هذا الموضوع ضمن هاجس «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
في يناير 2016، لخّصت «سمر» كواليس رحلة لجوئها من سوريا إلى ألمانيا بقولها إن الجميع يعلمون أن المهرِّبين لديهم طريقتان للدفع: إما بالمال، أو أن تبيع جسدك لهم.
وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، لم تكن سمر، التي تبلغ 35 عامًا وتعول ثلاثة أطفال، سوى واحدة من آلاف السوريات التي تتعرض أجسادهن للاستغلال الجنسي من المهربين. بل ويُجبرها زوجها طوال الرحلة بشكل يومي على ملاطفتهم في أثناء إقامتهم في بلغاريا لتسديد باقي دفعات تهريبهم إلى أوروبا، ثم يشارك بعد ذلك في اغتصابها معهم لأنها «جلبت العار للعائلة».
أشار تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من نصف عدد اللاجئين أطفال تقل أعمارهم عن 18 سنة، ويعبرون الحدود من دون ذويهم، أو أنهم فقدوهم خلال رحلتهم للوصول إلى أوروبا، ليتحول هؤلاء الأطفال إلى ضحايا الاستغلال الجنسي. وكشفت الوكالة الأوروبية لتطبيق القانون «يوروبول» أن العصابات التي تسهل الطريق أمام المهربين تستغل الأطفال اللاجئين في أعمال مرتبطة بالجنس والعبودية.
يتجه عشرات اللاجئين السوريين من الرجال المقيمين في اليونان إلى الدعارة من أجل كسب لقمة العيش بمقابل بخس لا يتجاوز 2 يورو.
من المؤكد أن النساء في أوقات الحرب والصراعات هن الطرف الأضعف، لكن الأطفال والرجال يتعرضون أيضًا لهذا الاستغلال. فما الدوافع وراء ما سلكه بعض اللاجئين السوريين بشأن امتهان العمل في تجارة الجنس: هل هي غريزة البقاء حيًّا نتيجة الجوع؟ أم عدم قدرة على التأقلم اجتماعيًّا واقتصاديًّا في بيئات جديدة بسبب صدمة ثقافية؟ هل يختلف الحال إذا لجأ السوريون إلى أشقائهم العرب؟ هل في اقتراب الثقافات العربية نجاة من صدمة ثقافة الغرب؟
اللجوء إلى أوروبا
تتعرض النساء اللاجئات بشكل خاص للذل النفسي والتعذيب الجسدي والحرمان من الطعام والنوم وحرية الحركة.
أملًا في حياة أفضل، يخدع المهرب ضحاياه بعروض عمل أو زواج أو فرص لاستكمال التعليم، لينتهي المطاف بهم إلى العمل بالدعارة في أوروبا. وقد يكون الوسيط أحد الأصدقاء، أو حتى والد الضحية.
تبدأ الرحلة بتشتيت الضحية وإرباكها عن طريق بيعها من مهرِّب إلى آخر، ومن بلد إلى غيره، قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة. ونتيجة لاقتناع الضحية بوضعها غير القانوني، توافق على مصادرة المهرب لجواز السفر، فيزيد اعتمادها عليه، وتثقل عليها ديون يجب تسديدها «بأي طريقة».
تتعرض النساء اللاجئات بشكل خاص إلى الذل النفسي والتعذيب الجسدي والحرمان من الطعام والنوم وحرية الحركة، وتُهدد بقتل أفراد عائلتها إذا فكرت في الهرب، إضافة إلى أن الجهل بالثقافة واللغة يزيد من الضغط النفسي.
قبل تقديم الضحية للزبائن غالبًا ما يغتصبها المهرب بنفسه، حتى أنه قد يخدرها لإشباع رغبة ما يقرب من 30 رجلًا في اليوم، ما يُعرِّضها لأمراض تنتقل عبر الاتصال الجنسي، وكذلك للحمل غير المرغوب فيه. وقد تُجبَر الضحية على ممارسة الجنس لحماية أبنائها الصغار من هذا المصير. وهكذا تستمر الدائرة حتى تتمكن الضحية من الوصول إلى المحطة المنشودة.
في المجتمعات الغربية بشكل خاص، من الممكن أن تنخرط المرأة وتختار بنفسها العمل في الجنس، لكن هذه حالة مختلفة عن الإتجار بالبشر واستغلال وضعهم المتأزمهم ضمن جريمة منظمة.
أجبرت الحرب ضحاياها على الهروب بأي ثمن، بدايةً بإلقاء أجسادهم في عرض البحر أو وسط الغابات لتُنهش من جديد على أيدي المهربين، حتى إذا وصلت سالمة لا تسلم من الاستغلال الجسدي في المخيمات، لأن الرجال والنساء والأطفال ينامون في نفس المنطقة، ولا يوجد أي حاجز بين الأُسَر.
