ما الذي يحرك السلوك البشري؟ ولماذا نفعل ما نفعله؟ وما حرية الإرادة بالضبط؟ وهل جعلتنا الحضارة أفضل؟ وهل نستطيع الفرار من ماضينا القَبَلي والعنصري؟
هذه نماذج من الأسئلة التي قد تبدو فلسفية في ظاهرها، لكن علماء البيولوجيا صاروا يُدلون برأيهم فيها في العصر الحالي، ومن هؤلاء أستاذ البيولوجيا وعلوم المخ في جامعة ستانفورد، «روبرت سابولسكي»، الذي ألَّف كتابًا بعنوان «السلوك: بيولوجيا البشر في أحسن حالاتنا وأسوئها».
حاول سابولسكي في كتابه إجابة هذه الأسئلة أو بعضها، مركزًا بصورة خاصة على طبيعة الشر الذي يرتكبه البشر من وجهة نظر علم الأحياء، ومستفيدًا من فروع معرفية متنوعة مثل الفلسفة الأخلاقية ونظرية التطور والعلوم الاجتماعية وعلم الوراثة.
أجرى موقع «Vox» حوارًا مع سابولسكي بشأن تناقضات الطبيعة البشرية، وما الذي يجعل البشر قادرين على فعل الخير والشر معًا، وما إذا كان الإنسان حر الإرادة فعلًا.
تناقض في الطبيعة البشرية
الطبيعة البشرية غير ثابتة، والشيء الوحيد المؤكد بشأنها أنها مرنة بصورة استثنائية.
يشير سابولسكي إلى تناقض أساسي في السلوك البشري، فالبشر يكونون عنيفين أحيانًا بطريقة استثنائية، ويكونون لطفاء في أحيان أخرى بطريقة استثنائية كذلك، والنظر في التاريخ يمكنه أن يطلعنا على عدد هائل من المجازر الجماعية التي ارتكبها الإنسان، وكذلك عدد هائل من الأفعال البطولية التي تتضمن التضحية بالنفس لأجل الآخرين، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟
يرى سابولسكي أن نوعنا مشوش جدًّا من وجهة النظر التطورية، فنحن نطفو في المنتصف بين كل أنواع السلوك المتطرف وأنماط الاختيار المختلفة مقارنةً بالرئيسيات الأخرى، التي تكون إما في هذه الجهة أو تلك، وربما يخبرنا هذا عن مدى أهمية السياق في فهم السلوك البشري.
يدلنا تأثير السياقات المختلفة في السلوك البشري على أن «الطبيعة البشرية» قد لا تكون ثابتة ومحددة تمامًا، وقد دار النقاش طويلًا بشأن هذه المسألة في مجال الفلسفة، ويعتقد سابولسكي أن الشيء الوحيد المؤكد بشأن الطبيعة البشرية أنها مرنة بصورة استثنائية، وهذا أكثر خصائصها ثباتًا وتحديدًا.
هل حرية الإرادة وهم؟
ربما تؤشر مرونة الطبيعة البشرية إلى حرية الإرادة الإنسانية، إذ يستطيع الإنسان تقرير مصيره باختيار ما يراه مناسبًا من سلوك، خير أو شر، ويبدو هذا مناقضًا لما دأبت العلوم البيولوجية في الآونة الأخيرة على تأكيده طَوَال الوقت، إذ يرى كثير من العلماء أن حرية الإرادة لا تعدو كونها وهمًا.
ومع أن سابولسكي يبدو مترددًا بعض الشيء في حديثه عن حرية الإرادة، فهذا فقط لأنه يحاول أن لا يجرح مشاعر بعض القراء الذين قد يستاؤون من نفي الحرية عن الإنسان، لكنه يرى أن الإرادة الحرة لو وُجدت فإن نطاقها «يزداد انحصارًا في أماكن أكثر ضيقًا ومللًا على نحو متزايد»، أما بالنسبة إلى الأشياء الكبيرة التي تهم الإنسان حقًا، فليس فيها ثمة شيء من قبيل حرية الإرادة.
يعترف سابولسكي مع ذلك أن عالمًا يعترف فيه الجميع بغياب حرية الإرادة ويتقبلون هذا الغياب، سيكون أمرًا بالغ الغرابة، إذ أن اعتقاد كهذا قد يدمر مفاهيمنا عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية في اللحظة التي نعتنق فيها هذه الحقيقة اعتناقًا تامًا، لذلك ربما يجب الحذر قليلًا عند تناول هذا الرأي.
إن لم نكن مستعدين لمواجهة هذه الحقيقة بعد، فربما تستطيع العلوم تدريبنا على مواجهتها خطوةً بخطوة.
