كرَّس «ستيفن هوكينغ» حياته في مجال الفيزياء محاولًا الوصول إلى نظرية كاملة للكون، توفق بين فيزياء الجسيمات ما دون الذرة المسماة بـ«الكوانتم» والقوانين التي تحكم العالم الكبير، من كواكب ونجوم ومجرات، والتي طورها نيوتن وآينشتاين.
في ستينيات القرن العشرين، عندما كان هوكينغ متزوجًا من جين، زوجته الأولى، قال: هدفي بسيط، فهمٌ كامل للكون. لماذا هو على حالته هذه؟ ولِمَ يوجد من الأساس؟
بعد وفاته في مارس 2018 نُشرت ورقة من ضمن أوراق أخرى عمل عليها هوكينغ في اللحظات الأخيرة من حياته، تطرح نظرية كاملة عن بداية الكون، والأكوان الموازية، معتمدًا على «نظرية الأوتار»، ومتجاهلًا تمامًا القوانين الفيزيائية التي تبنَّاها «ألبرت آينشتاين».
تطرح الفيزياء الحديثة أكثر من نظرية حول أصل الكون، ولكن أكثرها شعبية نظرية «Big Bang» (الانفجار الكبير)، ومفادها أن الكون تمدد بشكل متسارع بسرعة الضوء، ومن مادة متناهية الكثافة والحرارة وقع انفجار، أعقبه انفجارات متكررة لكون «يتضخم»، ويخلق عددًا لانهائيًا من «أكوان الجيوب» مبعثَرة في الفضاء.
فما الجديد الذي قدمته ورقة هوكينغ؟ وهل حقق حلمه فعلًا؟
نظرية جميلة ومنضبطة ودقيقة حول بدايات الكون
سافر «توماس هيرتوغ»، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة لوفان الكاثوليكية البلجيكية، إلى جامعة كامبريدج للعمل على نظرية هوكينغ، وكلما طال الوقت بات التواصل بينهما أكثر صعوبة، حتى تولَّد لدى هيرتوغ انطباع، بحسب تصريحات نَشَرتها «الغارديان»، أن هوكينغ لم يكن يرغب بأن ينتهي، وهذه هي طبيعته.
في خريف 2017 قال هوكينغ إن النظرية المألوفة للتضخم الأبدي (الانفجار الكبير) تتوقع أن الكون بشكل شامل مثل كسور عشرية لانهائية، كلوحة ألوانها متداخلة، الأكوان فيها مثل فقاعات، يفصل بين كل فقاعة/كون وأخرى محيط يتضخم بمرور الوقت.
لكن هوكينغ وهيرتوغ تحديا تلك النظرة، وطرحا فكرة أن الأكوان الجيوب ليست مختلفة بقوانينها الفيزيائية عن بعضها كما كان يُعتقَد.
يقول هيرتوغ موضحًا: «في النظرية القديمة هناك كل أنواع الأكوان، بعضها فارغ، بعضها ممتلئ بالمادة، بعضها متوسع بشكل كبير، وآخر قصير للغاية، هناك اختلاف كبير (...)، لكن يظل الغموض باقيًا حول هذا التساؤل: لماذا نعيش في هذا الكون الخاص بنا، حيث كل شيء متوازن بشكل جيد، وملائم لظهور التعقيد والحياة؟».
طوَّر هوكينغ وهيرتوغ أفكارًا في مفهوم «الهولوغرام» لإبراز البعد الزمني التضخمي الأبدي، لوصف التضخم الأبدي دون الحاجة إلى نظرية آينشتاين.
يرى هيرتوغ أن هذه الورقة تأخذنا خطوة واحدة باتجاه شرح هذا «الضبط الدقيق الغامض» لكوننا، كيف؟
تقلل النظرية من عدد الأكوان المتوازية لتصل بها إلى مجموعة من الأكوان ليست مستعصية على الفهم، وكلها متشابهة، سيقول عنها هوكينغ إنها، نظريًّا، تشبه الكون كما يجب أن يكون، ما يمنحنا أملًا في أننا يمكن أن نصل إلى إطار تنبؤي كامل لعلم الكون.
