يحلم الإنسان بشيء ما، يتماهى مع هذا الحلم تمامًا، يخاف الخسارة، لكن يستمر في وعيه «هاجس المغامرة»، أن يخاطر من أجل احتمالية تحقيق ما يريد. والمغامرة بطبعها تحتمل المكسب والخسارة، إما أن يلتحق بعالمه المتخيل، أو يفقد عالمه الحالي بكل مميزاته، إلى الأبد.
المغامرة قد تكون بحجم حلم بعمل تحقق فيه موهبتك، تترك من أجله عملك الرتيب لكنه مضمون، أو بحجم حلم جماعي بعالم يحقق المساواة الاجتماعية لكل البشر، يخاطر فيه الناس بحياتهم نفسها، أو مغامرة بإخبار من نحبه بحبنا، نغامر بصداقة جميلة ستهتز فور تعبيرنا عن مشاعرنا.
يضغط الحلم عليك، فيصير عالمك الرتيب المطَمئِن رغم كل مميزاته جحيمًا لا تعرف كيف تستمر فيه، فتقامر به، إما تربح عالمًا جديدًا، أو تفقد عالمك القديم، الذي فقدته بالفعل لحظة التفكير في المغامرة.
الخسارة احتمال دائم لأي مغامرة، والنجاح احتمال قائم على الدوام. المغامرات الخاسرة قد تكون إعلان ضجر نهائي من العالم، لكنها بالتأكيد ليست بداية لعالم جديد.
حين نقرر أن نخبر من نحب بمشاعرنا بوضوح، نكون قد استهلكنا قدراتنا في تحمُّل هذه الصداقة بشكلها الحالي رغم أننا فيها نكون بجوار من نحبهم، غير أن ذلك يؤلمنا لا يخفف عنا، فنقرر أن فقدان هذه الصداقة من أجل احتمالية حب، مهما كانت ضئيلة، مخاطرة مقبولة. وحين يترك أحدنا عمله لأجل عمل أقرب إلى رُوحه، يكون بالفعل قد فقد عمله القديم وانتهت إمكانية استمراره في الإنتاج فيه.
وحين يغامر آلاف الناس بأنفسهم من أجل حياة أفضل، تكون حياتهم الحالية واطئة عليهم لدرجة أنهم مستعدون لدفع أي ثمن للانفلات منها، رغم أن حياتهم القديمة تلك قد تكون مقبولة وجيدة موضوعيًّا، لكن المغامرة بطبيعتها غير محافظة، وهي بنت التماهي مع الحلم، لا بنت البحث عن الاستمرار في محض الوجود لأطول فترة ممكنة.
في المقابل، يشعر العالَم القديم بالتهديد من أي مغامرة، تتحفز أعصاب المجتمع حين يواجه فعلًا خارجًا عن مألوفه. وفي مواجهة حس المغامرة، يفكر المجتمع أو العالَم القديم في «إدارة مخاطر» هذه المغامرة، يشعر الأهل بالتهديد حين يترك أحد أبنائهم عالمه الرتيب لصالح حلم يرونه سيضيع عليه كل شيء، ويحاولون توجهيه أو مساومته في قراره، وتتشدد السلطات حين تواجه حركات تغيير سِلمي ترفض الاعتراف بالقديم كما هو، وتحاول السلطات أن تمنحهم الحد الأدنى لتوقف طموحاتهم، أو تخيفهم جدًّا بحيث يتخلون عن ذلك، ويرتبك الناس حين يجدون علاقاتهم الشخصية بحاجة إلى تعريف جديد، وأنها لن تستطيع الاستمرار بشكلها الحالي، لكنهم يحاولون جعلها تستمر أطول فترة ممكنة مع بعض التغيير غير الجذري في تعريفها.
لكن المغامرة ليست، تمامًا وإلى الأبد، أمرًا إيجابيًّا. وصحيحٌ أن الخسارة احتمال دائم لأي مغامرة، لكن النجاح يجب أن يكون احتمالًا قائمًا على الدوام. المغامرات الخاسرة أو العدمية قد تكون إعلان ضجر نهائي من العالم، أو حكمًا أخلاقيًّا سلبيًّا على القديم، لكنها بالتأكيد ليست بداية لعالم جديد.
تشكل «المغامرة» هاجسًا لكل هذه الأسباب، لأنها أمر نندفع إليه فجأة بعد فترة طويلة من التفكير فيه.
ونحاول في هذا الهاجس الشهري أن نرصد المغامرة كمحرك لسياسيين يحاولون تغيير مجتمعاتهم أو تطبيق أفكارهم رغم كل المعوقات، أو رياضيين تحركهم المغامرة لتحقيق إنجازات مستحيلة، أو علماء تغريهم أحلامهم العلمية كعباس بن فرناس ومحاولته للطيران، أو حتى الفنانين الذين يقررون المغامرة باختراع نمط تعبيري جديد في فنهم، سواء في الرسم أو السينما أو الموسيقى. ما الذي يدفع كل هؤلاء لمواجهة احتمالية الخسارة؟ كيف يحاول الآخرون تحجيم مغامرتهم تلك؟ كيف تنجح المغامرة؟ كيف تعيد تشكيل العالم إن نجحت، أو تجبر الآخرين على العيش في حيواتهم القديمة في حال فشلها؟