في الخميس 5 سبتمبر عام 2018، أي قبل شهر تقريبًا من عقد الانتخابات العامة الرئاسية للبرازيل للعام نفسه، كان السياسي اليميني البارز المتصدر استطلاعات الرأي حينئذ، «جايير بولسونارو»، بين محبيه ومؤيديه، يجلس مرتاحًا على كتف أحدهم، وينظر إلى ذلك الحشد، مشيرًا إليهم بإبهام يده اليسرى. بين كل تلك الجموع، تسلل مجهول يدعى «أديليو بيسبو دي أوليفيرا» كي يطعنه بسكين، لتستقر أسفل معدة مرشح الرئاسة البرازيلية بولسونارو، مخترقة الكبد والرئة والقناة الهضمية، فاقدًا 40% من دمه، حسب تقارير أطباء المستشفى.
الطعنة لم تكن قاتلة، لأن أنصاره أسرعوا في حمله إلى المستشفى القريبة من موقع الحادث لمدينة جويز دي فورا، التي تقع شمال مدينة ريو دي جانيرو، لكن الطاعن نجا أيضًا من ضربات مؤيدي بولسونارو ولكماتهم التي كادت تودي بحياته، ثم سلموه للسلطات المعنية.
أُلقي القبض على دي أوليفيرا، اليساري الهوى، البالغ من العمر 40 عامًا، والذي كان منخرطًا في حزب «الاشتراكية والحرية» سبع سنوات من 2007 إلى 2014. يكتب باستمرار عن رفضه سياسات بولسونارو على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، وينادي بإطلاق سراح رئيس البلاد اليساري السابق «لولا دا سيلفا»، الذي يواجه حاليًّا عقوبة الحبس 12 عامًا بتهم فساد وغسيل أموال. لهذا السبب مُنع من الترشح لرئاسة البلاد.
الكشف عن الهوية السياسية للمعتدي كان قد حمل تعبيرًا مجازيًّا عما يحدث خلف كوالس المعركة السياسية: اليمين كرجل مفتول العضلات، وله أعوان كثيرون، يحاول أن ينال منه اليسار الذي يبدو رجلًا هزيلًا تمكن منه الإحباط والحيرة، حتى وإن قرر الانتقام، لن يصيب الهدف.
ربما كانت إصابة دي أوليفيرا بخيبة الأمل في كل السياسيين لسبب في فعلته، حسب ما عبر به على صفحته الشخصية، أو حتى انعزاله وحيدًا يقرأ الإنجيل، لأنه يعاني من خلل ذهني، حسب رواية أقاربه، بمثابة الدوافع التي قرر بمقتضاها اغتيال بولسونارو. إلا أن الشرطة البرازيلية وعدت باستمرار التحقيقات في الحادث، لأن الشكوك لا تزال تحوم حول احتمالية الخلل الذهني للمعتدي، إذ أعلن أنه أراد قتل بولسونارو تنفيذًا لأوامر الله.
كأس العنف
طمأن «فلافيو سانتياغو»، ابن المرشح الرئاسي المطعون، عبر تغريدة من حسابه على موقع تويتر، أنصار أبيه بأنه بخير، وأكد أن الإصابة سطحية. وخيم الحزن على رئيس البلاد الحالي «ميشيل تامر»، مؤكدًا أن التعصب لن يحقق سيادة القانون الذي يجب أن يحظى به أبناء الوطن. استنكر كل المرشحين دون استثناء محاولة الاغتيال، متضامنين مع بولسونارو، مصممين على نبذ الكراهية، وتحقيق الحوار.
اتهم مرشح حزب العمال الديمقراطي «سيرو جوميس»، بولسونارو بالكذب بشأن حالته الصحية ليتخلف عن المناظرة المتلفزة الأخيرة.
