يقتضي تحمُّل الإنسان لمسؤولية حياته، وما بها من قرارات مصيرية وتحديات عليه مواجهتها، أن يكون سيد قراره، مسيطرًا على أفعاله ومشاعره وأفكاره قدر الإمكان. لكن ماذا لو أننا في حقيقة الأمر ليس لنا من الأمر شيء؟ فلا نختار أفكارنا وما يعترينا من مشاعر، بل إننا فقط مجرد مُستقبِل لها.
نشر موقع «Frontiers» تفاصيل دراسة من شأنها إعادة تفكيرنا في وجهة النظر القائلة بأن الإنسان هو من يصنع معتقداته وينتقي أفكاره، وبالتالي يختار تجارب حياته اليومية. وميَّز العلماء، في الدراسة، بين مفهومين أساسيين متعلقين بالوعي: الأول أطلقوا عليه «تجربة الوعي» أو «الوعي الشخصي»، والثاني محتوى هذا الوعي.
يتضمن الجزء المتعلق بمحتوى الوعي كل ما لدى الإنسان من أفكار ومعتقدات ومشاعر وقيم ونوايا وذكريات. اعتقد الإنسان في ما مضى أنه متحكم في اختيار هذه المكونات بما يمتلكه من وعي. فعلى سبيل المثال كان يعتقد أن الأفكار لا تظهر إلا إذا تعمَّد التفكير فيها، فتأخذ صورتها المعروفة كفكرة.
في مقعد المتفرج
الدراسة التي أعدها الباحثان البريطانيان «ديفيد أوكلاي» و«بيتر هاليغان»، أثبتت أن الوعي البشري ليس سبباً مباشراً يجعلنا نختار معتقداتنا ومشاعرنا وأفكارنا، أو ما أسموه «محتوى الوعي»، بل إن مكونات هذا المحتوى تتشكل في «كواليس» عقولنا، دون وعي منا، وذلك من خلال أنظمة في اللاوعي، في حين يجلس الوعي في مقعد المتفرج في أثناء إتمام تلك العملية. باختصار، فإننا لا نصنع أفكارنا، بل نعيها فقط بعد ظهورها.
قد تبدو فكرة أن الإنسان مجبر على اعتناق بعض الأفكار غريبة، لكن ربما تزول الدهشة عند التفكير في كيفية استعادة الإنسان لوعيه عقب الاستيقاظ من نوم امتد لساعات، وكيف تحضر الأفكار والذكريات، وربما المشاعر أيضًا، للإنسان بعد استيقاظه دون أدنى مجهود منه، ودون تحضير «واعٍ» لما يريده، وتجنب ما لايريده من أفكار وصور لبعض الناس.
التنويم المغناطيسي قد يكون وسيلة لإقحام فكرة ما في عقل الإنسان، وهذه الفكرة لها قوة تغيير معتقدات الإنسان وسلوكياته.
وعلى الرغم من أن حياة الإنسان وجميع حركاته وسكناته تسير بنفس الطريقة العفوية التي يتشكل بها محتوى وعيه، فإنه من الصعب على الإنسان العادي تخيل العمليات التي بحثها علم النفس العصبي، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن العمليات التي تحدث لتحريك جسم الإنسان وتكوين العبارات التي تشكل حديثه تحدث دون أدنى تدخل من الوعي.
أجرى مختصون في علم النفس العصبي دراسات أثبتوا من خلالها أن المقترحات التي تعرض على الإنسان من شأنها تغيير أفكاره دون وعي منه، ولإثبات ذلك أحضروا عددًا من الأشخاص لتنويمهم مغناطيسيًّا بهدف لدخول في حالة من التركيز العقلي، وعندئذ عُرِضَت عليهم بعض المقترحات في محاولة لتغيير ما لديهم من معتقدات مبنية على تجارب عاشوها.
فعلى سبيل المثال، في إحدى هذه التجارب، رصد العلماء طبيعة نشاط المخ في أثناء رفع ذراع الشخص المنوَّم مغناطيسيًّا بواسطة رافعة، وخلال رفعه لذراعه تحت تأثير مقترح عُرِضَ عليه خلال تنويمه مغناطيسيًّا، وكذلك راقبوا نشاط المخ عندما رفع الشخص ذاته ذراعه وهو في حالته العادية، وفي كامل وعيه.