هذا جزء من مآسي اللاجئين إلى أوروبا، لكن هل اختلف الحال عندما هرب آخرون إلى بلاد العرب المجاورة؟ هل كانت الشعوب العربية رحيمة بهم؟ أم أنها ضريبة لا بد أن تدفعها كل ضحية من سوريا؟
اللجوء إلى البلاد العربية ليس أكثر أمانًا
وفقًا لإحصائيات منظمة الهجرة الدولية لعام 2016، تجاوز تعداد السوريين اللاجئين إلى الدول العربية المجاورة مثل الأردن ولبنان والعراق ومصر 2 مليون، وكان لبنان الأكثر استقبالًا للاجئين.
في عام 2016، أنقذت قوى الأمن الداخلي اللبناني 75 سيدة سورية أُجبرت على ممارسة الدعارة في منزل أشبه بالسجن في جونيه شمالي بيروت، خلال عملية نوعية لكشف أكبر شبكة دعارة في البلاد منذ اندلاع النزاع في سوريا في مارس 2011.
تفاصيل المأساة لم تتغير كثيرًا سوى في الثمن الذي دفعه تجار البشر لشرائهن، وعدد مرات استعمال أجسادهن في استقبال الزبائن يوميًّا. لم يكن وضعًا إنسانيًّا على الإطلاق، فالنوافذ مغلقة، ولا يخرجن من المنزل إلا في حالات الإجهاض، التي وصلت إلى أكثر من 200 عملية خلال أربعة أعوام فقط، أو للعلاج من الأمراض التناسلية بسبب ممارسة الجنس بصورة غير آمنة، أو لعلاج الأمراض الجلدية بسبب عدم تعرضهن لأشعة الشمس.
تتعرض النساء التي أُجبرن على العمل في تجارة الجنس لعنف لا ينتهي، حتى أن إحداهن تُجلَد وتُضرَب وتُصعَق إذا اشتكى أحد الزبائن مما ترتديه، أو لسوء الأداء في أثناء إمتاع الزبون لإقناعه بالبقاء ساعة أخرى. وعادةً تبدأ السيدات في العمل من العاشرة صباحًا حتى السادسة بعد الفجر لليوم التالي، ونادرًا ما ينمن قبل استدعائهن إلى العمل.
استطاعت ثلاثة نساء الهرب من المنزل، ثم ركبن حافلة صغيرة واتجهن إلى جنوب بيروت وأبلغن السائق، فاتصل بقوى الأمن الداخلي اللبناني لتخرج هذه المآساة إلى العلن.
أما في مصر، فعلى هامش المأساة الحقيقية للاجئين السوريين، نشأت مكاتب سمسرة لتزويج الفتيات السوريات عرفيًّا من مصريين مقابل عمولات.
ففي مدينة السادس من أكتوبر، حيث التجمع السوري الأكبر في مصر، علقت إدارة مسجد الحُصَري لافتة تحث فيها الرجال المصريين على الكف عن البحث عن زوجات سوريات داخل المسجد.
يقول خالد، وهو أحد الشباب السوريين الذين يبيعون المخبوزات أمام المسجد، إنه يُسأل مئة مرة في اليوم دون مبالغة عن مكاتب تسهيل زواج السوريات، أو إن كانت له أخت يريد تزويجها. يشعر خالد بالإهانة حين يسألوه بهذا الشكل، كما لو كانت السوريات «دجاجات للبيع».
تحول بعض الرجال المصريين إلى الزواج من سوريات بصفقة بيع وشراء، لأنهم يعتقدون أن التكلفة لن تزيد على 45 دولارًا، بعد أن أصبح الزواج من مصريات صعب المنال في ظل الاقتصاد المصري المتعثر. تكمن الصعوبة في أن الطقوس المعتادة للزواج في مصر تحتِّم على الرجل امتلاك شقته الخاصة، إضافة إلى دخل ثابت. بينما يؤكد خالد أن إشاعات سهولة الزواج من سوريات نشرها شبيحة الأسد المقيمين في مصر بهدف النيل من سمعة اللاجئات.
اقرأ أيضًا: الزواج في مصر لمن يدفع فقط
يفرض القانون المصري على السوريين الحصول على تأشيرة وموافقة أمنية قبل دخول البلاد.