تكمن المفارقة في أن بولسونارو شرب من كأس العنف والكراهية الذي كان يدعو إليه، فقد صرح في أثناء إحدى حملاته الانتخابية، قبيل الحادث بأسبوع، بأنه يرغب في إطلاق النار على بعض الأعضاء الفاسدين المنتمين لحزب العمال. حينها وبخ المدعي العام المرشح الرئاسي، طالبًا منه شرح التعليق المثير للجدل.
لم يكن التصريح زلة لسان أو هفوة أو سقطة من بولسونارو، إذ دفع غرامات وواجه اتهامات بسبب تصريحاته التي صُنِّفت مسيئة ضد النساء والسود والمثليين والأقليات. وتمتلئ أحاديثه بمشاعر الحنين إلى العودة إلى فترة الحكم العسكرية الديكتاتورية في البرازيل، في الفترة بين عامي 1964 و1985، ووعد بتعيين عسكريين حاليين وسابقين في حكومته.
عدة أسابيع قضاها بولسونارو في المستشفى بهدف التعافي. حمد ربه على إنقاذه لحياته، وشكر الفريق الطبي المعالج. مر الوقت، واقترب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، لكنه لم يحضر مناظرة المرشحين للرئاسة يوم الخميس الرابع من أكتوبر، أي قبل ثلاثة أيام فقط من موعد إجراء الانتخابات في السابع من الشهر ذاته.
اغتاظ مرشح حزب العمال الديمقراطي (يسار وسط)، «سيرو جوميس»، متهمًا بولسونارو بالكذب بشأن حالته الصحية وتقديم شهادة صحية مفبركة، كي يتخلف عن المناظرة المتلفزة الأخيرة، المفترض عقدها بين الثمانية الأكثر حصدًا للأصوات حسب استطلاعات الرأي من بين المرشحين للرئاسة، لينجو من فضحه له أمام الجمهور. لكن المرشح الرئاسي اليساري جوميس، ليس أبرز منافسي بولسونارو أيديولوجيًّا، بل إن «فرناندو حداد»، عمدة مدينة ساو باولو السابق ومرشح حزب العمال وتلميذ الرئيس البلاد السابق دا سيلفا، هو المنافس الأشرس.
بينما لا يزال بولسونارو قابعًا في المستشفى، يتهمه حداد بنشر أخبار كاذبة تنال منه وعائلته ومكانته العلمية على مواقع التواصل الاجتماعي، بإرسال رسائل عبر تطبيق واتساب. وأوضح حداد بأنه تلقى أكثر من خمسة آلاف تقرير عن الأكاذيب التي تُنشر عبر تطبيق التواصل في أول 12 ساعة، منذ أن تواصل مع إدارة التطبيق لفحص الإشاعات التي تخصه.
كلٌّ ينافس على طريقته وقناعاته، بولسونارو اليميني الذي يدغدغ مشاعر الجماهير بالحفاظ على التقاليد والعادات، محاربًا منافسيه بأعتى أنواع الحروب العصرية عنفًا، مثل الإساءة إلى بعض فئات المجتمع علانية دون مراعاة للاختلاف والتنوع المتأصل في المجتمع البرازيلي، ويتخذ من محاولة اغتياله ورقة رابحة لاستعطاف الجماهير. والأحزاب اليسارية يردون بالاتهامات والفضح وتعرية المنافس بكذبه.
اقرأ أيضًا: «جايير بولسونارو»: ترامب مرشحًا لرئاسة البرازيل
تغير جذري
شهدت البرازيل أكبر مشهد للعدالة الاجتماعية في تاريخها تحت الحكم اليساري الذي قدم سياسات تقدمية متطورة.
مع انطلاق المنافسة بين المرشحين، بدت الانتخابات الرئاسية في البرازيل وكأنها معركة أيديولوجية بين اليسار واليمين. لكن مع إعلان نتيجة الجولة الأولى، أمست المعركة أكثر وضوحًا وانسجامًا مع تطورات الوضع السياسي في البلاد. فاز المرشحان: بولسونارو بنسبة 46% وحداد بنسبة 29%، للمنافسة في الجولة الأخيرة. إذ إن الفوز بالأغلبية لا يعطي المرشح حقًّا لتقلد المنصب، بل التصويت على أكثر المرشحيْن تصويتًا، يظل الكلمة الفصل.
