هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
قضى المثليون وعلماء الأحياء والنفس وقتًا طويلًا في بحث مسألة المثلية الجنسية، واكتشاف طبيعتها وماهيتها وكيف تنشأ. العديد من الدراسات والأبحاث أجريت على البشر والحيوانات، لاكتشاف مدى طبيعية هذا التوجه الجنسي. وبعدما قضت البشرية عمرًا طويلًا تعتقد أن المثلية شذوذ عن الطبيعة، خرجت الكثير من الدراسات لتخبرنا بأنها فعل فطري لدى بعض البشر والحيوانات، يكون فيهم منذ تكوينهم، تمامًا كالمغايرة (اشتهاء الجنس الآخر).
إلا إن هناك أوضاعًا اجتماعية قد تتدخل في خلق هذا التوجه لدى الفرد، فتجعل من المثلية أمرًا مكتَسَبًا.
ما هي المثلية الطبيعية؟
المثلية هي توجه الرغبة الجنسية لدى الإنسان إلى من يماثله في الجنس؛ كرغبة الذكر في الذكر والأنثى في الأنثى. وتذكر بعض الأبحاث أن المثلية الجنسية «تابعة لما يسمى بالتوجه الجنسي (Sexual Orientation)، الذي يرتبط مباشرةً بالخريطة الدماغية للكائن. تخيل أن التكوين الجنيني عبارة عن طبخة فيها مقادير وعناصر: الوصفة هي الحمض النووي (DNA)، والمقادير هي الهرمونات والعناصر البروتينية لبناء الأعضاء، وفي مرحلة التكون الجنيني للدماغ تعمل ثلاثة هرمونات أساسية على تحديد التكوين الجنسي للكائن؛ هي التستوستيرون والإستروجين والبروجسترون».
لاحظ العلماء ممارسات مثلية بقصد المتعة بين الحيوانات؛ مثل الشامبانزي والأسد والدولفين والفيل.
وتشير الأبحاث إلى أن التفاوت في نسب هذه الهرمونات «يؤثر بشكل مباشر على التشكل الدماغي والعضوي للجنين، ويحدد توجهه الجنسي، وهذا يعني أن أي تغيُّر في المقادير يؤثر بشكل مباشر على الوصفة وعلى النتيجة النهائية للطبخة. هذه الهرمونات تُفرَز في مراحل التكوين الدماغي للجنين، فتعمل على توجيه التطور الجنيني؛ إما إلى البقاء أنثى أو التحوُّل إلى ذكر (جميع الأجِنَّة تكون إناثًا في البداية)، وبالتالي تتفعَّل الجينات الذكرية في التطور».
«في 8% تقريبًا من جميع حالات الحمل عند الإنسان، تكون المقادير الهرمونية غير متناسبة مع جنس الجنين لإنتاج توجه جنسي مغاير؛ فيأتي الجنين الذكر أو الأنثى مثليَّ التوجه أو مخنثًا، وهذا يفسر استمرار المثلية على الرغم من أنها تشكل ضغطًا انتقائيًّا طبيعيًّا على أصحابها؛ لأن العملية لا تتعلق بالحمض النووي، وإنما بتضارب المعدلات الهرمونية أثناء الحمل مع جنس الجنين. فمثلًا، نسبة تستوستيرون عالية عند جنين أنثى تعني إنتاج فتاة مثلية، ونسبة تستوستيرون قليلة عند جنين ذكر تُنتج رجلًا مثليًّا، في حين أن نسبة تستوستيرون عالية عند ذكر تؤدي إلى خلق رجل مغاير جنسيًّا، وهكذا».
قد يهمك أيضًا: ما هي الهوموفوبيا ولماذا يخاف البعض من المثليين؟
ويشترك الإنسان مع بقية الثدييات في ذلك؛ فقد لاحظ العلماء ممارسات مثلية قصدها المتعة لا التكاثر لدى الحيوانات؛ مثل الشامبانزي والأسد والدولفين والفيل، كما لوحظ ذلك لدى بعض الطيور أيضًا؛ كالصقور والحمام والبطاريق.
