تأخذ قضية البدون في الكويت شكل الدائرة الضيقة التي تضيق بها دوائر أخرى بحسب درجات التهميش، وهذا ما تصنعه الحكومة من تمييز بين أبناء البدون أيضًا، بجعل بعض أصحاب هذه القضية مستحقًا وبعضهم الآخر غير مستحق، بعضهم يملك بطاقة صالحة والآخر لا يملك أي إثبات، بعضهم مهمش وآخر أكثر تهميشًا.
يمكن النظر إلى الفرد البدون على أنه فرد مهمش من قبل الحكومة، إذ لا يملك صلاحية الحصول على حقوقه المدنية المتمثلة في الصحة والتعليم والسفر، أو ما يمكن اختصاره في حق الحياة والموت، وما يلازمهما من أوراق تمكن الفرد البدون من عبور هاتين المرحلتين بسلام. نعم بسلام، هذه ليست سخرية بحق.
إذ ما ذهبنا إلى أضيق دوائر التهميش سنجد ذوي الإعاقة من البدون، الذين نكاد لا نسمع عنهم شيئًا، والذين لا نعرف عن معاناتهم شيئًا، فقد عمدت الحكومة إلى الفصل والعزل والتمييز بين المعاق الكويتي والمعاق البدون، فنجد الثاني لا يشمله أي قانون ولا أي إعانة، يهمَّش مرتين، الأولى لأنه بدون والثانية لكونه من ذوي الإعاقة.
القانون الكويتي لذوي الإعاقة
تستند الكويت في تشريعاتها القانونية لذوي الإعاقة إلى القانون 2010/8، والذي يضم 10 فصول و72 مادة. وما يميز هذا القانون أنه يشير بصريح العبارة إلى أن «جميع مواد الحقوق الواردة في القانون رقم 8 لسنة 2010 تمت صياغتها على أساس من العدالة والمساواة وعدم التمييز».
إذا ما توقفنا عند نص المادة الثانية، التي يُفهم من طرحها محاولة جعل هذا القانون حاضنًا لكل فئات المجتمع الكويتي، وإن لم يطبق فيكفيه لطف التدوين، إذ تضم هذه المادة عبارة «تسري أحكام هذا القانون على ذوي الإعاقة من الكويتيين، كما تسري على أبناء الكويتية من غير كويتي، وذلك في حدود الرعاية الصحية والتعليمية والحقوق الوظيفية الواردة في هذا القانون، ويجوز للهيئة أن تقرر سريان بعض أحكامه على ذوي الإعاقة من غير الكويتيين، وفقا للشروط والضوابط التي تراها بعد موافقة المجلس الأعلى».
لكن لا شيء من هذا يطبق، لا بشروط ولا بقيود، وهذا يخالف القانون الدولي لذوي الإعاقة الذي وقعت عليه الكويت في 14 فبراير 2013، والذي يلزمها بمعاملة ذوي الإعاقة على قدم المساواة أمام القانون وبمقتضاه. وحتى عام 2014 حين أصدرت لجنة ذوي الإعاقة عدة تعديلات على القانون 2010/8 ليضم في رعايته المعاقين البدون، لم نجد أي تغيير يصب في صالح هذه الفئة، بل نجد أن اللجنة المركزية لمعالجة أوضاع البدون تمارس سخريتها علينا من خلال التقرير الوطني المقدم لمجلس حقوق الإنسان في دورته الحادية والعشرين يناير 2015، والذي تشير فيه إلى أن المعاقين البدون يتمتعون بالخدمات التي يقدمها المجلس الأعلى للمعاقين ممن تنطبق عليهم المادة (2/1) من القانون رقم 2010/8 سالف الذكر، أما من لا تنطبق عليه هذه المادة فيحال إلى صندوق إعانة المرضى وبيت الزكاة. لكن هل يحدث هذا فعلًا؟ وما صور الخدمات التي يعنيها الجهاز المركزي والتي يخص بها المعاقين البدون؟
الإعانة المادية والعلاج
يولد الطفل البدون السليم في معظم الحالات وهو معدم من كل حقوقه، فلا شهادة ميلاد ولا بطاقة أمنية أو صحية تمكنه من إكمال مراحل حياته بشكلها السليم، فيتعثر في تعليمه وعلاجه ووظيفته وزواجه. وهذا الأمر يسري على الطفل البدون الذي يولد بإعاقة، إذ لا تتكفل الحكومة بعلاج حالات الإعاقة التي يمكن علاجها للطفل البدون منذ ولادته، وإن وُجد العلاج في الخارج تنعدم حيلة الأبوين في علاج طفلهما، فلا جواز سفر ولا مبالغ مالية ضخمة في حوزتهما.
