بدأ التنقيب عن البترول في شبه الجزيرة العربية خلال عشرينيات القرن الماضي، إلا أن النفط السعودي لم يُعثر عليه قبل أواخر الثلاثينيات، والفضل في ذلك يرجع إلى الجيولوجي الأمريكي «ماكس ستاينكَى» (Max Steineke).
في صباح يوم الجمعة الثامن عشر من فبراير عام 1921، نشرت صحيفة تُحرَّر بداخل جامعة ستانفورد الأمريكية خبرًا لن يثير اهتمام كثيرين وقتها، لكنه سيكون له أثر غير مباشر على الغالبية العظمى من سكان الأرض في ما بعد.
في الصفحة الثالثة من جريدة «بالو ألتو اليومية» (The Daily Palo Alto)، التي ستتحول بعد ذلك إلى «ستانفورد اليومية» (The Stanford Daily)، نُشرت أسماء الطلبة الذين مُنحوا لتوهم درجاتهم الجامعية بعد إتمام الدراسة في مختلف الأقسام.
كان ماكس ستاينكَى من بين هؤلاء، الطالب الأمريكي الذي تخرج في قسم الجيولوجيا، والذي سيصبح بعد عدة سنوات صاحب الفضل في اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية، فاتحًا الطريق لها كي تصبح بعد ذلك قوة اقتصادية وسياسية عالمية، تشارك في تحديد مصاير مئات الملايين من البشر.
محاولة أولى: فرانك هولمز
بقيت الأراضي السعودية بكرًا حتى عام 1927، وتكهنت شركات البترول بعدم وجود نفط داخلها.
في عام 1921، كانت جهود عبد العزيز آل سعود لتوحيد البلاد في إطار دولة ثالثة قد تُوجت بإعلانه سلطانًا على نجد وحكمه للجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية. خلال العام التالي، تقدم إليه الضابط البريطاني النيوزيلاندي «فرانك هولمز» (Frank Holmes) بطلب الحصول على امتياز التنقيب عن البترول في سلطنته، وهو ما وافق عليه عبد العزيز.
بدأ هولمز مغامرته في البحث عن النفط من الإحساء بعقد يعود على السلطان بـ2500 جنيه إسترليني في العام، لكن الجيولوجيين الذين كانوا يعملون معه فشلوا في إيجاد ما قد يحثَّه على بدء الحفر على مدار الأشهر التي تلت ذلك، فما كان منه إلا أن وقف نشاط شركته في الإحساء عام 1927، وتوقف عن دفع مستحقات السلطان عبد العزيز السنوية، ورحل في صمت إلى البحرين في مغامرة حالفه فيها الحظ، على عكس السابقة.
بقيت الأراضي السعودية بكرًا، في ظل التكهنات السلبية لشركات البترول عن وجود ما يستحق التنقيب لأجله في باطنها.
محاولة ثانية: شركة «سوكال»
أصبح السلطان عبد العزيز ملكًا على الأراضي السعودية بالكامل في عام 1932، وأُعلنت المملكة العربية السعودية بشكلها الحالي. كانت للملك رغبة في استكشاف آبار المياه الجوفية بأراضيه، فعهد بالأمر إلى رجل الأعمال «تشارلز كرين» (Charles Richard Crane)، صاحب الخبرة في مجال الري واستصلاح الأراضي.
أرسل كرين أحد مهندسيه الموجودين في اليمن، ويُدعى «كارل تويتشل» (Karl Twitchell)، إلى السعودية لدراسة فرص إيجاد مياه جوفية. وعلى عكس التطلعات، جاء تقرير تويتشل سلبيًّا بشأن مصادر المياه، إلا أنه أشار إلى أهمية الارتشاحات البترولية في منطقة الإحساء، حيث فشل هولمز من قبل في التنقيب عن نفط المملكة.
بعد ذلك، حصلت شركة «ستاندرد أويل كاليفورنيا - سوكال» (Standard Oil of California - SoCal)، على حقوق التنقيب عن البترول في أراضي المملكة مقابل ما مجموعه 50 ألف جنيه إسترليني ذهبي، ومبلغ سنوي قدره خمسة آلاف جنيه إسترليني.
أسست «سوكال» بعد ذلك في عام 1933 شركة تابعة لها لتدير عمليات التنقيب في المملكة، وسمَّتها «ستاندرد أويل كاليفورنيا العربية» (California Arabian Standard Oil Company - CASOC)، التي ستتحول بعد ذلك إلى شركة «أرامكو» الشهيرة، وباشرت إرسال الدفعة الأولى من جيولوجييها إلى السعودية، لكن لم يكُن الوقت قد حان بعد كي يصل ماكس ستاينكَى إلى المملكة، فلم تطأها قدماه قبل عام 1934 مع الدفعة الثانية من الموظفين.
ستاينكَى يصل إلى السعودية
كانت حقول «سوكال» الاستكشافية تتمركز بالقرب من جبل الظهران، الذي سمُّوه «قبة الدمام» بعد أن رأوا فيه تشابهًا مع منطقة جبل الدخان في البحرين، حيث استُخرج النفط بنجاح في 1932. لكن «سوكال» تمهلت حتى نهاية إبريل من عام 1935 حين بدأت حفر أولى الآبار الاستكشافية في السعودية، بئر «الدمام-1».
