لا وقت كالحاضر: الفيزياء لا تعترف بـ«الآن»

الصورة: Getty/Liam Norris

سارة العناني
نشر في 2017/12/19

لكل لحظة تفرُّدها، أو هذا ما نفترضه عادة. كل لحظة تمر لا تعود، والحياة ببساطة هي مجموعة متراكمة من هذه اللحظات. في المعتاد، يُقصد بهذا الكلام التحفيز على استغلال الوقت والتحذير من ضياعه، لكن ما الوقت أصلًا؟ هل توجد ماهية متجسدة للوقت نستطيع التعامل معها وفهمها، سواء من ناحية علمية أو حتى فيزيائية؟

من وجهة نظر نفسية، كما يقول «مارك شوميلدا»، الباحث في فلسفة الفيزياء في جامعة تورنتو الكندية، الأمر مربك بالفعل.

لِسَرَيان الوقت مدلوله الواضح لدينا نحن البشر، وللحاضر ميزة خاصة. وبعيدًا عن الأحلام أو التنويم المغناطيسي، لا توجد طريقة حقيقية للعودة إلى الماضي أو زيارة المستقبل. نحن، بطريقة ما، عالقون في هذه اللحظة. عالقون في سلسلة من اللحظات المتتالية التي تسلمنا كل واحدة منها إلى الأخرى. وبهذا المعنى، لا نتعامل مع الماضي إلا بوصفه فكرة أو تخيُّلًا، وكذلك المستقبل.

لكن ماذا عن الفيزياء؟ هل ينظر علماؤها إلى الوقت مسلِّمين بصحة الإدراك البشري البديهي له؟

النسبية العامة والزمكان

شرح مفهوم الزمن حسب نظرية النسبية العامة

قبل القرن الماضي، أي قبل مجيء آينشتاين بنظرية «النسبية العامة»، كان الفيزيائيون ينظرون إلى الزمن كعامل خارجي، جزء أساسي من الواقع، لكنه مستقل عن غيره، فلا يتأثر بأي عامل آخر حتى بالكون نفسه. كذلك، مرور الزمن ثابت بالنسبة إلى الجميع في كل مكان. كان إسحق نيوتن هو من صاغ وجهة النظر القائلة بأن الزمن يمضي كنهر مستقل، ولا شيء بأيدينا حياله.

لكن نسبية آينشتاين، رغم أنها لم تحسم ما إذا كان مرور الزمن حقيقيًّا أم وهميًّا، أدخلت الزمن في التركيبة الكونية، كجزء من نظام متكامل، وكبعد رابع متداخل مع الأبعاد المكانية الثلاثة. رأى آينشتاين أنه لا يصح النظر إلى الزمان والمكان إلا كوحدة واحدة، وهكذا حصلنا على مفهوم «الزمكان»، ما يعني أن تغير أحد هذين المكونين (الزمان أو المكان) يؤدي إلى تغير الآخر، وأن كلا المصطلحين لا ينفصل، فلا يمكن التعبير عن أحدهما دون وضع الآخر في الاعتبار.

اقرأ أيضًا: «سابرينا باستيرسكي»: آينشتاين التي اكتشفناها من يوتيوب

كنتيجة لنظرية النسبية، اللحظة الحاضرة ليست خاصة، فهناك لحظات أخرى كثيرة متزامنة مع الحاضر، قد يدعوها الآخرون ماضٍ أو مستقبلًا.

يتأثر الزمكان بعوامل مختلفة من بينها سرعة الحركة وقوى الجاذبية، وهي عوامل متغيرة بالأساس. وبما أن نظرية النسبية تفترض أن الثابت هو سرعة الضوء «حتى مع حركتهم بالنسبة إلى بعضهم بعضًا»، فإنه على الزمكان نفسه أن يتغير، ليصير للزمن مفهوم أكثر مرونة. أي أنه كما يتغير المكان، يتغير الزمن.

هكذا، تخبرنا النظرية النسبية أنه لا يوجد حاضر موحد بالنسبة إلى كل الناس، فما يبدو لي حاضرًا قد يبدو لغيري ماضٍ أو مستقبلًا، حسب اتجاه حركته. الأمر نسبي، ولطالما كان كذلك.