في لقاء أجريته مع دانة (اسم مستعار)، وهي من ذوي الإعاقة من نساء البدون، تخبرنا عن إعاقتها وإمكانية علاجها قائلة: «علاجي متوفر في الخارج، ومنذ طفولتي حاول والدي أن يعالجني، لكن مبلغ العلاج صعب علينا جدًا».
يتاح للمعاق البدون الحصول على شهادة رسمية تثبت الإعاقة من الهيئة العامة لشؤون ذوي الإعاقة ليعتد بها في الجهات الحكومية، لكن ما يثير الاستغراب أن هذه البطاقة مكتوب فيها عبارة محتواها أنه «لا تنطبق عليه أحكام القانون بشأن حقوق ذوي الإعاقة».
وبحسب ما ورد في القانون الدولي، فهذه البطاقة من المفترض أن تتيح للمعاق البدون مثلما تتيح للمعاق الكويتي من امتيازات تعينه على أعباء الحياة، مثل الرعاية السكنية، والإعانة المادية، والحصول على أجهزة كهربائية للحركة والتنقل، وأمور كثيرة توفرها لجان الإعاقة ويؤكدها الجهاز المركزي. لكن حين سألت جابر (اسم مستعار) وهو أحد المعاقين البدون عن كل هذا علق ساخرًا: «بطاقة الإعاقة تمكنني من الحصول على شيء واحد فقط، وهو موقف لسيارة لست أملكها أصلًا».
يحكي فيصل الشمري في لقاء مع القبس، وهو من ذوي الإعاقة من البدون، أنه لا يحصل على إعانة مادية، ولا أجهزة من لجنة الإعاقة، إذ لا تشمله بنود هذه المؤسسة، فيحال إلى مؤسسات أخرى، وهي بيت الزكاة وصندوق إعانة المرضى، وهذا الأخير من المفترض أن يتبرع بخدماته للمعاقين، إلا أن عملية التقديم تتطلب خطوات كثيرة لا تأتي بنتيجة، فينتظر المعاق البدون تقارير طبية، وفتح ملف، ثم موافقة، ثم متبرع، وهلم جرا. وهي عملية تأخذ آلية مطولة ومعقدة، ولا تتناسب مع أوضاع وصعوبة حركتهم وانتقالهم.
فكرة تنقل المعاق البدون صعبة ومؤذية تجعلهم لا يفضلون الخروج من منازلهم.
أما بالنسبة لبيت الزكاة، فيخبرنا فيصل الشمري أنه لا يصرف لهم أي إعانات مادية حتى لو كانت زهيدة. وكذلك معظم الحالات التي قابلتها تؤكد أن بيت الزكاة لا يتبرع بكراسي متحركة أو أسرَّة إلكترونية إلا وفق شروط وضوابط لا يظفر بها المعاق البدون.
وهكذا تكون أمامه مسؤولية شراء هذه الأجهزة باجتهاده، وأيضًا يخفق في ذلك. ويخبرنا فيصل الشمري عن صعوبة شراء هذه الأجهزة، إذ يصل سعر الكرسي المتحرك اليدوي إلى ألف دينار تقريبًا، أي ما يقارب 3 آلاف دولار وأكثر، أما الكراسي المتحركة الكهربائية فتتراوح أسعارها بين 3-4 آلاف دينار (10-13 ألف دولار). ناهيك بالمتطلبات الأخرى التي تختلف بين إعاقة وغيرها، وبطبيعة الحال طالما لا يوجد دخل مادي لهؤلاء الأفراد، وإن توفر فهو لا يغطي حاجاتهم المعيشية من مأكل ومشرب، فيصبح كل ما في يد المعاق البدون حينها أن يناشد على منصات التواصل الاجتماعي ليسد حاجته من خلال جمع التبرعات.