جاءت نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات مُزلزلة عرش اليسار، بعد تربعه على قمة المشهد السياسي للبلاد، وتنبأ بمرحلة جديدة من ملامح اليمين المتطرف. اختلطت الأسباب لتكوِّن تلك الحالة من تغير الهوى الشعبي وانهيار اليسار وتطور أساليب اليمين وقلق النخبة على مصالحه.
لأكثر من 14 عامًا، حكم حزب العمال اليساري البرازيل، منتهجًا سياسات تقدمية متطورة، مثل تطبيق برنامج التحويلات النقدية بهدف الضمان الاجتماعي «بوسلا فاميليا»، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وتوسيع نطاق الاقتراض، ونشر التعليم الجامعي. بتلك السياسات خاطب حزب العمال الناخبين الفقراء، لكنه تجاهل تمامًا الطبقات الوسطى ورجال الأعمال. نتيجة لذلك شهدت البرازيل أكبر مشهد للعدالة الاجتماعية في تاريخها تحت الحكم اليساري.
سياسات الحزب لم تكن كافية لتضييق الهوة بين الضرائب المبالغ فيها التي تُفرض على الشعب، وسوء جودة المرافق العامة التي تُقَدَّم لهم. بطء تطور خدمات الدولة لم يواكب النمو المتسارع الذي تحتاجه البلاد، لذلك انفجرت مظاهرات في عام 2013، إثر ارتفاع أسعار تذاكر النقل العام، بالرغم من سوء الخدمة المقدَّمة.
العجز الذي أحاط حزب العمال، كان نتيجة طبيعية لعدم شغله سوى 20% من مقاعد البرلمان البرازيلي، الذي يتنافس فيه أكثر من 25 حزبًا سياسيًّا، ولم يكن أمامه سوى التحالف مع اليمينيين وانتهاج بعض من سياساتهم الاقتصادية، مثل الأجندة النيوليبرالية التي تحتضن العولمة والتجارة الحرة. خطوة اعتُبِرت أكبر خطأ ارتكبه اليساريون حينها، إذ تخلى اليساريون عن هويتهم كجزء من الاحتجاج الشعبي، تاركًا الأبواب مفتوحة لاستغلال اليمينيين الاقتصادي.
تطبيقًا للأجندة النيوليبرالية، تآكلت قاعدته الشعبية، عندما دأب حزب العمال على تخفيض الإنفاق العام. كانت النتيجة أن انقلبت الكتلة اليمينية على رئيسة البلاد السابقة، «ديلما روسيف»، التي تنتمي إلى حزب العمال، وتقلدت منصبها من عام 2011 إلى 2016، ليتهموها بقضايا فساد وسرقة أموال عامة، رآها بعض المحللين قضايا ملفقة.
توحش الانكماش الاقتصادي في عهد اليساريين، وارتفعت نسبة البطالة، واشتعلت وسائل الإعلام بفضائح فساد رئيسة البلاد روسيف، التي انحسرت شعبيتها إلى الحضيض. حينها وجد نائب الرئيس اليميني المحافظ، ميشيل تامر، الفرصة سانحة لعزلها والانقضاض على كرسي الحكم.
اليمين المتشدد كحل بديل
في الوقت نفسه، توحدت صفوف اليمينيين في البرلمان البرازيلي، تحت تجمع «طلقات نارية وإنجيل ولحم بقري». قويت شوكة ذلك التجمع السياسي ليوسع تحالفاته مع حركة الإنجيليين المتطرفين، التي تنادي بقطع أشجار الغابات في المناطق الريفية، وتحالف مع جماعات الضغط التي تدعو إلى انتشار الأسلحة.
