ازداد تعلقنا بهواتفنا الذكية إلى درجة تجعل كثيرًا منَّا على استعداد لأن يستغنوا عن سياراتهم لو خُيِّروا بينها وبين هواتفهم الذكية. ربما كانوا على حق، فهذا الجهاز كمبيوتر قوي مزود بكاميرا، إضافةً إلى قدرته على إجراء المكالمات، وهو عالي الخصوصية ومتاح عند الطلب، وبإمكانه استغراق مستخدمه بالكامل، وهذا ما يجعله رفيقًا لصيقًا لنا.
لذا لا يمكن اعتبار الحديث عن تأثيرات استخدام الهاتف الذكي في الدماغ امتدادًا لذلك الجدل القديم الذي يتجدد عبر الأجيال عند ظهور اختراع جديد.
تشير دراسة أجريت في عام 2016 إلى أن مستخدمي الهواتف الذكية يتفاعلون معها بمتوسط 85 مرة في اليوم، وأظهرت دراسة حديثة أن مستخدمي الهاتف الذكي يعتبرون الأذى النفسي الذي قد يسببه فقدان الهاتف يكاد يساوي الوقوع ضحيةً لعملية إرهابية، فما الذي تفعله تلك الأجهزة بأدمغتنا كي تحتل كل ذلك الوقت والأهمية؟
احذر: هذا الهاتف يسبب الإدمان
يعترف صناع تطبيقات الهواتف الذكية بأنهم طوَّروا خواص معينة تجعل استخدام الهاتف أمرًا قهريًّا.
عندما تسمع ذلك الصوت، الذي ربما يعلن حصدك مزيدًا من الإعجاب على فيسبوك، يفرز دماغك هرمون «الدوبامين»، الذي يرفع مستوى الاستثارة وينشِّط دائرة المكافأة في المخ، وهي المسؤولة عن شعورنا بالمتعة عند تناول طعام نحبه، أو ممارسة الجنس، أو تعاطي المخدرات.
هذا التوقع، الذي يجعلك تتساءل عمَّن أُعجب بصورتك على فيسبوك، يفرز معدلات من الدوبامين تفوق تلك التي تُفرز عند انكشاف المكافأة. وعندما يرتفع مستوى الدوبامين يغلِق مركز المكافأة النشط في المخ القشرة أمام الجبهية (Prefrontal Cortex)، وهي المنطقة المسؤولة عن التفكير وإصدار الأحكام.
يقودنا ذلك إلى ما يسميه الباحثون «رُهاب فقد الهاتف المحمول» (Nomophobia) وهو مصطلح جديد يعبِّر عن حالة الخوف أو القلق التي تنتاب من يفارق هاتفه. ففقدان الهاتف يعني الابتعاد عن شبكة العلاقات الاجتماعية الواسعة التي يوفرها، والشعور بالقلق من أن يفوتنا شيء من التطورات على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
من ناحية أخرى، يعترف صناع تطبيقات الهواتف الذكية بأنهم طوروا خواص معينة تجعل استخدام الهواتف أمرًا قهريًّا، فيقول «تريستان هاريس»، الموظف السابق لدى غوغل الذي درس علم النفس، إن استخدام اللون الأحمر في فيسبوك مثلًا لإعلامك بوصول إشعار جديد يهدف إلى تحفيز المخ، ويوضح أن تنوع المكافآت التي تحصل عليها، ما بين رسائل وعلامات إعجاب وغيرهما، من العناصر التي تدفعك نحو إدمان استخدام تلك التطبيقات.
أما «لورين بريكتر»، الذي اشتهر بتصميم خاصية «الجذب إلى أسفل للتحديث» (Pull-to-refresh) التي تستخدمها تطبيقات عدة، فيوضح أن هذه الخاصية تحديدًا تسبب إدمان استخدام البرامج التي تتضمنها، رغم أنه لم يقصد ذلك حين طوَّرها، فتحريك الإصبع إلى أسفل يشبه جذب ذراع ماكينات المقامرة الآلية، وفي ذلك قدر من الإثارة، فأنت لا تعرف ما إن كان سيظهر لك صورة جديدة أو مجرد إعلان أو شيء مختلف.