مشكلة البشر مع العنف
ترسم هذه الرؤية صورة مظلمة للعالم الذي نعيش فيه، فمن جهة، ليست لدينا حرية الإرادة اللازمة لتغيير سلوكنا العنيف أو الشرير، ومن جهة أخرى يبدو هذا النوع من السلوك متأصلًا في الطبيعة البشرية بطريقة لا يمكن إنكارها.
لكن المسألة بحسب سابولسكي ليست بهذه الدرجة من التشاؤم، إذ أن البشر عنيفون بالفعل، لكن هذه نصف الحقيقة فقط. من المؤكد أن البشر يكرهون العنف، لكنهم مع ذلك لا يكرهون العنف لذاته، وإنما يكرهون «النوع الخاطئ» منه، أما «النوع الصائب» من العنف فيسعى البشر إلى تعزيزه ومكافأته، وربما تقديم ميداليات لمن يمارسونه.
اقرأ أيضًا: تستطيع أن تصنع السلام إذا اقتنعت أنك قد تكون الشرير
علاقة البشر بالعنف معقدة إذًا، ولهذا السبب تكون تجربة أسوأ أنواع العنف أمرًا فظيعًا وقاسيًا للغاية، في حين تكون «الأنواع الصائبة» من العنف عميقة ومؤثرة بنفس القدر، ويُنظر إليها أحيانًا باعتبارها أعمالًا بطولية يجب الاحتفاء بها.
إذًا، الرؤية التي تقدمها البيولوجيا التطورية للإنسان تؤكد أن كراهة أنواع العنف التي تحتوي ظلمًا أو قسوة غير مبررة هي حقيقة مؤكدة بخصوص البشر، ويعني هذا أن العالم ليس سيئًا تمامًا، حتى عندما تجرِّد هذه البيولوجيا نفسها حرية الإرادة عن الإنسان.
البشر حيوانات قَبَلية
إضافةً إلى ما نعرفه عن البشر من عنف، نستطيع الإشارة كذلك إلى سلوكنا القَبَلي والمتحزب أحيانًا باعتباره نموذجًا لأنماط السلوك التي طالما سعينا إلى تجاوزها، وحاليًّا تسعى البيولوجيا إلى فهمها.
الفكرة القائلة إننا مستعدون للقتل والموت في سبيل رموز مجردة قد تبدو مجنونة، لكنها صحيحة.
لدى كلٍّ منا، بحسب سابولسكي، مجموعة من الانتماءات القَبَلية المتعددة التي نحملها في رؤوسنا، وعلينا أن نفهم الظروف التي تؤدي بنا إلى تقديم واحد من هذه الانتماءات على الآخر أحيانًا، كأن نقدم انتماءنا إلى العائلة على انتمائنا للمجتمع، أو أن نقدم انتماءنا إلى الإنسانية على انتماءاتنا الأيديولوجية أو الحزبية، وربما يساعدنا هذا الفهم لسلوكنا في توجيهه على نحو أفضل.
من المهم في رأي سابولسكي أن نفهم أن البشر لا يقتلون بعضهم بعضًا فقط لكونهم يظهرون أو يأكلون أو يشربون أو يلبسون أو يتحدثون أو يغنون أو يُصلُّون بطرق مختلفة وحسب، بل لأنهم يمتلكون أفكارًا ومفاهيم مجردة للغاية تختلف عن تلك التي يملكها غيرهم.
وحتى لو لم تكن القَبَلية التي تقوم على اختلاف الأصول العرقية والثقافة والعادات ممكنة التجاوز، فإن الأفكار تتطور باستمرار طَوَال الوقت، وربما تكون «القَبَلية الأيديولوجية» ممكنة التجاوز رغم كل شيء. لكن هذا يبدو بعيد المنال، ومع أن الفكرة القائلة إننا مستعدون للقتل والموت في سبيل رموز مجردة قد تبدو مجنونة في ذاتها، فإنها تظل صحيحة في رأيه.
قد يعجبك أيضًا: كيف تستفيد الأنظمة من رهبة الشعوب؟
أسباب للتفاؤل
تؤدي إمكانية التسامي على قَبَليتنا إلى التفاؤل في رأي سابولسكي، فقد جعلنا تقدم الحضارة أفضل رغم كل شيء. ومع أن هناك سلوكيات إنسانية قليلة جدًّا تعد محتومة أو لا مفر منها، تشمل أسوأ سلوكياتنا على الإطلاق، فإننا كلما تعلمنا المزيد عن الأسس البيولوجية لهذه السلوكيات، ساعدنا ذلك على تحقيق نتائج أفضل.
إن كوننا أحياء اليوم يُعد أفضل بكثير ممَّا لو كنا أحياء قبل مئة أو مئتي عام، وذلك لكوننا تقدمنا بصورة كبيرة على جميع المستويات، لكن لا يوجد شيء مؤكد مع ذلك، وعلينا أن نواصل المضي قدمًا إذا أردنا الحفاظ على التقدم الذي أحرزناه.