تندهش المصرية نشوى سلطان، التي تعمل خاطبة، من الطلبات الصعبة التي تتلقاها من مواطنيها الباحثين عن الزواج من سوريات. فقد جاءها رجل أرمل يبلغ 54 عامًا ولدية ثلاثة أبناء، يبحث عن سيدة سورية جميلة في الأربعين ولم تنجب من قبل، وليست لديها نية الإنجاب مستقبلًا. شبّهت الخاطبة طلب العجوز بأنه يبحث عن خادمة تطبخ له وترعى أولاده، لأنه أبلغها أن كل ابن يحب أطعمة معينة، وعليها تلبية طلباتهم.
لا تخجل بعض الخاطبات من عرض طلبات الزواج على سوريات قاصرات من أجل الحصول على العمولة.
في 2013، فرض القانون المصري على السوريين الحصول على تأشيرة وموافقة أمنية قبل دخول البلاد، ما فاقم من صعوبة الحصول على إقامة في مصر بالنسبة إلى كثيرين منهم. هذا التضييق وشبح التهديد بالترحيل أسهَم في دفع السوريات إلى الزواج بمصريين لمواجهة مشكلات الإقامة، والنجاة من الاغتصاب أو الموت داخل سوريا.
من الزواج العرفي في مصر إلى زواج السُّترة في الأردن. هكذا تغير اسم الاستغلال، لكن لم تتبدل تفاصيله.
سافر رجل سعودي يبلغ من العمر 50 عامًا إلى عَمّان ليتزوج «غزال»، وهي فتاة سورية تبلغ 18 عامًا، لمدة أسبوع واحد فقط، بعد أن دفع لعائلتها 3100 دولار.
لا تمثل زيجة غزال حالة فردية، بل هو اتجاه عام لدى راغبي الزواج من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و80 عامًا، ويبحثون عن فتيات لا تزيد أعمارهن عن 16 عامًا. فقد وثّقت دائرة قاضي القضاة الأردنية زواج أكثر من 4400 فتاة قاصر حتى عام 2016.
لا يقتصر الاستغلال على صفقة شراء جواري، بل تتعرض السوريات في مخيم الزعتري، أكبر مخيم للسوريين في الأردن، إلى التحرش والاغتصاب على يد «عصابات الجنس»، كأن ينظم عدد من الشباب أنفسهم في عصابات ويحاصرون الفتيات في الحمام المختلط داخل المخيم، لتمزيق شرف عائلة الضحية داخل مجتمع المخيم.
أما في العراق، فيشكو أحد الرجال السوريين اللاجئين من أن المخيمات تحولت إلى ما يشبه سوق الغنم، إذ يسافر إليهم الرجال من دول الخليج ليعرضوا عليهم الأموال بغرض الزواج السري من بناتهم. ناهيك بحوادث الاغتصاب والتحرش اليومي داخل المخيمات وخارجها.
لكن في العراق، وخصوصًا إقليم كردستان، تكونت صورة نمطية مسبقة عن الفتيات السوريات كفتيات ليل، لأن شباب الإقليم كانوا يسافرون إلى سوريا قبل اندلاع الاقتتال بحثًا عن الجنس. وما زالت تلك الصورة النمطية قائمة، ما أثّر في زيادة ظاهرة التحرش الجنسي لاحقًا في الإقليم تجاه اللاجئات.
استغلال لا ينتهي
الاستغلال الجنسي هو القاسم المشترك الذي وجده السوريون في البلاد التي لجؤوا إليها، وبنفس التفاصيل. خدعة على أيدي وسطاء يستغلون رغبتهم في الوصول إلى بر الأمان، تتم الصفقة الباهظة، ثم تتوالى الديون على كاهل الرجل والمرأة والطفل، فيضطرون إلى تقديم أجسادهم من أجل لقمة عيش.
تدفع الضغوط النفسية والثقافية التي تواجه السوريين قبل دخول أوروبا وبعده إلى الرضوخ للابتزازات نوعًا ما، بغية الوصول إلى هدفهم حيث الأمان. لكن حتى بعد الوصول إلى مخيم في أوروبا، فالبيئة المحيطة لا تلائم السياق الاجتماعي للسوريين، فالرجال والنساء في مخيم واحد. وكَفّ الأوروبيون عن استقبال اللاجئين بنفس الحفاوة منذ موجة النزوح عام 2015، ما زاد الاحتياج إلى إشباع احتياجاتهم الأساسية.
لكن الضغوط في البلاد العربية جاءت على هيئة قوانين تشجع الجاني على استغلال الضحية، ليصب في سياق العبودية الجنسية تحت مسمى الزواج العرفي أو زواج السترة. هذا الاستغلال بالطبع لا بد أن يواجِه مقاومة من الدول والمنظمات الدولية، لكنه بالتأكيد لن يجد نهايته الحقيقية إلا بوضع حد للمأساة السورية نفسها.