لا يعاني العالَم من قلة ناقدي الرأسمالية بالتأكيد، لكن النقد الذي قدمه «أمارتيا كومار سِن»، عالم الاقتصاد الهندي، كان الأفضل في القرن العشرين، بحسب ما يؤكده مقال «تيم روغان»، أستاذ التاريخ في جامعة سانت كاترين في كامبريدج.
يأتي النقد الكلاسيكي الموجه إلى الرأسمالية في شكل أساسي، وهو النقد الأخلاقي الذي يرفض كون «الإنسان الاقتصادي» الفكرة المنظمة للعلاقات الإنسانية، ويقول إننا نحتاج إلى ما هو أكثر من الأمور المادية لتحقيق الازدهار.
يعير هذا النوع من النقد العلاقات الأخلاقية والروحانية اهتمامًا كبيرًا، ويرى أن الإصلاحات المادية، مثل الارتقاء بمتوسط الدخل الأساسي العالمي، لن يغير شيئًا في المجتمعات التي فيها خلل في توزيع الثروات.
أما المؤيدين للتصورات الرأسمالية عن المجتمع والحياة فيعتمدون وجهة النظر المادية، التي تدعم فكرة أن الإنسان الاقتصادي هو نقطة البداية الصحيحة للفكر الاجتماعي. فبالنسبة إليهم نحن آلات حاسبة فقيرة أحادية التفكير، ونفشل في رؤية أن مصلحتنا تتمثل في التوزيع الراشد للرخاء بين المجتمعات. ونتيجة لهذا، يظهر انعدام المساواة ونمو الأجور غير المحكوم، ومن ثَمَّ التركيز على تدارك عدم المساواة في توزيع المواد.
يبدو الجدل حول النقد الأول كوسيلة للإصلاح الاقتصادي متراجعًا الآن، إذ يسيطر النقد المادي، وتندمج الأفكار في الأرقام، ويخفت صوت الحديث عن القيم غير المادية في الاقتصاد السياسي، وتتضخم النفعية بشكل كبير وقهري.
وبين النقدين والجدالات المثارة حولهما، تظهر رؤية سِن الفريدة.
سِن دون غيره
لم يكن نبوغًا خارقًا، أو فكرة شخصية غريبة، كان جهدًا بشريًّا متواصلًا، ووضعًا للأفكار القديمة كلها في خليط وقالب جديد لمعالجة المشكلات الجديدة. دراسة الاقتصاد والرياضيات والفلسفة الأخلاقية كانت الأدوات التي استخدمها سِن لبناء نقده، لكن تأثير مدرسة طاغور، أحد أهم شعراء ومفكري الهند، دفعه إلى رؤية الترابط الدقيق بين حياتنا الأخلاقية واحتياجاتنا المادية، واستنباط أن الفصل الحاد بين المجالين فصل عابر، بل مؤذٍ.
وُلدت أفكار سِن في مدرسة طاغور في سانتينيكيتان بولاية البنغال، حيث درس لفترة، وعززت المناهج التربوية بالمدرسة نقطة العلاقات بين وجود الشخص المادي والروحي، من حيث أهمية كليهما وضرورته، لكن المجتمعات الحديثة تميل إلى التشويش على العلاقة السليمة بينهما. وفي معهد سانتينيكيتان، استكشف التلاميذ العالم الطبيعي بشكل غير منظم عبر تأملات موجزة في الفنون، وتعلُّم فهم أنفسهم الوجودية والروحية.
في أعمال سِن يندمج النقدان الموجهان إلى الرأسمالية. فنحن ننتقل من الاهتمامات الأخلاقية إلى النتائج المادية، ونعود مرة أخرى دون أن نشعر بما يفرق بين الاثنين، ذلك أن سِن لا يفصل بين المشكلات الأخلاقية والمالية والاقتصادية، بل يتعامل معها دون تفريق، ودون تفضيل أحدها على الأخرى.
ترك سِن معهد سانتينيكيتان في نهاية الأربعينيات، وصار شابًّا جاهزًا لدراسة الاقتصاد في مدينة كلكتا، ثم سافر إلى كامبريدج. كان الجدل المثار حينها هو نظرية الرفاهية، وتأثر الجدال بالحرب الباردة بين السوق وحريته في الدول الرأسمالية، والنماذج المعتمدة على الدولة في النظام الاقتصادي كما في الدول الاشتراكية والشيوعية.
سعى اقتصاديو الرفاهية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين إلى نزع الروابط بين الوجود المادي والأخلاقي، وأصروا على أن الدولة يمكن أن تشرِّع برامج إعادة التوزيع عن طريق اللجوء إلى المبادئ النفعية الصارمة، دون أي اعتبار لأي قواعد أخلاقية.
