ظهرت الوطنية كعقيدة ومفهوم جنبًا إلى جنب مع الدولاتية (أي قيام الدولة ومؤسساتها بشكلها الحديث)، ونشوء الدولة القومية بعد معاهدة «وِستفاليا» في القرن التاسع عشر، التي نتج عنها استقلال كثير من الدول الأوروبية مثل هولندا و«توسكانا»، وتبلوُر مظهر الدولة القومية الحديثة.
يروِّج مفهوم الوطنية اعتبارَ الدولة أو «الأُمَّة» وسمات أغلبية سكانها العرقية والدينية مصدرًا للفخر والاعتزاز، ويعزِّز العدائية تجاه «الغريب»، وهو كل من يختلف عن المجموعة السكانية المتجانسة داخل حدود الدولة، أي اعتبار كل من ينتمي إلى هُويَّة أخرى تهديدًا للدولة، وبهذا تكون الوطنية ببساطة هي العنصرية تجاه غير مواطني الدولة.
ربما لذلك أصبحت الوطنية في أغلب الأحيان تُستخدَم لتبرير العنصرية الممنهجة من النظام الحاكم، وهي العصب الأساسي للخطابات الفاشية (الأنظمة الديكتاتورية القائمة على التعصب العرقي أو الوطني والعسكرة المطلقة) التي نشهدها اليوم مع صعود اليمين المتطرف، مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة و«تيريزا ماي» في بريطانيا و«مارين لوبان» في فرنسا، الذين يتذرَّعون بحجة اللاجئين «الغرباء» لتبرير عنصريتهم.
كيف تعلِّمك الوطنية كُره اﻵخَر؟ اللاجئون نموذجًا
تستخدم الفئات المسيطرة استراتيجية «فرِّقْ تسُدْ» لتقوية حكمها وتحويل النقد الموجَّه ضدها إلى منحًى آخر، فمثلًا نرى اليوم صعودًا مخيفًا في كمية الخطابات الفاشية من الدول التي تلقي باللوم على «أزمة اللاجئين» لتبرر فشل نظامها، بحيث تشيطِن صورة المهاجر أو اللاجئ في عقول مواطنيها، وكل ذلك مغطًّى ومزخرَف بـ«الوطنية».
المواطن العربي الفخور بهويته التي أُسقِطَت عليه، الذي يعيش تحت خط الفقر، لديه قواسم مشتركة مع فقراء من بلاد أخرى ربما أكثر مما يتشابه مع حُكَّام موطنه، ورغم ذلك فإنه ينصاع لا إراديًّا للخطابات الوطنية التي تحوِّل حدودًا رسمها الاستعمار بالأساس، كاتفاقية «سايكس بيكو» التي أنتجت الدول العربية وَفْقًا لتقسيمات بريطانيا وفرنسا مع روسيا، إلى ظاهرة رومانسية يجب تقديسها.
قد يعجبك أيضًا: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
ما الوطنية؟
الوطنية ليس لها وجه واحد، فمن القرن التاسع عشر حتى اليوم تمظهرت بأشكال عدة؛ كمفهوم «النقاء الوطني»، أي تعريف بعض الحكام «الوطنيين» لسمات المجتمع «الوطني الصافي» بأنه يجب أن يتشارك جميع سكانه السمات اللغوية والعِرقية والدينية والتاريخية نفسها، وبذلك تُعتبر أي أقلية كأنها «خارجة» عن هذا المجتمع وتجب محاربتها.
بعدها ظهر شكل «القومية المدنية» التي نشأ عنها أكثر أشكال الوطنيات نفاقًا؛ «الوطنية الليبرالية» (National Liberalism)، وهي، على عكس القومية الدينية والعرقية، تعني انتماء الأفراد إلى الدولة بدلًا من الدين أو العرق، واعتبار الفرد مواطنًا يخدم المصلحة العامَّة.
اعتبرت الوطنية الليبرالية نفسها متوافقة مع مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، إلا أنها في الوقت نفسه عمدت في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى شيطَنة المهاجرين وغير المنتمين إلى العرق الأبيض، كسياسات التفرقة العنصرية الممنهَجَة التي لا تزال متَّبَعة حتى اليوم، مثل إقرار قوانين متعلقة بالحد من قبول اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة.
يرى البعض أنه يجب الفصل بين الوطنية الليبرالية والوطنية التوسعية، والأخيرة مثالها الوطنية الهتلرية النازية القائمة على التعصب العرقي، وهي من أكثر الأيديولوجيات عدوانيةً، إذ اعتمدت على تطهير الأراضي من سكانها الأصليين واحتلالها.