يقول هاريس إن تقريرا سُرب من فيسبوك عام 2017، كشف أن الشركة تستطيع أن تعرف متى يشعر مستخدموها من المراهقين بعدم الأمان. ويمكن لأي شركة أن تستغل معلومات كتلك كي تُبقيك منشغلًا بها، فترسل إليك إشعارات في الأوقات التي تكون فيها أكثر مللًا أو هشاشة.
يُعتقد كذلك أن إدمان استخدام الهاتف الذكي يرتبط بظاهرة نفسية جديدة نسبيًّا هي متلازمة الاهتزاز الوهمي (Phantom Vibration Syndrome)، التي تحدث عند اعتقادك أن هاتفك يرن أو يهتز في جيبك دون أن يحدث ذلك في الواقع. الذي يحدث أنك تتوهم أن احتكاك ملابسك بجلدك أو تشنج إحدى عضلاتك عبارة عن هزة أو رنة صادرة من الهاتف، وتشير إحدى الدراسات إلى أن تسعة من كل 10 أشخاص يعانون تلك المتلازمة.
إذا كان استخدام الهاتف الذكي بشكل مفرط صورة من صور الإدمان، فمن الطبيعي أن نعتمد عليه في أداء كثير من المهام، وهذا يأخذنا إلى تأثير آخر لاستخدام الهواتف الذكية.
اقرأ أيضًا: الثورة التقنية المضادة: هل حان الوقت لهجر التكنولوجيا؟
هاتف ذكي أم ذاكرة بديلة؟
نستخدم في العادة هواتفنا الذكية للحصول على المعلومات، ربما بصورة أكبر من إجراء المكالمات. والاعتماد على الهاتف في استرجاع المعلومات من الأسباب التي تؤدي إلى ما يُعرف بفقدان الذاكرة الرقمية، أو «تأثير غوغل».
عندما تعرف مِن أين تحصل على المعلومة، وتدرك أنها على بعد بضع نقرات على شاشة هاتفك، فإن احتمالية احتفاظك بتلك المعلومة في الذاكرة تضعف، وهذا ما يفعله «تأثير غوغل» في أدمغتنا: يدفعها إلى طرد معلومة مفادها أن «عين النعامة أكبر من دماغها» مثلًا، لأن الحصول عليها في أي وقت لن يكلفنا شيئًا.
ربما يجنح بنا التفكير في ذلك الأثر إلى تصور سيناريو مستقبلي مرير، ننسى فيه طرق العودة إلى منازلنا من فرط اعتمادنا على نظام «جي بي إس»، أو لا نتذكر الأحداث التاريخية التي صنعت تاريخ بلادنا.
«لاري روزن»، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا الحكومية، يؤكد أن أدمغتنا تحتفظ بالمعلومات في صورة سلسلة من الخلايا العصبية، تخبرنا مثلًا أن «الممثل الفلاني مات»، وكلما أجرينا مجهودًا ذهنيًّا لنتذكر تلك المعلومة يمر المخ على سلسلة الخلايا العصبية التي تحملها، فتقوى الوصلات بين الخلايا العصبية، ما يعني أن محاولة تذكر معلومة قديمة تسهِّل الحصول على المعلومة نفسها في المستقبل.
إذا استسلمنا لغوغل فإن هذه العملية لا تحدث، والمشكلة الأكبر أن غياب المعلومات عن العقل الواعي يُضعف القدرة على الابتكار، لأن الإبداع ما هو إلا تركيبات جديدة لمعلومات تبدو في الظاهر غير مرتبطة.
