في خريف عام 2011، كان «جو إيرل» و«كاهال موران» و«زاك وارد بيركنز» طلابًا يدرسون الاقتصاد في جامعة مانشستر. وفي ذلك الوقت، كانت أوروبا تمر بواحدة من أشد أزماتها الاقتصادية، والبنوك على أجهزة الإنعاش تحاول التشبث بالحياة، وكان رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون يفرض على مواطنيه ترشيدًا خانقًا للنفقات يستمر عامًا بعد عام.
وجد هؤلاء الطلاب أنفسهم على حافة هُوَّة شاسعة تفصل بين الواقع وما يحدث داخل جدران الجامعة، فكانت النتيجة أن اشتركوا في تأليف كتاب «The Econocracy»، الذي أحدث صدًى واسعًا في علم الاقتصاد وطُرُق تدريسه في دول العالم.
تناول مقال على موقع جريدة الغارديان ظروف وملابسات ميلاد الكتاب، الذي يدعو إلى التفكير من جديد في نظريات الاقتصاد الشائعة وطُرُق تدريسها.
لماذا لا ندرس شيئًا عن الأزمة الاقتصادية؟
عندما كانت منطقة اليورو تواجه هذه الكارثة، بدت جامعة مانشستر وكأنها منفصلة عن العالم الخارجي. الأساتذة لا يذكرون الكارثة الاقتصادية التي تهز أركان القارة إطلاقًا، وما يسمعه الطلاب ليلًا في نشرات الأخبار لا يمُتُّ بصلة لما يدرسونه بالنهار في الجامعة.
في الكتاب، يقول المؤلفون الثلاثة: «في الجامعة كنا نحفظ ونكرر نماذج اقتصادية مجردة لا تمت للواقع، كل دورها استخدامها للإجابة على أسئلة الاختيار من متعدد في الامتحانات»، لكن سرعان ما تحولت الأزمة الاقتصادية في أوروبا إلى أزمة لعلم الاقتصاد بأسره.
قد يهمك أيضًا: كيف أدت سياسات صندوق النقد لتفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم؟
شعر الطلاب أنهم معرضون للبطالة أو العمل بوظائف هزيلة الأجر.
بعد عام من إجبار الطلاب على دراسة كل ما ليس له علاقة بالعالم الحقيقي الذي يعيشون فيه، أسس الطلاب «جمعية اقتصاد ما بعد الانهيار»، وكان أحد الأساتذة المتعاطفين معهم يُدرِّس لهم محاضرات ليلية حول الأحداث والرؤى الاقتصادية المختلفة التي لا يدرسونها نهارًا.
حشد الطلاب مئات الجامعيين الآخرين للتعبير عن استيائهم من المناهج في الاستطلاع الوطني لآراء الطلاب، ذي التأثير القوي، وهكذا حصل قسم الاقتصاد على أقل درجة في التقييم بين أقسام الجامعة، ممَّا يعكس عدم رضا الطلاب عن أداء الأساتذة الذين يعلمونهم.
انتشرت الدعوة في كليات دراسة الاقتصاد الأخرى عبر أوروبا، في غلاسغو الأسكتلندية وإسطنبول التركية، وحتى خارج القارة إلى كلكتا في الهند، وسرعان ما نشر طلاب الاقتصاد في العالم خطابًا مشتركًا موجهًا إلى أساتذتهم، يطلبون فيه عملية إصلاح شاملة للمناهج التي يدرسونها.
تعرضت دراسة علم الاقتصاد لتحديات تطالب بعملية إصلاح شاملة من قبل، ولكن لم يكن الأمر على هذا النطاق الواسع أبدًا، كما أن الانهيار الاقتصادي في عام 2008 أحدث فارقًا، فأصبح لدى الطلاب حُجَّة قوية يستندون إليها، وهي أن أساتذة الاقتصاد لا يتحدثون عن أكبر حدث اقتصادي شهده عصرهم في المناهج، ومن ثَمَّ فإن أي مادة علمية يدرسونها لا تستحق قيمة الحِبر الذي كُتبت به، والأهم أن النماذج الاقتصادية التي يتحدث عنها الأساتذة أثبتت فشلها على أرض الواقع.
