نشرنا في وقت سابق مقالًا بعنوان «لماذا يهتفون للساروت؟»، وآثرنا فتح النقاش حول شخصية جدلية، فقدم كاتب هذا المقال وجهة نظر مقابلة للسابق.
في نهاية فيلم «العودة إلى حمص»، الذي يروي السنوات الأولى للثائر السوري عبد الباسط الساروت، يظهر الشاب العشريني في نهايته بعرجة بسيطة نتيجة إصابته الثانية وهو يقاتل النظام السوري الذي هجَّره من مدينته حمص، أو ما تبقى منها بعد أن أحالها ركامًا، متحدثًا عن المستقبل أو محاولًا على الأقل.
استبعد الساروت أن يعود للعب كرة القدم التي بدأ نجمه بها يسطع كثاني أفضل حارس شاب في آسيا، كما استبعد أن يعود للتدريب لأنه «يحتاج دراسة وشهادات» كما قال، متمنيًا فقط العودة إلى حمص بعد النصر و«العمل بالحديد»، متزودا بـ«النسيان»، وحاملًا حزنه على رفاقه الشهداء الذين يرجو أن يلحقهم.
لم يستطع «بلبل الثورة السورية» كما لُقّب، والذي قاد المظاهرات بأهازيجه التي أصبحت علامة فارقة للثورة السورية النسيان، كما لم يعد إلى حمص التي بقي يقاتل لأجلها ست سنوات لاحقة، خسر خلالها خمسة إخوة ضمن 35 شهيدًا من عائلته، وأصيب ثلاث مرات مختلفة، وازداد أعداؤه دون أن يتناقص محبُّوه، إلى أن لحق برفاقه وإخوته كما كان يتمنى في الثامن من يونيو 2019، متأثرا بإصابة له وهو يقاتل على جبهات ريف حماة.
في سيرة الساروت المختصرة هذه، والتي لا يمكننا استعراضها كاملة، يختلط الشخصي بالسياسي بالأسطوري، ونرى ملامح شخصية استثنائية، بدءًا من الحياة العصامية لابن حي البياضة الشعبي العشوائي، الذي بناه سكانه من عشائر ريف حمص الشرقي، كان من بينهم عائلة عبد الباسط التي لجأت إليه، والتي اضطرت عبد الباسط لترك دراسته والعمل بالحديد والبناء، باحثًا عن إمكانية تغيير هذه الظروف في موهبته الرياضية التي سطع بها نجمه، اختار التضحية بها كأول ما سيضحي به الساروت، مرورًا بعائلته ومدينته وانتهاء بحياته، لأجل الحرية والكرامة والعدالة مع اندلاع الثورة السورية.
جيش العزة والبوصلة في مواجهة النظام
حول الساروت نجوميته الرياضية إلى نجومية ثورية، فبات نجم المظاهرات الأول الذي يقود «الألتراس» الثوري، فقد استطاع بصوته الرخيم الملائم لقوله الثقيل ولكنته البدوية المتناسقة اجتماعيًا وسياسيًا مع صفوف الثوار تحويل الأغاني الشعبية إلى أهازيج ثورية، مخلدًا الثورة بنقلها من اللحظة السياسية الراهنة إلى جعلها ثقافة وفلكلورًا وسردية تاريخية، ليتحول بذلك إلى راوٍ وكاتب تاريخي لا مجرد «قائد للهتافات»، ونموذجًا عمليًا لقيم الثورة الحقيقية وأفكارها وعدم طائفيتها، بظهوره بشكل متكرر بجانب الممثلة العلوية فدوى سليمان، والسينمائي المسيحي باسل شحادة الذي غنّى في تشييعه شهيدًا بعد أن قتله النظام السوري كذلك.
في جانب سيرته الأكثر ملحمية كمقاتل ثوري، بهيئته وأداءه وانكسار الحاجز بين الجندي/القائد في شخصيته، يظهر في قصة عبد الباسط جانب أساسي واضح للغاية: اقتحامه الصفوف الأولى معرضًا حياته للخطر بشكل متكرر، وحفاظه على مكانه كعدو أبدي للنظام، في هاجس ظل يلاحقه منذ هتافه وحتى استشهاده وهو يحاول العودة إلى حمص.
تحالف الساروت مع الشيطان داعش، لكنه تحالف استمر شكليًا بضعة أسابيع أعلن الساروت بعدها ندمه عليها.