إذا كانت هواتفنا لها هذا التأثير في الذاكرة، فكيف يكون تأثيرها في قدرتنا على التركيز؟
قد يهمك أيضًا: أقرب من كل أصدقائك: كيف يقضي هاتفك وقته؟
تك تك: هذا الهاتف يشتتك
أظهرت دراسة أجرتها جامعة تكساس أن مجرد وجود الهاتف في المتناول، حتى لو كان مغلقًا أو شاشته إلى الأسفل، كفيل بأن يشتت انتباهك.
شملت الدراسة 800 شخص، طُلب منهم الجلوس أمام جهاز كمبيوتر وحل مجموعة اختبارات لقياس المتاح من القدرة الإدراكية للدماغ. وقبل البدء في الاختبار، طُلب من المشاركين أن يضعوا هواتفهم مقلوبةً على المكتب، أو في جيوبهم أو حقائبهم، أو حتى في غرفة أخرى، على أن تكون صامتة في كل الأحوال.
تدفع الهواتف الذكية أصحابها إلى اجتناب الأحاديث المفتوحة والعفوية، التي تُتبادل فيها الأفكار وتتطلب حضورًا ذهنيًّا كاملًا.
وجد الباحثون أن من تركوا هواتفهم في غرفة أخرى تفوقوا بصورة ملحوظة على من وضعوها أمامهم، وتفوقوا كذلك على من وضعوها في جيوبهم أو حقائبهم. فكلما كان الهاتف أكثر ظهورًا أمامك، زاد التشتت وضعفت القدرة الإدراكية للدماغ. ومع أن عقلك الواعي لا يفكر في الهاتف، فإن عملية منع المخ من التفكير في الهاتف تستهلك جزءًا من مواردك الإدراكية.
هذه الحالة من الانتباه الجزئي المستمر تجعلنا أقل رغبةً في الاشتراك في نقاشات طويلة وجادة، ففي دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث عام 2015، اعترف أكثر من 80% من المشاركين أن استخدامهم للهواتف الذكية أثَّر في جودة النقاش في آخر تجمع شاركوا فيه.
تُظهر الدراسات التي تناولت تأثير الهاتف الذكي في المنقاشات أن وجوده على الطاولة بين المجتمعين، أو حتى في مرمى البصر، يغير طبيعة ما يتحدث فيه الجمع الموجود ويؤثر في درجة الارتباط التي يشعرون بها.
تدفعنا الهواتف الذكية إلى اجتناب الأحاديث المفتوحة والعفوية التي تُتبادل فيها الأفكار وتتطلب حضورًا ذهنيًّا كاملًا، رغم أن تلك النقاشات هي التي تعلمنا التواصل البصري وقراءة لغة الجسد، وتدربنا على تحدي الأفكار المختلفة، وترقق مشاعرنا، وتخلق حالة من المشاركة الوجدانية، وتعرفنا من نكون.
بعض مستخدمي الهواتف الذكية يطبقون ما يسمونه «قاعدة الثلاثة»، التي تعني أنه لو كان هناك حوار دائر بين خمسة أشخاص، عليك أن تتأكد دائمًا أن ثلاثة أشخاص منتبهين إلى الحديث، وعندها يمكنك أن تختلس دقائق مع هاتفك، ويستمر الحديث مع اختلاف المشاركين فيه بين دقيقة وأخرى، فالكل يغادر الحوار ثم يعود، لكن الثمن أن الحوار سيظل سطحيًّا.
لا يترك أغلبنا الهاتف الذكي طوال الوقت، حتى في أثناء القيادة رغم ما قد يسببه هذا من ضرر، مما ينقلنا إلى النقطة التالية.
قد يعجبك أيضًا: صور إنستغرام المعدلة تهدد صحتنا النفسية
اضغط فرامل: الهاتف الذكي يبطئ ردود أفعالك
طور رجل أعمال أمريكي تكنولوجيا تحد من استخدام الهاتف خلال القيادة، إذ تمنعك من إرسال الرسائل أو استخدام وسائل التواصل حتى تتوقف السيارة عن الحركة تمامَا.