اقرأ أيضًا: «بيتكوين» والعملات الرقمية: كل ما تريد معرفته عمَّا قد يكون مستقبل النقود
يشير المقال إلى أن أحد العوامل المؤثرة في انتشار الدعوة الطلابية أن هؤلاء الطلاب، الذين كانوا ليفضِّلون في الظروف الاقتصادية العادية دفن رؤوسهم في الرمال وانتظار فرص تدريب المتفوقين التي تقدمها الجامعات، أصبحوا معرضين لخطر البطالة أو العمل في وظائف هزيلة الأجر، والعيش مثقلين بديون رسوم الدراسة.
كتاب «The Econocracy»: الطلبة يعيدون تعريف علم الاقتصاد
يطرح كتاب «The Econocracy» عددًا من الحُجَج الرئيسية، أولها أن علم الاقتصاد نجح في شق طريقه إلى كافة جوانب الحياة العامة. فبمجرد تصفح إحدى الجرائد ستجد أن كل شيء يؤثر بصورة أو أخرى على «إجمالي الناتج المحلي»، بدءًا من المعاناة مع الأمراض حتى الاستمتاع بالأعمال الفنية، فأصبحت القيمة المادية هي السمة الأساسية التي تحدد معايير الأشياء في عصرنا.
يشير الكتاب كذلك إلى أن علم الاقتصاد الذي يُدرَّس اليوم له مفهوم ضيق للغاية ومستحدث إلى حدٍّ ما، إذ يرى الاقتصاد على أنه «نظام مميز يتبع منطقًا محددًا، غالبًا ما يكون آليًّا (...) ويمكن إدارته باستخدام معايير علمية»، وهذا شيء لم يكن ليعترف به اقتصاديون أقدم مثل «جون مينارد كينز» أو «كارل ماركس» أو «آدم سميث».
قد يعجبك أيضًا: كيف غيَّر كارل ماركس وجه العالم؟
الاقتصاديون والأثرياء لا يريدونك أن تفهم
في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ علماء الاقتصاد يصفون ذلك العلم بأنه كيان كُلِّيٍّ واحد. وعلى مدار عقود، كان مسؤولو الاقتصاد في الدول يُصدرون توقعات اقتصادية مكتوبة بلغة عادية، لكن بحلول عام 1961 صارت النصوص الاقتصادية تتكون من معادلات وكمٍّ هائل من الأرقام.
بحلول نهاية السبعينيات، كانت 99 مؤسسة تُصدر توقعات حول اقتصاد المملكة المتحدة، وصارت التوقعات الاقتصادية علمًا يتعامل مع الأرقام، محولًا الافتراضات البشرية الأساسية والهشاشة الاقتصادية إلى السلعة القابلة للترويج لهذا العلم الذي يبدو صارمًا.
عن طريق جَعْل هذا العلم الجديد شاملًا لكل مناحي الحياة، والتظاهر بأنه «فيزياء العلوم الاجتماعية»، استطاع علماء الاقتصاد تحويل جزء كبير من السياسة الاقتصادية إلى منطقة محظور على العامة الوصول إليها. وهذه هي التهمة الأخيرة التي يحددها مؤلفو الكتاب، إذ يقولون إننا «نعيش في وطن منقسم بين أقلية تشعر أنها تمتلك لغة الاقتصاد وغالبية لا تمتلك منه شيئًا».
