثبت عدم صحته، فكما نحتاج إلى حماية الفضاءات الإلكترونية، نحتاج أيضًا إلى من يحمينا من عمالقة تلك الفضاءات.
على سبيل المثال، حجبت سريلانكا فيسبوك تمامًا بسبب استخدامه في تأجيج أحداث عنف أهلي وقعت هناك، وبعد شهر من الحجب، اضطرت إدارة فيسبوك إلى الجلوس مع الحكومة والتفاوض بشأن شروط استخدام خدماتها.
لا نطالب بالمنع أو التقييد أو العكس، لكن نحن، كسوق غني بالمستهلكين بالنسبة إلى شركات التقنية، علينا أن ندرك ديناميكيات العلاقة بين الشركات والحكومات، وضرورة وجود تشريعات تنظم عمل تلك الشركات من أجل حماية الخصوصية والبيانات.
يمكننا أن نلقي نظرة على قانون حماية المعلومات الجديد في أوروبا، المعروف بـ«GDPR»، والمصمم لحماية معلومات وخصوصية مواطني الاتحاد الأوروبي وتنظيم استخدامها ومنع تصديرها إلى الخارج. هذا القانون يدخل حيز التنفيذ في مايو 2018، ويوقع غرامات باهظة على شركات التقنية في حالة الاختراق أو انتهاك قواعد القانون. هذه الغرامات مبررة، لأن المعلومات الشخصية هي المصدر الرئيسي للإيرادات الهائلة التي تُحصِّلها تلك الشركات.
يعمل الكونغرس الأمريكي أيضًا على ورقة قانونية تسمى «قانون الإعلانات النزيهة»، لتنظيم عمل الإعلانات المدفوعة على الإنترنت من غوغل وفيسبوك. ويُنتظر أن تعزز تلك الورقة حماية خصوصية المواطن الأمريكي.
ما الخطة الحقيقية التي لدينا كعرب لامتلاك معلوماتنا وحماية خصوصيتنا، والأهم: أمننا القومي؟ لماذا نفتح أسواقنا لشركات لا تبالي بخصوصية مواطنينا، وتستخدم معلوماتهم لأغراض تجارية وسياسية؟ ما الضمانات والأموال والتسهيلات التي تمنحها تلك الشركات لاستخدام أسواقنا على هذا النحو؟
ما طبيعة التوازنات التي تحكم علاقة الحكومات العربية وشركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة؟ لَم نسمع عن فتح أي حكومة عربية تحقيقًا في قضايا انتهاك الخصوصية، فضلًا عن تغريم تلك الشركات. هل هناك تفاهم بين حكوماتنا وتلك الشركات تتساهل بموجبه الحكومة مع معلوماتنا وخصوصيتنا، مقابل الحصول على مزايا تتعلق بالقدرة على التتبع والمنع من تلك الشركات؟
بالطبع، بعض الدول تقدِّم الاعتبارات الأمنية والسلطوية المحلية على التشريعات المتعلقة بالخصوصية وحماية البيانات، وتهتم في المقام الأول بمدى قدرتها الفعالة على القمع والمنع الداخلي. لكن مع تزايد أهمية البيانات الشخصية والتطور المذهل في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، يجب أن نبدأ في الاهتمام بعمالقة الخارج، التي أصبحت أقوى وأخطر من أي وقت مضى.