تعد تلك النظرية تحديثًا لعمل نشره هوكينغ والفيزيائي الأمريكي «جيمس هارت» في ثمانينيات القرن العشرين، باستخدام تقنيات رياضية حديثة وقوية كانت قد تعرضت للتفعيل من قبل في نظرية الأوتار، تصف الواقع عبر تفاعلات أشياء أحادية البعد تُعرَف بأنها أوتار كونية.
طوَّر هوكينغ وهيرتوغ أفكارًا متنوعة في مفهوم «الهولوغرام» لإبراز البعد الزمني التضخمي الأبدي، ومكَّنهما ذلك من وصف التضخم الأبدي دون الحاجة إلى الاعتماد على نظرية آينشتاين، ولفهم هذا التطور النظري لا بد من الرجوع إلى الوراء قليلًا.
قد يهمك أيضًا: كيف غيَّر ستيفن هوكينغ طريقتنا في النظر إلى الكون؟
اكتشاف آينشتاين العظيم «التأثير الكهروضوئي»
في ميكانيكا الكوانتم لا شيء مؤكدًا، ونَصِف الأشياء فقط بالاحتمالات، ويرى آينشتاين أن الاعتماد على الاحتمالات يشير إلى عدم الوعي بقوانين الواقع.
ظن إسحاق نيوتن أن الضوء مصنوع من جزيئات، وعندما تطورت التكنولوجيا أثبتت خطأ هذا الاعتقاد، وأنها عبارة عن موجات.
وصف هذا الإثبات، ومعه «معادلات ماكسويل»، سلوك الضوء لتنتهي المناقشات العلمية حول طبيعة الضوء، ولكن التجارب كشفت أنه عندما يدخل الضوء سلكًا بجوار سلك يقفز الإلكترون من واحد إلى الآخر، وكان يُعتقد أن ذلك يحدث لأن موجات الضوء تجعل الذرات تتحرك، ما يدفعها إلى قذف الإلكترون. ولكن عندما قيست بعناية وقع تناقض كبير، اكتشفوا أن ذلك يحدث بالنسبة إلى بعض موجات الضوء الطويلة، وأما مع موجات أخرى، فلا يقفز الإلكترون بتاتًا.
اختار آينشتاين التأثير الكهروضوئي لحل المسألة، لا بد من أن يحدث هذا التأثير بغض النظر عن نوع الضوء «موجي أم جسيمي»، وبعد تأمل ابتكر آينشتاين فرضية جمعت بين النظريتين السابقتين، أي إن الضوء يحمل طبيعة موجية وجسيمية في الوقت ذاته.
اقرأ أيضًا: 100 عام من محاولات الفهم: ماذا يعني اكتشاف الموجات التثاقلية؟
فتح التأثير الكهروضوئي الباب على مصراعيه لفيزياء «الكوانتم»، وهي قائمة على الشك والاحتمالات، وتحمل تصورات «غريبة» عن حركة الجسيمات ووجودها. ولكن آينشتاين ظل رافضًا لتلك الفيزياء، وأثبتت التجارب أنه كان مخطئًا، لقد فتح بابًا علميًّا جديدًا، لكنه رفض أن يصدق هذا العالم.
يرى آينشتاين أن الاعتماد على الاحتمالات يشير إلى عدم الوعي بالقوانين التي تحكم الواقع، وجاء في رسالة شهيرة إلى عالم الفيزياء الكمومية «ماكس بورن»: «أنا مقتنع بأن الله لا يلعب النرد». ولا يقصد بذلك «الإله الشخصي» الذي تؤمن به الأديان الإبراهيمية، ولكن جاء رفضه قاطعًا لميكانيكا الكم.
وتعبر جملة آينشتاين عن مدى غرابة فيزياء الكوانتم.