هناك كذلك تجهيز سيارات ذوي الإعاقة، ويخبرنا فيصل الشمري أن مسألة الحصول على سيارة معضلة، وتجهيزها معضلة أخرى، إذ لا بد أن تكون من نوع معين مثل الفان (Van)، وتجهيزها بجهاز الرافعة الذي يبلغ سعره 1700 دينار وما فوق (أكثر من 5 آلاف دولار). هذا إذا تجاوزنا في حديثنا سيارات التجهيز الأمريكي (Ramp)، التي لا تقل عن 10 آلاف دينار (33 ألف دولار)، وتعد فكرة حصولهم عليها مستحيلة وليست شبه مستحيلة.
وهكذا تكون فكرة تنقل المعاق البدون، سواء لإنجاز معاملة مؤسسية أو لأداء واجب اجتماعي أو حتى للترفيه النفسي، فكرة صعبة ومؤذية تجعلهم لا يفضلون الخروج من منازلهم.
ورغم كل هذه العوائق نجد أن الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع البدون، بحسب الشمري، يجبر هؤلاء على القدوم بأنفسهم لإنجاز أوراقهم، ويرفض الإنابة عنهم في حال تجاوزهم للسن القانوني، رغم أنه يصرح بتوفيره مندوبين مهمتهم الوصول إلى كبار السن وذوي الإعاقة لإنجاز معاملاتهم، لكن يبدو أن هذا تصريح من «تصريحات الوهم» التي اعتدنا عليها، وفقا للشمري.
من يزور مبنى الجهاز المركزي يجد أن حتى التهيئة المكانية لهؤلاء المعاقين معدومة، إذ يحتاجون من يساعدهم على الدخول والخروج من المبنى. وفي حديثنا عن الجهاز المركزي، فإن مثل هذا التعسف يمارَس مع أي بدون تعطلت بطاقته لأنه مطالب بتعديل وضعه بحسب الجنسية التي لفقت له، ومن ثم تتعسر كل معاملاته في تجديد واستلام أي هوية أخرى (مثل إجازة القيادة). يخبرنا فيصل أن هذا يحدث أيضًا مع البدون من ذوي الإعاقة المطالبين بتعديل أوضاعهم، فتصعب مهمة تجديد هوية الإعاقة لإنتهاء صلاحية بطاقاتهم الأمنية.
التعليم والعمل
يعيش معظم أبناء وبنات البدون أزمة تعليم حقيقية، فبعد أن حرموا من مجانية التعليم منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أصبحوا فرصة استغلالية لجشع المدارس الخاصة، التي يومًا بعد يوم تضخم تكاليفها المادية وتمارس جشعها على أهالي البدون، فيصبح الأطفال أكثر عرضة للحرمان من التعليم لصعوبة سداد المبالغ المادية.
تضم الكويت تقريبًا 16 مدرسة حكومية خاصة بذوي الإعاقة، لكن يُمنع الطفل البدون المعاق من دخولها والتسجيل فيها. كما تضم مدارس أخرى خاصة (أي غير حكومية) لتعليم ذوي الإعاقة، لكن رسومها عالية جدًا. وفي دراسة أجرتها الرابطة الوطنية للأمن الأسري (رواسي)، تبين أن أعدادًا كبيرة من أطفال البدون من ذوي الإعاقة لا يرتادون التعليم الإلزامي، إذ لا يملك الأهالي المقدرة المالية الكافية لتعليمهم. ورغم ذلك، تحاول بعض الأسر البدون تعليم أطفالها معتمدين على المناشدات المالية على تويتر، كحال معظم أطفال البدون سواء من ذوي الإعاقة أو الأصحاء.
أما بالنسبة للتعليم الجامعي لمن استطاع أن يكمل تعليمه الثانوي، فإنه يكون يصعبًا على أفراد البدون في المجمل، وحتى أصحاب المعدلات العالية منهم. تخبرنا نورة (اسم مستعار): «درست في مدرسة حكومية لذوي الإعاقة نظرًا لأن والدي عسكري، وحصلت على معدل مرتفع جدًا يؤهلني لدخول الجامعة، لكن لم يحدث هذا أبدًا، إذ رُفضت أوراقي لأني بدون جنسية ومن ذوي الإعاقة، وهناك من هم أولى مني».
