هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
لو شاهدتَ كيف يخدم العراقيون زوارهم الإيرانيين القادمين إلى كربلاء والنجف كل عام، ربما لن تتوقع أنه كانت بين هؤلاء وهؤلاء حرب طويلة دامية طالت لِما يقرب من عقد كامل.
«الكل خسر في تلك الحرب، لا أعلم سبب عناد الخميني حينها وإصراره على استكمال حرب عبثية، لكني أعلم أنني فقدت ساقي إلى الأبد»، هكذا يستعيد الإيراني فضل، البالغ من العمر 57 عامًا، ذكرياته مع الحرب العراقية-الإيرانية.
يروي فضل لـ«منشور» أنه كان قد أتم عامه العشرين عندما قرر صدام حسين في عام 1980 الهجوم على إيران. يقول: «عشنا ثماني سنوات من الجحيم، فقدت أغلب أصدقائي، وماتت أختي الصغرى في إحدى الغارات التي كانت تشنها القوات العراقية على المدن الإيرانية».
العراق ضد إيران: حلم الانتصار السهل
في عام 1979، قامت الثورة الإيرانية وخُلع الشاه محمد رضا بهلوي، وعاد الخميني إلى إيران. قرر صدام شن الحرب في 22 سبتمبر عام 1980 مستغلًا حالة التخبط بعد الثورة، وللتخلص سريعًا من الخميني في بدايته، لكن الحرب طالت أكثر مما توقع، ودفع ثمنها ملايين الإيرانيين والعراقيين دون أن يقترفوا ذنبًا.
أراد صدام الوصول إلى العمق الإيراني والسيطرة على أهم المدن الفارسية، وفي ديسمبر 1980، كان قد احتل مدينة خرمشهر الساحلية الغنية بالنفط.
راهن صدام على سهولة كسب الحرب، فإيران كانت في حالة شبه فوضوية بعد الثورة، وكان القادة الإيرانيون مشغولين بتصفية حساباتهم مع من يصنفونهم «أعداء الثورة» و«فلول نظام الشاه».
صدام والخميني: الحرب التي تحوت إلى ثأر شخصي
«كانت حربًا غير متكافئة، هاجمنا العراق بأحداث الأسلحة والصواريخ وأموال طائلة من الدول العربية، ونحن حاربنا بأجسادنا فقط، وأعتقد أننا فزنا في تلك الحرب. كان سلاحنا الوحيد هو الإيمان والوحدة». يروى فارس الحسن، أستاذ التاريخ الإيراني، بعضًا من تفاصيل الحرب لـ«منشور»، فيقول إن «صدام اعتقد أن إيران بلد ضعيف سيستسلم له بسهولة، لكنه أغفل أننا كنا في حالة نشوة ثورية، وكان من السهل تعبئة الملايين للدفاع عن أراضينا، حتى مَن كانوا ضد الخميني ذهبوا إلى الحرب، فالأمر أصعب من أن يتخيله شخص أحمق وطاغية كصدام».
أدرك صدام بعد أن أوقفت القوات الإيرانية تقدمه أنه على مشارف الهزيمة، فحاول التوصل إلى حل لوقف إطلاق النار، لكن الخميني رفض.
بالنسبة إلى الجانب الإيراني، كان التحدي حقيقيًّا، فالجيش كان يعاني من التفكك بعد الثورة، وأغلب الكوادر العسكرية معتقلة أو منفية بسبب ولائها للشاه، أما الحرس الثوري، الذي أسسه الخميني للدفاع عن الثورة، فكان لا يزال مجموعة من المتطوعين غير المدربين. هذا كله إلى جوار العزلة التي وجدت إيران فيها نفسها بعد الثورة، وبعد أزمة الرهائن الأمريكيين، وخوف دول الخليج من الثورة في إيران، ومعارضة إيران لتدخل الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
رغم كل ذلك، وبعد عدة أسابيع من الحرب، حاولت القوات الإيرانية تنظيم صفوفها وحشد آلاف المتطوعين، وحظيت بمساعدات من سوريا وليبيا.
استطاعت إيران أن توقف التقدم العراقي في أراضيها، وكسرت الحصار على عديد من المدن الإيرانية. وفي 1982، استردت ميناء خرمشهر مرةً أخرى من القوات العراقية.
يقول الحسن: «أدرك صدام حينها أنه على مشارف أن يخسر الحرب، فحاول التوصل إلى حل لوقف إطلاق النار، لكن الخميني رفض وأصر على مواصلة القتال إلى النهاية. كان من الممكن إنقاذ آلاف الإيرانيين لو قبل النظام وقتها تلك الهدنة، لكن الأمر أصبح ثأرًا شخصيًّا بين الخميني وصدام، كلٌّ منهما يريد أن يطيح بالآخر على جثث آلاف الإيرانيين والعراقيين».