مثلًا الجزء الرئيسي من نظرية الكوانتم يُطلَق عليه «مبدأ الشك لهايزنبرغ». من المستحيل أن تعرف سرعة وموضع الجسيم الواحد في الوقت ذاته. لذلك، فإنه في ميكانيكا الكوانتم لا شيء مؤكدًا، ويمكن أن نصف الأشياء فقط بالاحتمالات.
لم يكن آينشتاين يحب ذلك، واعتقد بضرورة وجود قواعد واضحة للطبيعة التي يمكن أن تعرف الجزيئات، ويجعلها ممكنة لحساب سرعتها وموقعها.
وذات مرة كان يسير مع «إبراهام بايس»، كاتب سيرته الذاتية، فتوقف فجأة متسائلًا: هل تعتقد أن القمر موجود فقط عندما ننظر إليه؟ في إشارة إلى «فيزياء الكوانتم» التي يشير أحد «قوانينها» إلى أن نظرة المراقب تغير في حركة الجسيمات ووجودها.
تشير الأدلة التجريبية إلى أن ميكانيكا الكم حقيقية، وكان آينشتاين مخطئًا في رفض الفكرة، ومع ذلك عندما تحاول ضم ميكانيكا الكم إلى النظريات الفيزيائية الكبيرة، مثل النسبية العامة لآينشتاين، فإنها لا تعمل.
نموذج الانفجار الكبير
تقول النظريات الحديثة إن الكون أصبح موجودًا في جزء صغير من الثانية بعد الانفجار الكبير نفسه. وتوسَّع الكون بمعدل متسارع، وهناك مناطق لا يتوقف فيها التضخم المتسارع أبدًا، ويُعتقَد أن التأثيرات الكمومية تجعل التضخم مستمرًا إلى الأبد. في بعض المناطق من الكون التضخم خالد.
أما الجزء الملحوظ من كوننا، وهو جيب كوني ملائم للحياة، فهو منطقة توقف فيها التضخم، وبذلك تَشكَّلت المجرات والنجوم.
الورقة الجديدة لهوكينغ ترى أن تلك الرواية عن التضخم الأبدي للانفجار الكبير خاطئة، يقول هوكينغ: «مشكلة الرواية المعتادة عن التضخم الأبدي أنها تفترض أن الخلفية الكونية الموجودة التي تطورت بحسب نظرية آينشتاين عن النسبية العامة تتعامل مع تأثيرات الكوانتم باعتبارها تقلبات حول تلك الخلفية، على الرغم من أن ديناميكيات التضخم الأبدي مَحَت الفاصل بين فيزياء الكوانتم والفيزياء التقليدية، ونتيجة لذلك تنهار نظرية آينشتاين في التضخم الأبدي».
لقد قللت تلك الرواية من تأثيرات فيزياء الكوانتم، رغم أنها محت الفاصل بين الفيزياء التقليدية والكوانتم.
يقول هوكينغ: نتوقع أن كوننا بالمقاييس الكبرى متجانس إلى حد معقول، وله نهاية على مستوى العالم، لذلك، فإنه ليس بنية عشرية.
قد يعجبك أيضًا: بيغ بانغ: كيف هزم رجل دين آينشتاين؟
«نظرية الأوتار»
استخدم هيرتوغ وهوكينغ نظريتهما لاشتقاق تنبؤات أكثر مرونة حول البنية العالمية للكون.
نسخة «التخضم الأبدي» التي يقدمها هوكينغ وهيرتوغ تقام على أساس «نظرية الأوتار»، فرع الفيزياء النظري الذي يحاول أن يصالح بين الجاذبية والجاذبية العامة في فيزياء الكوانتم. وفيها توصف جزئيًّا المكونات الأساسية للكون باعتبارها اهتزازات من الأوتار صغيرة. وتستخدَم مقاربة هوكينغ تلك مفهوم نظرية «الأوتار الهولوغرامية» التي تطرح الكون باعتباره «هولوغرام» مُعقدًا وكبيرًا. أي إن الواقع الفيزيائي مكان ثلاثي البعد، يمكن تصغيره رياضيًّا إلى بُعدين، والمعلومات موجودة على السطح فقط.