هذا الوضع الراهن يناسب تمامًا الطبقة الثرية صاحبة النفوذ في المجتمع، وسيجد من يدافع عنه بضراوة. وكما يقول السياسيان البريطانيان «إد ميلباند» و«جيريمي كوربين»، فإننا لو اقترحنا سياسات تتحدى النظرة السائدة المحدودة، سرعان ما سنجد من يصِمُنا بأننا جاهلون اقتصاديًّا، حتى لو كانت السياسات التي نقترحها منطقية. وغالبًا ما يُستبعَد الأكاديميون الذين يتبعون فكرًا اقتصاديًّا مختلفًا من الكليات والدوريات العلمية الكبرى.
قد يهمك أيضًا: كيف يعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
بحسب المقال، يعكس الكتاب بوضوح موهبة مؤلفيه الشبَّان، الذين يدعمون آراءهم بأبحاث أجروها بأنفسهم وأدلة تثبت وجهة نظرهم من أعمال السياسي الذي شغل منصب وزير الأعمال في بريطانيا سابقًا، «فينس كيبل»، والفيلسوف الأمريكي المهتم بالاقتصاد «نعوم تشومسكي»، مع الاحتفاظ بنبرة هادئة ورصينة على مدار صفحات الكتاب دون إظهار الغضب أو الاستياء.
لا تفهم.. احفظ
تختبر الجامعة قدرة الطلاب على الحفظ وتتجاهل مهارات التفكير.
الجزء الصادم في الكتاب كان ما يتعلق بالمعايير التي تجعل من المرء عالم اقتصاد، إذ حلل المؤلفون 174 مادة اقتصاد في سبع جامعات تنتمي إلى مجموعة «Russell»، التي متمثل أهم جامعات بريطانيا، ممَّا يجعلها أكثر مراجعة نقدية شاملة معروفة للمناهج الدراسية.
بالتركيز على الاختبارات، وجد المؤلفون اعتمادًا شديدًا على أسئلة الاختيار من متعدد، كما كان الجزء الأكبر من الأسئلة يتطلب أن يشرح الطلاب النموذج أو النظرية الاقتصادية، أو يوضحوا كيف يمكن شرح الأحداث الاقتصادية باستخدام تلك النظريات، ولكن نادرًا ما كان يُطلَب منهم تقييم النماذج الاقتصادية نفسها.
كانت الجامعات تختبر قدرة الطلاب على الحفظ والسرد، وتتجاهل تنمية مهاراتهم في التفكير النقدي، وتعتبرها غير ضرورية على الإطلاق للحصول على درجة علمية في مجال الاقتصاد، وهذا ما عبَّر عنه مؤلفو الكتاب عندما قالوا إن «الأشخاص الذين تُركَت لهم مهمة إدارة اقتصاد بلدنا لم يتعلموا التفكير فيه بصورة نقدية مطلقًا».
اقرأ أيضًا: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان
يسقط خبراء الاقتصاد
أيَّد بعض الأكاديميين فكرة الحاجة إلى التغيير، لكن وفقًا لشروطهم وإلى الحدِّ الذي يسمحون به. لكن هذا الحذر لم ينفعهم عندما هاجم وزير العدل السابق في إنجلترا، «مايكل غوف»، الاقتصاديين وشبَّههم بالعلماء الذين كانوا يعملون لدى الحكومة الألمانية في العهد النازي، وأعلن صراحةً أن الشعب سئم من الخبراء، ممَّا يدلل على المكانة الهشة التي تدهور إليها وضع علماء الاقتصاد.
هل أفلت كهنة الاقتصاد دفَّة القيادة؟ بالطبع لا، ولكن ربما انسحبت سجادة الشرعية من تحت أقدامهم، فمقاومتهم للإصلاح دفعت العامة المتشككين إلى الاعتقاد أنه لا سبيل إلى إصلاحهم أو تغييرهم. ومن ثَمَّ، أصبح كتاب «The Econocracy» بمثابة دراسة حالة للسؤال الذي يؤرِّق الجميع منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية: كيف استمرت تلك النخبة الاقتصادية في الإمساك بزمام الأمور؟