عندما ينتقل العمال من بلد فقير إلى آخر غني، يصبح إنتاجهم أعلى وعائداتهم المالية أكبر، لأن سوق العمل في البلدان الغنية تحتوي رأس مال كبير وشركات فعالة وأنظمة قانونية متماسكة تتيح تحقيق مكاسب مادية مرتفعة.
بفعل هذا الانتقال، يمكن مثلًا للعمال المكسيكيين الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن يكسبوا دخلًا أكبر بنسبة 150% ممَّا كانوا يكسبونه في بلدهم الأصلي، بينما يحصل العمال النيجيريون على دخل أكبر ممَّا كانوا يكسبونه في نيجيريا بنسبة قد تصل إلى 1000%.
السماح للقوى العاملة بالانتقال من بلد إلى آخر يمكن أن ينشط الاقتصاد العالمي، لأن العمل أغلى السلع المتاحة في العالم، لكن قوانين الهجرة الصارمة تجعل معظم الأرباح التي يمكن جَنْيُها منه تذهب هباء، وهي أرباح من المرجح أنها تصل إلى تريليونات الدولارات، وتفوق في مداها المكاسب المحتملة من التجارة الحرة والمساعدات الخارجية التي تقدمها البلدان الغنية للفقيرة.
مع ذلك، تبقى فكرة فتح الحدود في وجه المهاجرين مستهجنةً لدى كثيرين في الدول المتقدمة، ويرجع هذا في جزء كبير منه إلى السياسيين الذين يشوهون صورة المهاجرين، ويعلنون أنهم أكبر خطر يهدد مجتمعاتهم النقية المسالمة التي تحترم حقوق الإنسان.
لكن ماذا لو حدث فعلًا وفُتحت الحدود في وجه المهاجرين؟ ماذا ستكون النتائج المحتملة لهذه السياسة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، يعرض مقال منشور على موقع «ذي إيكونوميست» بعض الأسباب التي قد ترجح كفة سياسة فتح الحدود، والمكاسب الاقتصادية المتوقعة إذا اتُّخذت تدابير لتسهيل إجراءات الهجرة إلى البلدان التي توفر فرصًا اقتصادية أفضل.
واقع وتحديات الهجرة
أسرع وسيلة للقضاء على الفقر هي السماح للناس بمغادرة الأماكن التي تتفشى فيها ظروف اقتصادية مزرية نحو أماكن توفر ظروفًا أفضل.
بحسب المقال، لا يعني فتح الحدود إلغاءها كليَّةً أو إبطال فكرة الدولة القومية، وإنما يعني فقط أن يكون الناس أحرارًا في الانتقال من بلد إلى آخر بغية إيجاد فرص عمل أفضل.
السبب في الجاذبية الكبيرة للهجرة أن الدول المستقبِلة للمهاجرين تكون عادةً تحت إدارة جيدة، عكس الحال في الدول التي هاجروا منها، وهو الفارق الذي ينعكس على الأجور، إذ يكسب العمال في البلدان الغنية أكثر من نظرائهم في الفقيرة، ليس لأنهم حصلوا على تعليم أفضل، رغم أن هذا وارد، بل لأنهم يعيشون في مجتمعات بها مؤسسات تعزز الازدهار والرخاء الاقتصادي.
يرى المقال أن أسرع وسيلة للقضاء على الفقر المدقع هي السماح للناس بمغادرة الأماكن التي تتفشى فيها الظروف الاقتصادية المزرية نحو الأماكن التي توفر ظروفًا أفضل وفرصًا أكثر.
وفي تأكيد لما يراه الناس في الهجرة من فرص اقتصادية أفضل، قدَّر استطلاع أُجري عام 2013 أن 640 مليون شخص، أي قرابة 13% من سكان العالم البالغين، على استعداد للهجرة ومغادرة بلادهم بصورة دائمة لو كان هذا ممكنًا، فيما أقرت نسبة أكبر أنها تود الهجرة مؤقتًا إذا أتيح لها ذلك.
أظهر الاستطلاع رغبة نحو 138 مليون شخص في الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، و42 مليونًا إلى بريطانيا، و29 مليون شخص إلى السعودية.
لكن هذه الأرقام لا تعكس الواقع دائمًا، وقد تكون أرقامًا مبالَغًا فيها، لأن الناس لا يُقدِمون دومًا على فعل ما قالوا أنهم سيفعلونه. فالأجور في ألمانيا ضعف الأجور في اليونان مثلًا، لكن 150 ألف يوناني فقط من أصل 11 مليونًا انتقلوا للعمل في ألمانيا منذ بداية الأزمة الاقتصادية، علمًا بأن قوانين الاتحاد الأوروبي تسمح لليونانيين بالانتقال والعمل في ألمانيا بحرية.
اقرأ أيضًا: كيف يجعل المهاجرون مجتمعاتهم الجديدة أكثر أمنًا؟
ليست مغادرة الوطن أمرًا يسيرًا دائمًا، بل يتطلب هذا القرار قدرًا من الشجاعة والمرونة لا يتوفر لدى الجميع، فحتى في مقابل احتمالات الحصول على مكافآت مادية كبيرة خارج أرض الوطن، فإن توديع الأماكن المألوفة وفراق الناس الذين نعرفهم والتخلي عن كل ما اعتدناه يمثل تحديًا كبيرًا وتضحية لا يقدر أن يُقدِم عليها كثيرون.
تخوفات غير مبرَّرة
لا يمانع مواطنو الدول المستقبِلة دخول المهاجرين أراضيهم إن كانت أعدادهم قليلة، لكنهم يخشون أن فتح الحدود في وجههم دون قيود قد يجعل ظروف الحياة أسوأ، وربما يهدد الأنظمة السياسية التي جعلت بلادهم تستحق الهجرة إليها في المقام الأول، فهم يرون أن الهجرة الجماعية ستجلب معها مزيدًا من الجرائم والأعمال الإرهابية، وستؤدي إلى خفض أجور السكان المحليين، إضافةً إلى اكتظاظ المدن والاضطرابات الثقافية الصادمة.