طوَّر هوكينغ وهيرتوغ أفكارًا مختلفة مبنية على مفهوم الهولوغرام، ليجسدا في النهاية البعد الزمني في التضخم الأبدي، ومكنهم هذا من وصف التضخم الأبدي دون أن يعتمدا على نظرية آينشتاين، في النظرية الجديدة يحدث تخفيض للتضخم الأبدي إلى حالة خالدة محددة على سطح مكاني في بداية الزمن.
يقول هيرتوغ: عندما نتتبع تطور الكون عائدين إلى الوراء في اللازمن، فإننا في نقطة معينة نصل إلى عتبة التضخم الأبدي، إذ لا يكون لمفهومنا المألوف عن الزمن أي معنى.
تتنبأ نظرية «اللاحدود» لنسبية آينشتاين بأننا إذا عدنا إلى الوراء زمنيًّا وقت بداية الكون، سنجده يتقلص وينغلق كالكرة على نفسه، ولكن في هذه النظرية الجديدة، نرى خطوة تبتعد كثيرًا عن هذه الفكرة السابقة، إننا نقول الآن إن «هناك حدود لماضينا» بحسب هيرتوغ.
استخدم هيرتوغ وهوكينغ نظريتهما الجديدة لاشتقاق تنبؤات أكثر مرونة حول البنية العالمية للكون، وتنبآ بأن الكون انبثق من التضخم الأبدي في ماض مُحدَّد ومعلوم، وأكثر بساطة مما تنبأت به بنية الكسور بحسب النظرية القديمة للتضخم الأبدي.
وقال هوكينغ: نحن لا نصل إلى عالم واحد فريد من نوعه، ولكن نتائجنا تشير إلى انخفاض كبير في الأكوان المتعددة إلى مجموعة أصغر بكثير من الأكوان الممكن تناولها.
وهذا يجعل النظرية أكثر تنبؤًا، وقابلية للاختبار.
ما بعد هوكينغ
ورقة هوكينغ لن تكون الأخيرة التي تحمل اسمه، فهناك ورقتين على الأقل عن «الثقوب السوداء» في طور الإعداد للنشر.
يخطط هيرتوغ هذه الأيام لدراسة الآثار المترتبة على النظرية الجديدة في مقاييس صغرى، تكون في متناول تلسكوبات الفضاء. ويُعتقَد أن اكتشاف موجات الجاذبية هي البداية، وتعد تموجات في الزمكان، تولدت في مخرج من التضخم الأبدي.
اختلف العلماء حول أطروحة هوكينغ، بعضهم قال إنه كتب رياضيات رائدة مطلوبة للمركبة الفضائية لتعقب آثار الانفجار الكبير.
يشير تقرير نشرته «الغارديان» إلى أن تتبعات هذه الفرضية قد لا تكون واضحة، إلا أن النظرية تمنح الراحة للفيزيائيين الذين يتساءلون حول كيفية تشكيل هذه الأكوان وسط اختلافات حادة.
وأوضحت «الغارديان» أن هذه الورقة لن تكون الأخيرة التي تحمل اسم هوكينغ، فـ«أندرو سترومينغر» في جامعة هارفارد يُعِدُّ ورقتين على الأقل مع هوكينغ عن «الثقوب السوداء» لا تزال في طور الإعداد للنشر.
يعتقد هيرتوغ أن عمله مع هوكينغ خطوة صغيرة باتجاه نظرية عن أصولنا الكونية تخوِّل للفيزيائيين اختبارها، ويشدد على أنه إذا كان الكون تطور كما تنبأت النظرية، فربما يترك هوكينغ بصمته على أمواج الجاذبية، أو ما يدعى «الخلفية المايكروفية للكون»، تلك الأشعة التي أُطلِقت في ميلاد الكون.
قال هيرتوغ إنه متفائل، وتلك الملاحظات الإضافية والعمل الإضافي على النظرية سيمكننا تدريجيًّا من اختبار نماذج الانفجار الكبير، مضيفًا أننا «لا نفعل ذلك من أجل المتعة الأفلاطونية، على الرغم من أنه عمل ممتع».