سواء على الصعيد الشخصي وإصراره، رغم المصائب التي أصابته، على العودة ليقاتل النظام وحده لا سواه، في بوصلة ظلت واضحة رغم كثرة الأعداء وتداخلهم في الصراع السوري، أو على الصعيد الاجتماعي/السياسي العسكري، بدءًا بقيادته لمجموعته الصغيرة من الشباب في مجتمعه المحلي لخصائصه التي جرى بها انتخابه بشكل عفوي، كما هو الحال على المستوى الجزئي في سوريا بداية الثورة، ثم توسيع هذا التنظيم لكتيبة شهداء البياضة، التي تلقت ضربة قاصمة باستشهاد معظم مقاتليها خلال محاولة فك الحصار وتأمين الطحين لإطعام العائلات التي حاصرها النظام السوري وقتلها جوعًا وقصفًا.
ثم سعيه لتشكيل «فيلق حمص» الذي يضم المقاتلين القادمين منها بعد أن هجَّرهم النظام السوري، مرورًا بلحظة ما بتحالفه حتى مع الشيطان، داعش، والذي استمر شكليًا بضعة أسابيع أعلن الساروت بعدها ندمه عليها، حتى قتال الشيطان الأكبر: حلف النظام السوري، وصولًا لاستشهاده مع «جيش العزة»، الفصيل الحموي الريفي التابع للجيش الحر، الذي أسسه الرائد المنشق جميل الصالح، والذي حدد بوصلته، بأفكاره الوطنية وممارساته العسكرية المعتدلة.
وجد الساروت في جيش العزة غايته: قتال قوات الأسد وروسيا، حتى قطع دعمه من غرفة «الموم»، وهي مركز ارتباط عسكري تديره الولايات المتحدة، وتأسست مطلع عام 2014 وتضم دولًا عدة تدعم الجيش السوري الحر في شمال سوريا، التي اشترطت على العزة التوقف عن مهاجمة قوات النظام.
من أسفل لأعلى
في رأيي، ليس من النوستالجيا القول إن «سيرة الساروت شبيهة بمسيرة الثورة بتحولاتها ودلالاتها»، ذلك أن شخصية الساروت هي المثال للثائر والمقاتل والقائد والمجموعة الثائرة السورية التي وجد كل من انتسب لها أو أيدها شيئًا من نفسه في هذه الشخصية.
على الجانب الآخر، مثلت سيرة الساروت بالفعل الثورة السورية، لا بمظاهرها الخارجية وانكساراتها وتحولاتها وحسب، بل بدينامياتها وأساسياتها التي تنطلق من جذور وحركات اجتماعية، من أسفل لأعلى، لا أيديولوجيات أو تنظيمات سياسية تعمل من أعلى لأسفل، وهو ما يتفق مع التكوين العصبوي اللاسياسي، حكم العنف أو الدولة المتوحشة، الذي بدأ مع انقلاب البعث، وتعزز مع الحركة التصحيحية، وهي الانقلاب العسكري الذي نفذه حافظ الأسد ضد رفاقه في حزب البعث وأوصله للسلطة لثلاثين عامًا من الحديد والنار، وأخذ شكله الأبرز بعد مجزرة حماة التي قتل بها نظام الأسد 30 ألف شخص وفقًا لتقديرات «اللجنة السورية لحقوق الإنسان»، والتي لم يستهدف بها الأسد الإخوان المسلمين أو حتى الإسلام السياسي، بل كانت بها السياسة ككل محط نظر الأسد.
تحولت الدولة، الكيان السياسي القائم نظريًا على احتكار العنف، إلى كيان لا سياسي قائم عمليًا على «حكم العنف»، اعتمادًا على شبكات العصبيات الجديدة داخل القوات المسلحة والجهاز الإداري عقب الحركة التصحيحية، بالاعتماد على الريف كمنبع بشري أساسي، وعلى الطائفية بزيادة نسبة الضباط العلويين بالجيش، في انقلاب جوهري لشكل الحياة السياسية السورية المستمر منذ منتصف القرن الثامن عشر، لتصبح العصبية هي عصب الملك، والعنف هو أداة بقائه الوحيدة والأساسية الثابتة، ودائمة الحضور لهدف حصري هو الحفاظ على السلطة، متحولًا لنظام إبادة، لا دولة، وهو ما فصله ميشيل سورا في كتابه الشهير «سورية: الدولة المتوحشة»، وهو طرح غاب عن الكاتب يوسف السنافي في مقاله «لماذا يهتفون للساروت؟».
تقاطع الساروت: الخط الاجتماعي والخط السياسي
يمكن القول إن الثورة السورية سارت في خطين متوازيين، خط سياسي ذو مطالب وخطاب سياسي ارتكز بدرجة كبيرة في المدن، وأبرز الناشطين كقادة لهذا الحراك في الداخل، القيادي السياسي الكردي مشعل تمو والناشطة الحقوقية رزان زيتونة ورفاقها، بجانب المعارضين الأقدم الذين كانوا في الداخل والخارج، مثل برهان غليون وياسين الحاج صالح.