ماهي المثلية المكتسَبَة؟
المثلية المكتسبة هي الحالة التي تنتاب شخصًا وُلِد مغايرًا، ثم تكونت لديه رغبة مثلية فيما بعد، هذه الرغبات تظهر إما بسبب العلاقة مع الوالدين (الابن بالوالد والبنت بالأم)، أو بسبب اعتداء جنسي مثلي وتحقُّق متعة مثلية جراء ذلك، أو ما يهمنا هنا وهو المثلية الناتجة عن الفصل بين الجنسين، وهي ما يطلق عليها علميًّا «السلوك الجنسي الظرفي» (Situational Sexual Behavior)، وهو ما يأتي بفعل الظرف المكاني ويؤدي إلى سلوك جنسي يتسق مع المكان.
هل يؤدي الفصل بين الجنسين إلى المثلية؟
يذكر علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي، في كتابه «مهزلة العقل البشري» أن الإحصاءات دلَّت على أن نسبة السلوك المثلي تزداد بين البحارة والجنود والمساجين، وفي كل مجتمع يخلو من النساء أو تتحجب فيه المرأة. فالرجل الذي لا يرى المرأة بقربه لمدة طويلة «يجد نفسه مدفوعًا إلى عشق الغلمان، الذين يشبهون النساء قليلًا أو كثيرًا. إنه يريد التعويض بالغلام عن المرأة التي فارقها».
ويؤكد الوردي أن البرتغاليين حين سيطروا على الخليج الفارسي، كانوا «من أكثر خلق الله لواطًا، وسبب ذلك أنهم كانوا بحارة يقضون في البحر زمنًا طويلًا على سفنهم القديمة، والمسافة بين الخليج والبرتغال شاسعة جدًّا؛ وكانوا يقطعونها في ذلك الحين عبر طريق رأس الرجاء الصالح في شهور عدة، والبحارة بوجه عام ميالون إلى الانحراف الجنسي؛ وذلك لطول المدة التي يفارقون فيها المرأة على ظهر السفن».
قد يعجبك أيضًا: التمرد على التقاليد في إيران.. رجال محجبون ونساء سافرات
يحلل عالم الاجتماع العراقي السلوك المثلي الظرفي بصفته عملية تعويضية للرجل عن عدم وجود المرأة، وهذا يجري أيضًا بالنسبة للنساء اللاتي يفتقدن وجود الرجال في محيطهن؛ فيلجأن للسلوك المثلي للتعويض.
واستشهدت دراسة أجراها الدكتور عبد الله يوسف، أستاذ علم الاجتماع، ضمن ورقة عمل شارك بها في ندوة جمعية النهضة النسائية الخيرية السعودية عام 2006، عن التحرش الجنسي المثلي في أوساط المراهقين والمراهقات، بإحصائية لوزارة التربية والتعليم السعودية أشارت إلى أن العلاقات السحاقية في مدارس البنات تمثل 46%من الممارسات التي تصنف على أنها قضايا أدينت فيها الفتاة.
لطيفة (24 عامًا) فتاة من الكويت، تقول لـ«منشور» إنها كانت لها ممارسات مثلية مع بعض زميلاتها في المدرسة خلال المرحلة الثانوية، لكنها انتهت الآن: «كانت تلك مرحلة المراهقة واكتشاف الجسد ورغباته، وكانت الإناث هن الجنس الأكثر إحاطة بي، وأبدت بعض الفتيات استعدادًا لخوض هذه التجربة. كان الدخول في علاقة مع فتاة أسهل بكثير، وليس محط شكوك من قبل الأهل الذين يرفضون العلاقات بشكل عام. ظننت أنني مثلية في وقتها، لكن في الجامعة أحببت رجلًا وتزوجت منه».
قد يهمك أيضًا: المثلية المسكوت عنها في الخليج
عزل الإنسان المغاير عن الجنس الآخر لفترة يضغط عليه نفسيًّا، ليتحول من السيطرة إلى الكبت إلى محاولة إيجاد بديل.
وعودة إلى علي الوردي وكتابه «مهزلة العقل البشري»، نراه يذكر أن «اللواط (المثلية) انتشر في ألمانيا قبل العهد الهتلري، ويبدو أن التقاليد البروسية العسكرية ساعدت على نشره هناك؛ فالمحاربون الذين ينقطعون عن أهلهم في الخنادق مضطرون لأخذ اللواط لهم عادة، وهذا هو الذي جعل الجيوش في الحرب العالمية الثانية تصطحب معها مجندات؛ فتمنع جنودها بذلك من التطلع إلى الغلمان بينهم».