دون الخوض في جدل حول قدرة الدماغ على إنجاز مهام متعددة في نفس الوقت، فإن المؤكد أنك مع كل مرة تلتقط هاتفك الذكي للرد على رسالة خلال القيادة وتنجو، يتصور عقلك أن هذا سيحدث دومًا. ويمكن فهم ذلك السلوك في ضوء نظرية التعزيز (Reinforcement Theory)، التي تشير إلى أن تكرر نجاتك يبعث رسالة إلى الدماغ مفادها أنك تستطيع أداء هاتين المهمتين معًا بنجاح.
لكن دراسة أجرتها جامعة يوتا الأمريكية أظهرت أن استخدام الهاتف في أثناء القيادة يقلل من ردود الأفعال، لذا قد يصير ذلك السلوك قاتلًا ذات مرة.
يشبِّه رجل الأعمال الأمريكي «سكوت تيبيتس» وجود الهاتف الذكي إلى جوار السائق بإغراء وجود كيس مفتوح من رقائق البطاطس، وهذا ما دفعه إلى العمل على تطوير تكنولوجيا جديدة أسماها «Groove»، للحد من استخدام الهاتف الذكي خلال القيادة، إذ تحُول دون وصول الرسائل والتحديثات إلى هاتفك، وتمنعك من إرسال الرسائل أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك حتى تتوقف السيارة عن الحركة تمامًا.
لكن إذا كانت هواتفنا الذكية لا تفارقنا، وتظل تطارد أمخاخنا بالتشتيت وإضعاف الذاكرة، فلا بد أنها تتركنا على الأقل عندما ننام، لكن.. ليس بالضبط.
الهاتف يسرق النوم من عينيك
زوَّد أحد مصممي فيسبوك هاتفه برقابة أبوية، ليمنع نفسه من تحميل مزيد من التطبيقات.
تشع الهواتف الذكية ضوءًا أزرق يؤثر في الساعة البيولوجية لدينا، مما يقلل فترة النوم العميق، وهذا بدوره يرفع فرص الإصابة بعديد من الأمراض مثل السمنة والسكري.
أظهرت الدراسات أيضًا أن من يقرؤون على هواتفهم الذكية قبل النوم مباشرةً يجدون صعوبة في الدخول في النوم وتفرز أدمغتهم نِسَبًا أقل من هرمون «الميلاتونين»، المسؤول عن تنظيم دورة النوم واليقظة، لهذا تنصح كلية الطب في جامعة هارفارد بالابتعاد عن استخدام الوسائل التكنولوجية كافة قبل النوم بثلاث ساعات.
كل التأثيرات التي استعرضناها وغيرها دفعت صانعي تلك التطبيقات أنفسهم إلى الحد من استخدامهم للهواتف الذكية، فـ«جاستين روزنستاين»، المبرمج الأمريكي الذي اشترك في تصميم فيسبوك، أكد أنه زوَّد هاتفه بخاصية الرقابة الأبوية لكي يمنع نفسه من تحميل مزيد من التطبيقات. يعي روزنستاين تمامًا فتنة الهاتف الذكي وتطبيقاته، فهو الذي صمم زر الإعجاب (Like)، وكذلك هو الذي يعتبره اليوم مصدر «متعة كاذبة».
«لورين بريكتر»، الذي يقول إنه انغمس تمامًا في عالم هاتفه الذكي على حساب وقته مع أولاده، فقد حجب بعض المواقع وقرر أن يشحن بطارية هاتفه كل يوم في السابعة مساء في المطبخ، ولا يلتقطه سوى صباح اليوم التالي.
إذا كان هذا هو حال صناع التكنولوجيا أنفسهم، فربما كان علينا أن نضع هواتفنا الذكية جانبًا ونفتح حوارًا حيًّا مع من يجلسون معنا في الغرفة، إن كان ما يزال هناك أشخاص حقيقيون حولنا.