وفي المقابل الخط الاجتماعي الذي اعتمد على النخوة والفزعة المنتشرة في الأرياف والأطراف، وكان الحشد به يتم عن طريق العصبيات والعلاقات الشخصية والعائلية ضمن المجتمعات المحلية، وظهر القادة المحليون، الذين تطوروا بتطور شكل الحراك من السلمي إلى المسلح، فتحولوا لقيادات محلية لفصائل عالية التماسك والتنظيم، تُنتخب كقيادات بتلقائية لصفاتها الشخصية أو قدراتها التنظيمية أو علاقاتها أو خبراتها العسكرية، لا لوعيها أو خطابها السياسي، بما تتطلبه أي بداية لأي حرب عصابات، كما ينقل كتاب «Waging Insurgent Warfare» عن مُنظر حرب العصابات تشي جيفارا.
وكان من أبرز القيادات عبد القادر الصالح، أو «حجي مارع» كما يشتهر، ضمن كثير من الرموز التي لم تنقص الثورة السورية بملحميتها وفصولها.
شهد الخط الاجتماعي الذي كان ممثله فصائل الجيش السوري الحر، في حالات عديدة انحيازًا أو تحولًا باتجاه الأدلجة الإسلامية، فباستثناء بعض الحالات التي جاءت أساسًا بأفكار ناجزة لقياداتها مثل «أحرار الشام» أو «جيش الإسلام»، اللذان تخليا عنها بعد مراجعات نظرية وعملية ورمزية، تمثلت باعتماد علَم الثورة والعمل ضمن التشكيلات العسكرية الأكبر، لم يكن ممثلو هذا الخط حاملين لوعي وأيديولوجية متماسكة، وإنما كان انحيازهم هذا مظاهريًا ورمزيًا، من حيث الأسماء والرايات والهيئة وغيرها، لأسباب عديدة، منها على سبيل الذكر لا الحصر: التمويل الخارجي، البحث عن الملاذ الروحي والنفسي، رد الفعل على العلمنة المتشددة للنظام، وغيرها.
صعد شيئًا فشيئًا ليصبح قياديًا على مستوى حمص، ثم قائدًا عسكريًا واجتماعيًا يلتف الناس حوله خارج شبكاته الاجتماعية التقليدية، ليصبح رمزًا رغم كثرة أعدائه.
أما الثابت في جميع هذه الحالات فهو ابتعاد الثورة السورية، كحالة عامة وتيار غالب، عن الممارسات الطائفية، مع نشاز بعض الأصوات والمواقف الفردية غير الممثلة للثورة لا كمًا ولا نوعًا، بعكس النظام الذي استحضرها منذ اليوم الأول بالقتل على الهوية والمجازر ذات الطابع الطائفي والحشد والتجنيد والدعاية باستخدام البروباغندا الطائفية.
كان الساروت نقطة تقاطع للخطين الاجتماعي والسياسي، مع ميل لصالح الخط الاجتماعي: فقد كان الساروت بداية شابًا شجاعًا ذو شهرة محلية ويملك قدرات حشد عالية بشكل ذاتي، مع انتسابه لحي طرفي عشوائي ذي تكوين عشائري سهَّل على الساروت بداية القتال مع فصيله المحلي «شهداء البياضة»، وصعد شيئًا فشيئًا ليصبح قياديًا على مستوى حمص، ثم قائدًا عسكريًا واجتماعيًا يلتف الناس حوله خارج شبكاته الاجتماعية التقليدية، ليصبح رمزًا رغم كثرة أعدائه. لم يلتف حوله رموز وصفوف الحراك الاجتماعي/العسكري وحسب، بل ورموز الخط السياسي، الذين ذكرهم السنافي في مقاله.
بذلك، لا يمكن الحكم على عبد الباسط بشكل تقليدي سياسيًا على أيديولوجيته أو أفكاره أو خطابه أو وعيه السياسي، لا لأنه لم يتبنَّ أي منها كما ذكر السنافي، بل، بداية، على قدرته على الحشد والتنظيم كقائد اجتماعي، وهو ما لا يحتاج كثيرًا من التوضيح والدفاع سواء في سيرته ككاتب تاريخ بهتافاته التي تحولت لفلكلور، أو مقاتل ثوري، وعلى عمله ونشاطه العسكري، الذي كان واضحًا ومحددًا تمامًا ولم يتورط بأي شكل بالدم المحرم من قتل للمدنيين أو انحراف للبندقية سوى عن العدو الأوحد الذي دمر مدينته ولم يحتج المقارنة بجيفارا ليصبح رمزًا.
سيرة الساروت كانت استثنائية ملحمية أذهلت من تابعها وسمعها، وهو ما برز بالمتابعة لاستشهاده من كل المنصات الإعلامية والبحثية، وحتى بالمحاولة لتدمير وتشويه هذه الرمزية.