يظهر التمييز الذي تمارسه الحكومة واضحًا بين المعاق الكويتي والمعاق البدون، فتقول نورة إن «صديقاتي اللاتي كن معي كلهن دخلن جامعات لأنهن كويتيات، رغم أن معدلي أعلى منهن». وبالنسبة للوظيفة، تخبرنا أنها حاولت مرارًا التقدم إلى الوظائف دون أن تُقبل: «إخواني كلهم دون عمل، وأنا معهم مو قادرين نسوي شي».
الصحة النفسية والعزل المجتمعي
مع كل هذه الحرمانات والتهميش المضاعف الذي يعانيه ذوي الإعاقة من البدون، وانعدام فرصهم التعليمية والوظيفية، نجد أن فرصهم في تكوين حياة اجتماعية ليست أقل بؤسًا، وتتقلص كلما تضاعف التعسف نحوهم، سواء من مؤسسات الدولة أو من خلال محيطهم الاجتماعي، فتقل إمكانات تأسيس حياة جديدة من خلال الزواج أو الدراسة أو العمل.
بعض الأسر تكون سببًا في زيادة تعاستهم، فمنهم من تحاول أسرهم التكتم على حالاتهم وعدم إظهارهم للمجتمع، لا سيما النساء من ذوي الإعاقة، اللاتي تكنّ مجبرات على التقيد في منازلهن، وبعضهن لا يُسمح لها بالخروج والظهور، وقد يتعرض بعضهن للتعنيف ولا أحد يدري بأمرهن.
تعاني نساء البدون من ذوي الإعاقة من حالة قلق دائمة، وتخبرنا نورة أنه «بعد وفاة والدي العسكري، اقتطعوا نصف راتبه وأصبحنا نعيش أنا وأمي وأخواني العاطلين على النصف المتبقي من الراتب، لا شيء من احتياجاتي كامرأة يكفي، ولا أستطيع أن أحصل على وظيفة تساعدني على العيش». وتكمل معبرةً عن قلقها: «والدتي مريضة بالسرطان، وتفكيرها في وضعي ومستقبلي بعد موتها يزيد تعبها وألمها. أنا مابي شي، أبي أتعالج وأتعلم وأتوظف وأشيل نفسي، لكن مو قادرة».
نحن في حاجة إلى تسليط الضوء على ذوي الإعاقة من البدون، وإيصال أصواتهم وشكواهم، لينعموا بحياة أقل مرارة وتعاسة مما هي عليه.
وعلى مستوى الجنسين، يعاني بعضهم من حالات اكتئاب شديدة نظرًا للعزل المؤسسي والمجتمعي الذي يطولهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للانتحار. لا سيما وأن البيئة التي يعيشون فيها لا تتمتع بمؤهلات صحية لا على المستوى النفسي ولا المادي، فمعظمهم تقطن أسرهم في بيوت الصفيح التي تضيق بأهلها، وقد يتجاوز عدد الأفراد في المنزل الواحد 15 شخصًا. تخيل أن من يعاني من إعاقة كاملة تتطلب منه التزام السرير، قد يسكن مع خمسة أشخاص آخرين في غرفة واحدة. لا يملك المعاق البدون حق الرعاية السكنية من الدولة، وبعض الرجال من المعاقين البدون أوصلهم الحال لأن يسكنوا المساجد بعد أن ضاقت بهم بيوتهم.
تواجه هذه الفئة حرمانات تتضاعف يومًا بعد يوم، وعجزًا متواصلًا يتمثل في عجزهم الجسدي، وزيادة تعجيز من الدولة لهم من خلال سلسلة التعسف والتهميش التي تمارسها نحوهم منذ ولادتهم، دون أن يلتفت أحد إليهم، ودون أن تسري القوانين عليهم أسوة بذوي الإعاقة الكويتيين.
نحن في حاجة إلى تسليط الضوء على ذوي الإعاقة من البدون، وإيصال أصواتهم وشكواهم، لينعموا بحياة أقل مرارة وتعاسة مما هي عليه. علينا أن نتفقد صحتهم الجسدية والنفسية، ونساعد من يطلب المساعدة منهم، ونكتب عنهم ليفهم حالتهم الكثيرون، حتى لا نجعلهم على ركن الهامش.