كوب السم الذي اضطر الخميني إلى تجرُّعه
وصلت الحرب إلى ذروتها عندما بدأ صدام حسين في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الإيرانيين، حتى أنه عمد إلى قصف أكراد العراق بتلك الأسلحة، متذرعًا بأنهم ساعدوا الإيرانيين في الحرب وتعاطفوا معهم.
وعندما بدأ الاقتصاد الإيراني في الانهيار، وبدأ الشعب يعلن عن سخطه من طول الحرب، اضطر النظام إلى الامتثال لقرار الأمم المتحدة رقم 598، الذي دعا إيران والعراق إلى وقف إطلاق النار، وانتهت الحرب في 20 يوليو عام 1988.
وقتها، وصف الخميني قرار الأمم المتحدة بأنه «كوب من السم» كان لا بد من تجرُّعه.
كان لا بد للحرب أن تنتهي أسرع
بعد أن حققت الولايات المتحدة حلم إيران بالتخلص من صدام حسين، بدأت إيران حربًا من نوع آخر في العراق.
في عام 2017، في ذكرى تحرير مدينة خرمشهر، قال علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، إن «حرب الدفاع المقدس (الحرب العراقية الإيرانية) دليل على أن إيران تستطيع الوقوف أمام جميع الصعاب والعقبات، والدليل على ذلك هو تحرير خرمشهر بعد 600 يوم فقط من حرب دامت ثماني سنوات (...) العالم كله كان ضد إيران في تلك الحرب، لكن بفضل الإيمان باللَّه والتفاف الإيرانيين حول قائد ثورتهم (الخميني)، استطاعت إيران الانتصار».
يوضح الصحفي الإيراني «رامين أفشار» لـ«منشور» أن تلك الحرب صارت «عقيدة فكرية» لدى المسؤولين الإيرانيين يتغنون بها ليل نهار، فقد كان لها الفضل في تثبيت أقدام الثورة الإسلامية، يرونها حربًا مقدسة، ونحن الإيرانيون نراها خرابًا ودمارًا دام ثماني سنوات من أجل لا شيء، فكان لا بد أن تنتهي أسرع من ذلك. خسرنا ملايين الأرواح، وهناك آلاف المعاقين والأيتام».
ما بين إيران والعراق: مساعدة أم إضعاف؟
يسعى النظام الإيراني لكسب نصر في العراق لم يستطيع تحقيقه إبان الحرب.
الآن، وبعد أعوام طويلة من انتهاء الحرب، صارت العلاقة بين الشعبين العراقي والإيراني شيئًا آخر.
أحمد، العراقي الذي يبلغ 44 عامًا ويعمل مدرس تاريخ، يحكي لـ«منشور» أن عمره حين بدأت الحرب كان سبعة أعوام، وانتهت وهو في الخامسة عشرة: «أدخلنا صدام تلك الحرب لتحقيق طموحاته الشخصية، كان يريد أن يصبح زعيم الأمة العربية، ودفعنا نحن العراقيون ثمن حماقاته، وإيران أيضًا كانت لا تريد إنهاء الحرب بإصرارها على الإطاحة بصدام وحزب البعث. لكننا نحب الإيرانيين ويجمعنا حب آل البيت، وهذا ما لم تستطع الحروب سرقته».
في عام 1990، أعادت الدولتان العلاقات الدبلوماسية للمرة الأولى بعد الحرب، رغم عدم تحقيق صدام مطالب إيران، التي كان أهمها إعلان مسؤوليته كاملةً عن الحرب ودفع تعويضات للإيرانيين. ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية لتحقق حلم إيران بالتخلص من صدام حسين، ومن هنا بدأت إيران حربًا من نوع آخر في العراق.
وفي 2005، زار الرئيس العراقي جلال طالباني إيران، ليكون أول رئيس عراقي يفعلها منذ نشوب الثورة الإسلامية، وبدأت إيران تدعم أغلب الأحزاب السياسية القائمة على أساس ديني في العراق.
يرى الصحفي الإيراني رامين أن النظام في بلاده يسعى لكسب نصر في العراق لم يستطع تحقيقه إبان الحرب، بمحاولته السيطرة على العراق ودعم جماعات مسلحة، مثل بعض فصائل الحشد الشعبي، حتى يظهر للعالم أنه مَن ساعد العراقيين على التخلص من كابوس تنظيم داعش.
أما العراقي أحمد فيؤكد أن «إيران لا تريد مساعدة العراق بل إضعافه، فكل أزمة عندنا تكون وراءها إيران. لا ننكر أنها ساعدتنا بالأسلحة في حربنا ضد داعش، لكن نحن فقط من قدمنا أرواحنا في تلك المعارك».