لتوضيح الأمر أكثر، لنفرض أن زوجة سافرت في رحلة عمل إلى الجانب المقابل من الكرة الأرضية، نسبةً لمكان وجود زوجها. وفي نفس لحظة تفكيره في أنه يشتاق إليها، تضغط هي زر إرسال بريد إلكتروني يخبره كم تفتقده. هذا رومانسي بالتأكيد، أليس كذلك؟

لكن بينما يحدث الأمران بشكل متزامن بالنسبة إليك، يختلف الحال بالنسبة إلى كائن فضائي يراقب الأرض من سفينته. فإذا كانت السفينة الفضائية سائرة في اتجاه الزوجة، سيلاحظ الفضائي أن الإيميل يُرسَل قبل تفكير الزوج في زوجته، والعكس، إذا تحركت السفينة مبتعدةً عن اتجاه الزوجة، فسيسبق التفكير فعل الإرسال.

لهذا، كنتيجة لنظرية النسبية، اللحظة الحاضرة ليست خاصة أو مميزة بأي شكل، فهناك لحظات أخرى كثيرة متزامنة مع الحاضر، قد يدعوها الآخرون الماضي أو المستقبل.

ميكانيكا الكَم: العالم بالغ الصغر

يُطلَق على محاولات الدمج بين الجاذبية ونظرية الكم اسم نظريات «الجاذبية الكمومية» أو «الثقالة الكمومية».

مع أنه أمكن تأكيد نظرية النسبية عبر الفيزياء التطبيقية، إلا انها لا تفسر كل نواحي الكون، فهي تنطبق على الأجسام الكبيرة فقط (النجوم والمجرات)، حيث لقوى الجاذبية تأثير حتى على الزمان.

لكن الأمر يختلف على المستوى الذري، إذ تتراجع الجاذبية، التي هي القوة الرئيسية في نظرية النسبية، فلا تستطيع التأثير في مكونات الذرات الصغيرة في شيء، وتترك المجال للقوى الكونية الثلاث الأخرى: الكهرومغناطيسية، والنووية الشديدة، والنووية الضعيفة. أي أنه على مستوى الذرة وعالمها الصغير جدًّا، لا مجال للنسبية، والبطل هنا هو ميكانيكا الكم.

في ميكانيكا الكم، الزمن عامل ثابت كما أخبر نيوتن، لا يؤثر فيه الكون ذاته.

حتى الآن، لا يمكن التوفيق بين أكبر نظريتين فيزيائيتين: ميكانيكا الكم، والنظرية النسبية. والسبب الأساسي هو تعامل كل منهما مع الزمن كعامل أساسي، وينصَبُّ الأمل على التوصل إلى طرح جديد لنظرية تستطيع الدمج بين القوى الكونية الأربعة: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والنووية الشديدة، والنووية الضعيفة، ويمكن تأكيدها عمليًا.

يُطلَق على هذه محاولات الدمج بين الجاذبية ونظرية الكم اسم نظريات «الجاذبية الكمومية »أو «الثقالة الكمومية».

التخلي عن الزمن

ترى نظريات الجاذبية الكمومية أن الزمن غير موجود أصلًا، وأن ما نستقبله على أنه سَرَيان زمني ليس سوى وهم يكوِّنه العقل وهو يشاهد تتابعات من التغيرات الشكلية المتتالية الناتجة عن الحركة، وأنه لولا الحركة لما افترضنا مرور الزمن. فالساعة نفسها التي نقيس بها الوقت هي مجرد حركة مكانية للعقارب بالنسبة إلى بعضها.

لا يوجد مفهوم حقيقي لقياس الزمن بعيدًا عن الحركة المكانية، وآينشتاين نفسه عندما أراد وصف الزمن في نظريته استعان بالحركة المكانية.

تخبرنا نظريات الجاذبية الكمومية أنه ليس هناك شيء اسمه الحاضر، بل عدد لا نهائي من اللحظات الحاضرة اللازمنية تتراكم بشكل يجعلنا نتوهم حركتها.

بالتالي، يرى أنصار هذه النظرية أن الزمن غير موجود، بل مجرد خدعة تركِّبها عقولنا من لقطات فوتوغرافية عديدة متتابعة. فمثلًا، عند استقبالنا حركة قطة تقفز، تلتقط أعيننا لقطات فوتوغرافية لحظية للقِطّة في مواضع مختلفة من الهواء، ثم يخيط العقل هذه الصور مع بعضها ليخلق لنا وهم الحركة.