منذ ذلك الحين حتى مطلع 1938، كانت الشركة قد حفرت ست آبار إضافية في ظلِّ النتائج الواعدة التي حققتها بئر «الدمام-2»، لكن بداية إنتاج البئر الرائعة تغيرت مع الوقت وتحول نفطها إلى خليط يغلب على تكوينه الماء، وهو ما حدث أيضًا مع بئرَي 3 و6، بالإضافة إلى فشل بئر «الدمام-1»، وجفاف كل من بئرَي «الدمام-4» و«الدمام-5».
كذلك، خيَّبت بئر «الدمام-7» الآمال المنصبَّة عليها، مما دفع إدارة «سوكال» إلى بدء تحقيقات عن الوضع القائم في السعودية والاستكشافات التي كلفتهم ملايين دون أي جدوى. حينها استدعت الشركة كبير الجيولوجيين لديها، ماكس ستاينكَى.
طبيعة السعودية القاسية لم تكن جديدة على ستاينكَى، فخريج ستانفورد الفذ ظل طوال ثلاثة عشر عامًا يتنقل بين حقول ألاسكا وكولومبيا ونيوزيلاندا، قبل أن يصل إلى السعودية وميدانها الواعد.
بقي ستاينكَى جيولوجيًّا عاديًّا لمدة عامين، ثم أصبح بعد ذلك كبيرًا للجيولوجيين في رحلة «سوكال» للبحث عن النفط السعودي، تلك الرحلة التي لم يكُن فيها وحيدًا، بل لحقت به زوجته «فلورانس» وابنتاه «ماكسين» و«ماريان»، ليبقين معه هنالك.
لم يصدر ستاينكَى أبدًا تزكيات بشأن الحفر في موقع قبل أن يستوفي جميع الدراسات عنه.
خرج ستاينكَى في رحلة استكشافية هي الأولى من نوعها في المملكة، من مدينة الظهران أقصى شرقي الأراضي السعودية حيث يقع معسكر «سوكال» وحقولها الاستكشافية، إلى مدينة جدة في أقصى الغرب.
جمع الرجل في هذه الرحلة عديدًا من الحفريات والعيِّنات الصخرية، ودَرَس طبيعة الأرض، ثم كتب ورقة بحثية عن الطبيعة الجيولوجية للمملكة، وساعدته تلك الخبرة في أعمال الكشف عن حقول البترول بعد ذلك، وجعلته الأكثر علمًا بين معاصريه بما يستتر في باطن الأراضي السعودية.
اقرأ أيضًا: كيف تهيمن «ماكينزي» على صناعة القرار داخل السعودية؟
السعودية تبدأ عهدها الجديد
لم يصدر ستاينكَى أي تزكيات بشأن الحفر في أحد المواقع قط إلا قبل أن يستوفي الدراسات الجيولوجية والجيوفيزيائية كافة عنه، وبمجرد وصوله إلى رأي بناءً على منهجه العلمي، لم يكُن يتوانى عن القتال من أجله.
مدفوعًا بما وصل إليه، أصدر ستاينكَى توصياته بمواصلة الحفر في بئر «الدمام-7» إلى أعماق أبعد، ورحل إلى مدينة سان فرانسيسكو ليواجه رؤساءه ويدافع عن رأيه في وجوب مواصلة الحفر وعدم تعليقه.
بينما يواصل ستاينكَى محادثاته، وبعد ثلاث سنوات من التنقيب، أثمرت «الدمام-7» عمَّا ظلَّت «سوكال» تبحث عنه طوال هذه المدة: بدأت البئر في إنتاج 1585 برميل بترول في اليوم الواحد، ارتفع إلى 3690 بعد ثلاثة أيام، وأثمرت أكثر من 100 ألف برميل خلال ثلاثة أسابيع.
بتعميق الحفر في كل من «الدمام-2» و«الدمام-4»، وصلت البئران إلى معدَّلات إنتاج «الدمام-7» نفسها، مُثبتتين أن حقل الدمام يصلح لأن يكون تجاريًّا لإنتاج البترول، وهو ما حدث، إذ بقي الحقل منتجًا للنفط حتى عام 1982 إلى أن توقف، وحينها كان قد أنتج 32 مليون برميل.
ظل ستاينكَى كبيرًا للجيولوجيين بفرع «سوكال» في السعودية حتى عام 1946، مُسهمًا ولو بقدر ضئيل في جميع اكتشافات حقول البترول هناك إلى أن رحل عنها، فقد طوَّر تقنيات حفر استكشافية استُخدمت بشكل موسع في جميع المواقع بالمملكة، وسهَّلت اكتشاف حقل «الغوار»، أكبر حقول البترول على مستوى العالم، كما أسهم الرجل على نحو بارز في اكتشاف حقل «بقيق» العملاق بالقرب من الدمام.
قد يعجبك أيضًا: كيف يُعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
الجيولوجي الذي غيَّر مستقبل الأرض
بسبب إنجازاته التي غيرت وجه العالم في التنقيب عن البترول في السعودية، وإضافته المهمة إلى علم الجيولوجيا، حصل ستاينكَى على «جائزة سيدني باورز التذكارية» (Sidney Powers Memorial Award) عام 1951، التي تمنحها «الجمعية الأمريكية لجيولوجي البترول» (American Association for Petroleum Geologist)، ليصبح خامس مَن ينالها في تاريخها.
لكن تدهور صحة ماكس ستاينكَى أدى إلى وفاته في كاليفورنيا عام 1952 وسِنُّه 54 عامًا، ولا تزال آثار إنجازاته في السعودية متجسدة أمام أعين الجميع، متمثلةً في اقتصادها القوي القائم على النفط.