اكتشف الباحثون أن نفس المناطق في المخ تنشط في حالتي رفع الذراع بواسطة الرافعة، ومن خلال عرض المقترح على الشخص المنوم مغناطيسيًّا، في حين أن مناطق مختلفة من المخ تنشط في حال رفع الذراع بشكل متعمَّد وواع، ما جعل العلماء يقولون إن التنويم المغناطيسي قد يكون وسيلة لإقحام فكرة ما في عقل الإنسان، بل إن هذه الفكرة لها قوة تغيير معتقدات الإنسان وسلوكياته.
قد يهمك أيضًا: الوعي: محاولات اصطياد شبح
هل الوعي وهم صنعته النظريات؟
خرج العلماء من تلك المعضلة بأن الأفكار والمشاعر والمعتقدات، وإن كانت تتشكل في اللاوعي لدى الإنسان من خلال تجاربه، فإنها تتبلور في شكل الكلام الذي يتحدث به الشخص عن نفسه للآخرين، والذي يحدث تطويره بصفة مستمرة، وأكدوا أن حديث الشخص عن نفسه يسير بالتوازي مع الوعي، لكن الوعي لا يؤثر في تغيير هذا الحديث.
تكمن أهمية حديث الشخص عن نفسه في أنه يمثل سيرة ذاتية للإنسان يستخدمها عند الحاجة أمام الآخرين، ويعد أداة للتواصل بين البشر وتبادل الخبرات والآراء، ما يجعل المجتمع البشري يشترك في تطوير استراتيجيات بعينها لتجاوز عقبات الحياة المختلفة.
مثال ذلك، تعلُّم التنبؤ بسلوك الآخرين، وهي مهارة لا تكتسب إلا بالتفاعلات الشخصية التي يضيف كل شخص خلالها خبرته إلى الآخر، ويؤدي في النهاية تعلُّم مثل هذه المهارة إلى تطوير البنية المجتمعية والثقافية البشرية عبر آلاف السنين، نستنتج من هذا أن الحديث الشخصي للإنسان الذي يشكله اللاوعي هو ما يتحكم في تطور البشرية، وليس الوعي.
قد يتساءل بعضهم عن أهمية الوعي إذا كان ليس له دور في تشكيل أفكار الإنسان وتصرفاته. أجاب الباحثون عن هذا بأن وعي الإنسان يمثل له ما يمثله قوس قزح في الطبيعة. فقوس قزح ما هو إلا انعكاس وانكسار لضوء الشمس الذي يمر من خلال رذاذ المطر. كذلك الوعي، ما هو إلا انعكاس للأفكار والمعتقدات التي يشكلها اللاوعي. لكن في الحقيقة، فإن كلًّا من الوعي وقوس قزح ليس لهما غرض محدد، بحسب نظرية الباحثين.
تثير مثل هذه التجارب تساؤلات حول مصدر أفكارنا وعواطفنا ومعتقداتنا. وإن كانت هذه المكونات التي عرفناها بمحتويات الوعي لا تتشكل عن قصد من الإنسان، فهذا يأخذنا إلى فكرة أن الإنسان ربما لا يكون مسؤولًا عما يصدر منه من تصرفات وأقوال وقرارات.
ويرى العلماء أن مسألة كون الإنسان حر الإرادة ومسؤولًا عن أفعاله مجرد نظريات وُضِعَت خلال مسعى الإنسان لتعريف نفسه وإدراك خصوصية نوعه، لكننا نجد أن هذه النظريات وُضِعَت عن طريق اللاوعي الذي شكله الحديث الشخصي الذي نقل بدوره تجربة الإنسان عبر الأجيال. فهي سلسلة مبنية على الملاحظات الذاتية في نهاية الأمر، العلم ليس محايداً إلى هذه الدرجة.
اختتم الباحثان نظريتهما في النهاية بالتأكيد على أنه ليس معنى أن الوعي يجلس في مقعد المتفرج أن نتخلى عن المفاهيم المترتبة عليه، مثل الإرادة الحرة والمسؤولية الشخصية، لأن مفاهيم الوعي لا تزال تشكل جزءًا أساسيًّا من منظومة عمل أدمغتنا، ولها دور في الطريقة التي نفهم بها ذاتنا.