هذه النظرية، بتكبيرها لميكانيكا الكم من مستوى الذرة لتنطبق على الكون بأكمله، ترى الكون ثابتًا دون تغير زمني، إنما مجرد تغيرات شكلية لا أكثر، تترتب في مجموعة من اللقطات الفوتوغرافية التي توصف بأنها «كبسولات زمنية»، تحتوي طبقات فوق بعضها كطبقات الصخور والحفريات التي تحمل تاريخ الأرض الجيولوجي منذ نشأتها، والتي من خلال تفحصها أدرك علماء الجيولوجيا كم أن الأرض قديمة، وكأن الأرض نفسها كبسولة زمنية ضخمة.

أما إدماج قوى الجاذبية في النظرية، فهي تعتمد على تأثير الجاذبية في تطور الأشكال المكانية، وما نتج عن هذا من حركة أدت لتكوُّن الصور الثابتة المتنوعة التي تحكي قصة تشكُّل الكون في تتابع.

هكذا، تخبرنا هذه النظرية الفيزيائية أنه ليس هناك شيء اسمه الحاضر، بل عدد لا نهائي من اللحظات الحاضرة اللازمنية، التي ترتبط وتتراكم فوق بعضها بشكل يجعلنا نتوهم حركتها واتصالها.

الأوتار الفائقة ونغماتها

شرح مبسط لنظرية الأوتار الفائقة

حاولت نظرية «الأوتار الفائقة» التوفيق بين القوى الأربع للكون وبين النظريتين الأكبر للفيزياء، بالتركيز على مستوى الذرة وانطلاقها منه إلى الكون بأكمله.

ترى النظرية أن الجسيمات دون الذرية (الإلكترون والكوارك والنيوترون) عبارة عن أوتار حَلْقية من الطاقة، مفتوحة أو مغلقة، تتذبذب ويتحدد وفق تذبذبها طبيعة وخصائص الجسيمات المكوِّنة لها. وأقرب توصيف هو أوتار آلة الكمان، التي عند العزف عليها نحصل على نغمات مختلفة، كأن الكون كله معزوفة واحدة.

انطلقت هذه النظرية من الأبعاد الأربعة للنسبية (ثلاثة أبعاد مكانية، وبعد زماني)، مع إضافة عدد من الأبعاد المكانية الأخرى (هناك على الأقل 10 أبعاد أخرى تبعًا لتوجه النظرية).

لكن مع توالي انبثاق أبعاد مكانية إضافية من نظرية الأوتار، لدى كل تقدُّم في أجهزة الكمبيوتر الفائقة، جاء افتراض جديد في إحدى نسخ النظرية بأن الزمن ينبثق من عنصر لا زمني، ما يعني أن الزمن ليس أحد المفهومات الأساسية لنظرية الأوتار، وبالتالي لن يكون هناك وقت كالحاضر، لأنه لا وقت هنالك أصلًا>

صراع لا ينتهي

شغل الزمن بالَ الفلاسفة والعلماء، بل والشعراء، منذ قديم الأزل. لطالما كان سؤال ماهية الوقت، وكيف نتأثر به، وهل نحيا في داخله أم على أطرافه، سؤالًا حقيقيًّا بغض النظر عن اختلاف المتعاملين مع هذه الفكرة.

ربما تكون مسألة الزمن واحدةً من الأفكار التي لن يصل فيها العلم، أو الفلسفة حتى، إلى حل يريح جميع الأطراف، وربما لا يوجد حل أصلًا. كل ما نستطيع فعله، خلال رحلتنا في هذا الكون الغريب المذهل، أن نتأمل تفاصيله، وأن نقدِّر لحظاته المهمة بما يليق بها، وأن نعيش كل لحظة بنفس الطريقة التي يخبرنا العِلم عنها، كلحظة مميزة لا مثيل لها. ربما لن نفهم الزمن أبدًا، لكننا دائمًا قادرون على تحديد ما نفعله بكل هذا الوقت المتاح لنا.

مواضيع مشابهة