وقتها كان النقد المادي للرأسمالية في أوجِه، فتعاطف سِن من وجهة نظر اجتماعية ديمقراطية وعادَى السلطة، وكان رده أن تعظيم الفائدة ليس الأمر الشاغل للجميع، وأنه حين تحرك الحكومة المال بهدف تحقيق الرفاهية دون اعتبار للإنسان، فهذه وسيلة معيبة.
المجاعة لا تعني نقص الطعام
انخفاض الأجور والبطالة أسباب مؤثرة في حدوث المجاعات، والأمر لا يقتصر على التصور الساذج بنقص كميات الطعام.
بحسب سِن، فالجوع أخطر مراحل نقص الموارد، لكن المجاعة، عكس التصور الشائع، نادرًا ما تحدث بسبب نقص الطعام.
يأتي اهتمام أمارتيا سِن بالأساس من تجربة شخصية، إذ شهد مجاعة البنغال 1943 في عمر التاسعة، واستنتج بعدها أن كل الوفيات التي حدثت لم تكن ضرورية، وآمن بأنه كان هناك ما يكفي من الطعام، لكن مجموعة من الناس (في هذه الحالة كانوا العمال) فقدوا وظائفهم، ولذلك فقدوا قدرتهم على شراء الطعام.
رأى سِن أننا لكي نفهم لماذا يجوع الناس، علينا أن لا نبحث عن الفشل في زراعة المحاصيل، بل عن الاختلال الأخلاقي في الاقتصاد الذي يخلق الصراع على سلعة نادرة. تفاوُت توزيع المواد هو المشكلة الحقيقية، والتعديلات التدريجية لآليات الإنتاج والتوزيع لن تحلها. يجب أن توضع العلاقات بين الأفراد المختلفة في الاقتصاد بصورة صحيحة، وحينها فقط سيكون هناك ما يكفي من الموارد للجميع.
وفقًا له، هناك أسباب وعوامل اقتصادية واجتماعية تكون مؤثرة في حدوث المجاعات، مثل انخفاض الأجور والبطالة وارتفاع أسعار الأغذية، فالأمر لا يقتصر على التصور الساذج بنقص كميات الطعام.
لا يهتم سِن بالاقتصاد فقط، بل هو كذلك مدافع عن الحريات السياسية، ويؤمن أن المجاعات لا تحدث في الديمقراطيات العاملة، لأن قادتها يكونون أكثر استجابةً لمطالب المواطنين، وأن تحقيق النمو الاقتصادي لا يحدث إلا حين يسبقه إصلاح اجتماعي، مثل تحسين التعليم والصحة.
اقرأ أيضًا: هل تنقذنا الزراعة تحت الماء من أزمة الغذاء؟
من النظرية إلى التطبيق: أثر نظريات سِن
كل عمل يتعلق بتفاوت توزيع الموارد في القرن الحادي والعشرين يدين بالكثير لنظريات سِن، الذي تأثرت بأعماله منظمات وحكومات دولية تعالج مشكلات الغذاء، وشجعت آراؤه صناع القرار على الانتباه، ليس فقط لحل المعاناة بشكل فوري، بل لإيجاد بدائل لفقد الفقراء دخولهم، والحفاظ على أسعار مستقرة للمواد الغذائية.
لم يكن سِن بمفرده، فقد وافقه في نظرياته «كينيث أرو»، الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل.
رأى أرو ضرورة دمج الاقتصاد في الأُطر الأخلاقية والاجتماعية، لكن سِن «رأى» كيف يمكن تحقيق ذلك، وأدرك في لحظات متقدمة من تاريخ الاقتصاد السياسي الحديث أن الفصل بين حياتنا الأخلاقية وحياتنا المادية فاق التصور، وأن النفعية في حالة من التضخم المهيب. شعر سِن بهذا المناخ، ومن هنا طوَّر أفكارًا ومناهج تحليلية لمحاربته.
اقرأ أيضًا: التكنولوجيا تتدخل لإنقاذ العالم من أزمة الغذاء
كان هناك اتجاهان واضحان للتعامل مع الرأسمالية: التعامل النفعي الواضح المؤيد، والتعامل الأخلاقي الرافض. لكن كلاهما وجب دمجه في نقد واحد. «أمارتيا سِن»، كما يرى تيم روغان، قد يكون أعظم ناقد للرأسمالية في القرن الجديد، لأنه ببساطة نفذ هذا الدمج ووضَّح طرقه وآثاره.