ويضيف الوردي: «انتشر اللواط بين أولى المراتب العالمية في الدولة العثمانية البائدة، وربما نشأ هذا فيهم من تقاليدهم العسكرية القديمة، وكثير منهم كانوا في صباهم من المماليك؛ فقد كانت الدولة تشتريهم من أهاليهم غلمانًا صغارًا، فتضعهم في مدارس داخلية ليتعلموا فيها الفنون العسكرية، وصارت الأَبَنَة (أي المعاشرة المثلية من الدبر) أمرًا مألوفًا بين رجال الدولة في ذلك العهد، حتى أطلق عليها (مرض الأكابر). ولا يزال ذلك مألوفًا بين باشوات مصر الذين ينحدرون من أصل تركي، وينتشر أيضًا بين الرهبان الذين ينقطعون لعبادة ربهم في الأديرة المنعزلة، وكذلك بين رجال الدين الذين يعيشون في مراكز دينية تتحجب فيها المرأة أو يقل وجودها فيها».
إن الوضع النفسي الذي يكون فيه الإنسان المغاير، حين يُعزل عن الجنس الآخر لمدد طويلة، يضغط عليه ليتحول من السيطرة على الرغبات الجنسية إلى الكبت، إلى محاولة إيجاد بديل لتفريغ هذه الطاقة. لكن هل يتحول هذا التفريغ من مسألة وقتية بهدف الإشباع إلى مسألة مستمرة؟ وهل المتعة الخاصة المتحققة لدى الشخص تستمر معه حتى بعد توفر الإشباع من الجنس الآخر، فتبقى متعة الممارسة المثلية كرغبة جديدة تحتاج إلى إشباع أيضًا؟
ممارسة أم هُوية؟
تكمن الإشكالية في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية التي تُفرض على الشخص؛ كالقيود المجتمعية والدينية، والظروف الطارئة (الحروب)، وأي أوضاع أخرى تعزل الجنسين عن بعضهما كطبيعة العمل، لأنها تتسبب في لجوء بعض المغايرين خلالها إلى الممارسات المثلية، التي قد تُكوِّن لديهم رغبة مثلية مستمرة، وتسهم في تأطير هذا الظرف الاستثنائي في هُوية جنسية محددة.
مثل هذه الأوضاع قليلة في العالم الغربي، المهتم بشكل أكبر بطرح المثلية كهُوية للفرد. فالفصل بين الجنسين لا يكون إلا في السجون أو أماكن أخرى قليلة (تحصل فيها هذه الممارسات)، على عكس الشرق؛ الذي يعد بطبيعته مجتمعًا دينيًّا، وكثيرًا ما يخضع لهذا النوع من الفصل في المدارس و الجامعات والبيوت والعمل وبعض الأماكن العامة، لذلك لا يمكن إسباغ أدوات البحث في المثلية الجنسية كهُوية لدى الغرب، نفسها على الشرق دون التطرق لطبيعة المجتمعات وما تخلِّفه من رغبات تأتي بشكل مختلف.
اقرأ أيضًا: المأساة الجنسية في العالم العربي
في مقالها بـجريدة الأتلانتك (The Atlantic)؛ أكدت الصحافية السعودية نادية لابي أنها التقت أشخاصًا من مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، أخبروها بأن العديد من الأولاد يقيمون علاقات جنسية مع من يماثلونهم جنسيًّا، لكنهم لا يرون أنفسهم مثليين، كما شارك ناشط حقوق الإنسان أبو بكر باقادر في تحقيقها الصحفي، ليشدد على أن «المثلية هنا تعتبر مجرد مرحلة يمر بها الشخص، خصوصًا في سن الشباب».
والسؤال بعد كل هذا سيكون: هل تعتبر هذه الممارسة هُوية مثلية، أم يمكن أن نعتبر من تولَّدت لديه هذه الرغبات قد أصبح مزدوج الميول الجنسية؟ إنها إشكالية النزاع بين ما هو ممارسة وما هو هُوية، فهل نحتاج فعلًا إلى وضعه في خانة معينة وتصنيفه؟ ما هي أهمية أن تُتخذ هذه الممارسات كهُوية يعرِّف بها المرء نفسه، إن كانت مجرد تفريغ ظرفي لوضع غير طبيعي؟ هذه تساؤلات نهملها في مجتمعاتنا لعدم رغبتنا في التطرق لمواضيع كهذه بحجة «العيب»، بينما قد نكون بحاجة إلى البحث فيها ونحن نعيش في هذا العالم المتغير.