الأنظمة القمعية تستخدم حجة توحيد الشعوب تحت مظلة «الوطنية» لشيطنة الآخَرين.
وفي ظل التعدد في «أنواعها»، لا يوجد تعريف واضح ومتبلور للوطنية، لأن خيطًا رفيعًا يفصل بينها وبين الفاشية، وبين حب الوطن وكره من لا ينتمي إليه، وبين اعتبار المواطنين أفرادًا عليهم واجبات ولهم حقوق متميزة واعتبار اللاجئين «مخرِّبين» يجب التخلص منهم.
يدفعنا هذا إلى التساؤل بشأن جوهر الوطنية وأهدافها، التي طالما استخدمتها الفئات الحاكمة لتبرير بطشها.
قد يهمك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في «مجتمع فاشي»
هل علينا أن نكون وطنيين؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لعل علينا دراسة الوطنية في أي بقعة جغرافية حسب علاقتها مع النظام الحاكم، وطرح أسئلة متعددة حول موقعها وأهدافها: هل تستخدمها الطبقة الحاكمة لإقناع أفراد الشعب بأنهم أفضل من غيرهم، ومِن ثَمَّ لتبرير قمع بلاد أخرى، وبل واحتلالها أحيانًا؟ هل تصبح الوطنية هنا وطنية القامع أم المقموع؟
يمكن تطبيق تلك الأسئلة على الواقع الفلسطيني مثلًا: هل وطنية الإسرائيليين مشابهة لوطنية الفلسطينيين؟ هل مَن يبرر الاحتلال يتساوى مع من يرفضه؟ إذا كانت تلك وطنية القامع فهي حتمًا عنصرية، لأن الأنظمة القمعية تستخدم حجة توحيد الشعوب تحت مظلة «الوطنية» لشيطنة الآخَرين ووضع الشعب في معارك هو نفسه لا يعرف لماذا يخوضها.
اقرأ أيضًا: المتعة المرعبة: كيف تُغسل الأدمغة؟
لا يُشترط وجود الخطابات الوطنية كي توجد الخطابات العنصرية، إلا أنهما يمكن أن يعزز كلٌّ منهما الآخَر.
من ناحية أخرى، فإن الوطنية نفسها قد تأتي على شكل ردِّ فعل ضد الظلم، وفي هذه الحالة تكون بعض الحركات الاجتماعية الوطنية أقل تعصبًا من تلك التي يمنهجها النظام، لأنها استعانت أصلًا في تشكيلها بدعمٍ من حركات مشابهة لها في الخارج، ومثال هذا حركات النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
لكن حتى تلك «الوطنيات» مربكة لأنها انطلقت أساسًا من مفهوم مُسقَط، أي إن تلك المفاهيم تتمركز بداخلنا بشكل غير مباشر وغير واعٍ. فمثلًا، نتعلم من خلال الإعلام والمدارس والثقافة والمجتمع، وهي المؤسسات التي أطلق عليها الفيلسوف الفرنسي «لوي ألتوسير» (Louis Althusser) اسم «أجهزة الدولة الأيديولوجية»، أن علينا أن نحب الوطن ونقدسه، دون أن نعرف فعليًّا لِمَ نشعر بالانتماء إلى هذه البقعة من الأرض.
لذلك، على الحركات الاجتماعية المناهضة للاستعمار أن تنطلق من مفاهيم جديدة، غير مجرَّدة، تُنتجها هي من خلال تجاربها الواقعية التي تعيشها وهي تقاوم الظلم والقمع، مثل حزب «الفهود السود»، الذي طالب بحقوق السود في أمريكا وتضامن في الوقت نفسه مع حركات تحررية في مختلف أنحاء العالم، كما تَلقَّى الدعم من كثير من الأحزاب والحركات الوطنية متعددة الجنسيات.قد يعجبك أيضًا: ما الذي نعرفه عن الأناشيد الوطنية العربية؟
إن وجود الخطابات الوطنية ليس شرطًا كي توجد الخطابات العنصرية، والعكس بالعكس، لكن كلًّا منهما يمكن أن يعزِّز الآخَر؛ من خلال تجذير مفهوم التفوق القومي والوطني والعِرقي، واعتبار الدولة مصدرًا للفخر، وتبرير بطشها وقمعها للشعب نفسه بشكل عام ولغيره من الشعوب بشكل خاص.