رغم تصدي كثير من منظمات المجتمع المدني ضد ما ينادي به ذلك التجمع اليميني المتطرف، فقد نجح الأخير في تنفيذ كثير من أهدافه، حتى اتسعت نشاطاته لتشمل مواقف متشددة ضد الإجهاض وحقوق المرأة والمثلية الجنسية.
إضافة إلى أن الوضع الأمني المأزوم الذي عجز الحزب اليساري الحاكم في تأمين حماية المواطنين ضد العنف، يزيد اليمينيين قوةً يومًا بعد يوم. إذ تشير دراسة إلى أن أكثر من 60 ألف برازيلي قُتِلوا في عام 2014 وحده، فانتهزت الجماعات اليمينية المتطرفة الفرصة، وتمكنت من تقديم نفسها كمدافعين عن المجتمعات الفقيرة.
يبدو أن سيطرة الفوضى وغياب حكم القانون في المجتمع، في ظل انعدام تأمين الأمن المنتظَر من الحكومة، في رأي شرائح شعبية واسعة، جعلهم يراهنون على جماعات متطرفة كحل بديل.
في البرازيل، ربما فضلوا «اللاخطة» لدى اليمينيين عن خطة اليساريين، التي لم تجلب سوى القليل من العدالة الاجتماعية.
يبقى التساؤل المنطقي بالنسبة إلى كثير من البرازيليين، متمحورًا حول جدوى المؤسسات الديمقراطية التي يتشدق بها اليساريون، في حين أنها أخفقت في تحقيق الأهداف التي بنيت لأجلها، مثل دعم النمو الاقتصادي وإيقاف التضخم.
فوجدوا في بولسونارو اليميني منفذًا للخروج من دائرة اليأس والإحباط والغضب، وكأنه يتحدث بلسانهم، لأنه ينادي بأن تتنحى تلك المؤسسات جانبًا. ولن يجد بولسونارو أي عراقيل بشأن حكمه الاستبدادي البعيد عن المؤسساتية، حال انتخابه رئيسًا للبلاد، إذ تؤكد دراسة أن المؤشرات توضح أن الشعب البرازيلي لا يجد غضاضة في السلطة الاستبدادية، حتى إذا كانت غير مؤهلة لإدارة البلاد، فقد وجدوا في بولسونارو «الرجل القوي».
رغم عدم امتلاك الرجل القوي أي خطة اقتصادية واضحة الملامح، يحظى بولسونارو بدعم المستثمرين في بلاده. فقد ارتفعت قيمة العملة والأسهم والسندات بمجرد ظهور استطلاعات الرأي، قبيل انطلاق الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. الغموض الذي يكتنف خطط الموازنة العامة آخر ما قد يهم المستثمرين، لأن انتخاب بولسونارو فرصتهم الأخيرة للهروب من مستنقع الركود الاقتصادي، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية لحزب العمال، بعد سنوات طويلة. حتى إذا لم ينجح بولسونارو في إدارة البلاد اقتصاديًّا، فالغالب أن حزب العمال لن يكون أقدر من منافسه في إدارتها.
في البرازيل، ربما فضلوا «اللاخطة» لدى اليمينيين عن خطة اليساريين، التي طُبقت أعوامًا كثيرة ولم تجلب سوى مزيد من الركود الاقتصادي والمؤسسات المتهالكة وانعدام الأمن، وقليل من العدالة الاجتماعية. ربما كانت الجعجعة وعدم الصوابية السياسية اتجاهًا عالميًّا له عدد من المريدين. وربما دمر اليسار نفسه بتنازله عن خططه الأصيلة مقابل كثير من النيوليبرالية وتخفيض الإنفاق العام، وقليل من ارتفاع الحد الأدنى للأجور.
وربما كان الفساد استشرى في أواصر الدولة غير مكترث بأيديولوجيا نادت باستئصال الأورام الفاسدة. وربما امتزجت كل تلك الأسباب لتمهد الطريق أمام حقبة سياسية جديدة تنبض قلبها بالديكتاتورية والسلطوية، التي يفضلها الشعب البرازيلي على أمل العودة إلى الأمان.