لكن هل سيجلب المهاجرون معهم فعلًا الفوضى المنتشرة في أوطانهم؟ بفرض أنهم قادمون من مناطق مزقتها الحرب، أو مناطق فيها معدلات مرتفعة للجريمة.
هذا خوف مقبول، لكن الأدلة التي تدعمه قليلة في رأي كاتب المقال، فمع أن بعض المهاجرين يرتكبون جرائم، ويشارك بعضهم في أعمال إرهابية تستحوذ على العناوين الإخبارية، إلا أن صفتهم كمهاجرين لا تفسر وحدها سبب انخراطهم في هذه الأحداث. ففي السويد مثلًا، من الراجح أن يقع المهاجرون في مشاكل أكثر من السكان المحليين، لكن هذا يرجع في الغالب إلى أن معظم المهاجرين شباب وذكور، وهي فئة أكثر إثارةً للمشاكل عمومًا.
يشير المقال في هذا السياق إلى دراسة أجراها باحثون في جامعة وارويك الإنجليزية، عملت على تحليل تدفق المهاجرين في 145 بلدًا بين عامي 1970 و2000، وخلصت إلى أن الهجرة تحد من الإرهاب أكثر ممَّا تزيده، وهو الأمر الذي يرجع أساسًا إلى أنها تعزز النمو الاقتصادي.
اقرأ أيضًا: رحِّبوا بالمهاجرين: اقتصاد الدول يستفيد من تنوع ساكنيها
هل تجعل الهجرة واسعة النطاق السكان المحليين أسوأ حالًا من الناحية الاقتصادية؟
حتى الآن، لم تُسهم الهجرة في هذا، فالمهاجرون أكثر قابليةً لتقديم أفكار جديدة وإطلاق مشاريعهم الخاصة من المواطنين المحليين، بحسب المقال، في حالة كانت القوانين تسمح وتسهل دمجهم في سوق العمل، أي أن المخاوف السائدة عن استنزافهم للأموال العامة غير مبرَّرة.
قد يؤدي التدفق الكبير للعمال الأجانب إلى انخفاض طفيف في أجور السكان المحليين الذين يتمتعون بمهارات مماثلة، لكن معظم المهاجرين القادمين إلى تلك البلدان لديهم مهارات مختلفة، ويعملون على تعويض النقص الذي قد يطرأ في قطاعات تحتاج أنواعًا خاصة من المهارات، ليست متوفرة بكثرة في البلد التي تستقبلهم.
أما الخوف من الاكتظاظ فيتناسى أن معظم المدن الغربية يمكنها أن تتوسع أكثر ممَّا هي عليه حاليًّا، وهو ما سيخلق مزيدًا من المساحات يمكن استخدامها لمواجهة تدفق السكان السريع، ومن شأن الهجرة الجماعية أن تجعل العالم أقل ازدحامًا، لأن معدلات الخصوبة بين المهاجرين تنخفض بسرعة حتى تقترب من المعدلات السائدة في البلدان المضيفة.
تدابير حماية قاسية، لكن مربحة
القلق من تملُّص المهاجرين من دفع ما عليهم للبلدان المضيفة يمكن حله بفرض ضرائب أو تقييد إعاناتهم الاجتماعية.
من المؤكد أن هناك مخاطر إذا فُتحت الحدود فجأةً دون تحديد السياسات المناسبة المساعِدة في استيعاب التدفق، لكن كل هذه المخاطر يمكن تخفيفها والتغلب عليها بقليل من التفكير الإبداعي.
التخوف من أن أعداد المهاجرين المتزايدة ستؤدي في نهاية المطاف إلى خلق جبهة ناخبين تطيح بالناخبين المحليين، ممَّا سيفرض عليهم حكومة غير متكافئة، فإن أحد الحلول المقترَحة في رأي الكاتب سيكون عدم السماح لهم بالتصويت لمدة معينة من الزمن، أو حتى عدم التصويت مدى الحياة إذا اقتضى الأمر.
أما القلق من أن المهاجرين سيتملَّصون من دفع ما يجب عليهم للبلدان المضيفة حال وصولهم إليها، فيمكن فرض رسوم وضرائب إضافية عليهم، أو تقييد حصولهم على الإعانات الاجتماعية، ويمكن كذلك استخدام الرسوم التي دفعوها لتنظيم تدفق المهاجرين، وبالتالي تجنُّب حدوث زيادات كبيرة ومفاجئة في أعدادهم.
قد يبدو هذا تمييزًا فظيعًا في حقهم، وهو كذلك فعلًا، إلا أن دخول البلاد الغنية قانونيًّا أفضل للمهاجرين من أن يدفعوا آلاف الدولارات لمهربي البشر، وعندئذ سيتحتم عليهم أن يواجهوا إمكانية الترحيل في كل لحظة من حياتهم.
قد يعجبك أيضًا: لماذا يجب إلغاء الحدود بين الدول؟
فتح الحدود سيُدِرُّ تريليونات الدولارات على المهاجرين بحسب المقال، لذلك ينبغي على الحكومات التي توَد زيادة نموها الاقتصادي التفكير مليًّا في هذا المقترح، رغم المصاعب والمخاطر التي قد تواجه تطبيقه على أرض الواقع، فهل سنشهد مستقبلًا عالمًا يمكن فيه الانتقال بحرية من منطقة إلى أخرى وتحقيق الأمان الاقتصادي، حتى وإن لم تكفل الدول نفس الحقوق للمهاجرين؟