في كتابه «المراقبة والعقاب»، كتب الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» عن سجن البانوبتيكون، وهي فكرة كان فيلسوف آخر، هو جيرمي بينثام، قد طوّرها في عام 1791. مُقترحًا شكل سجونٍ يختلف عن تلك السائدة في تلك الفترة، والتي كانت في أغلبها أقبية تحت الأرض، وسراديب معتمة.
كان سجن البانوبتيكون على الخلاف من ذلك. مجموعة من الزنازين على شكل دائري، في منتصفها بناء يُضاء من الداخل، ويجلس فيه السجّان، يستطيع من خلاله أن يراقب جميع المسجونين، دون أن يراه أحد منهم. يرسّخ هذا التصميم شعور المراقبة الدائم عند السجناء، فحتى لو لم يكن هنالك من يجلس في غرفة المراقبة، لن يستطيع السجين تمييز هذا. رأى فوكو أن هذا التصميم يجعل المراقَبين يحملون السلطة في داخلهم.
ربما يحدث في عالمنا شيء قريب من هذا، لكن الغرفة المضيئة هنا هي الذكاء الصناعي.
ملايين الكاميرات
في مدينة زينغهو الصينية، استطاع رجل شرطة يرتدي قناعًا لتمييز الوجوه، القبض على أحد مهربي الهيروين حينما كان واقفًا في محطة قطار. وفي مدينة أخرى، ساعدت كاميرات المراقبة، التي تعمل بتقنيات الذكاء الصناعي، رجال الشرطة في القبض على أكثر من 12 مشتبهًا بهم، في أثناء وجودهم في حفل سنوي بين آلاف المشاركين. وبينما كان شخص يقف ليشتري طعامًا من الشارع استطاعت كاميرات المراقبة المنتشرة في الشارع أن تميِّزه، وتحركت بالتالي قوة من الشرطة للقبض عليه.
بوجود ملايين الكاميرات، تبني الصين فضاء عامًّا لا يمكن الهرب منه. هذا ما يستعرضه تقرير نشرته جريدة «نيويورك تايمز» عن التزايد الرهيب في تقنيات تمييز الوجوه في الصين.
تتبنَّى الصين تقنيات مثل التعرف على الوجوه، والذكاء الصناعي لتتبع 1.4 بليون شخص والتعرف عليهم. وتريد أن تجمع نظامًا رقابيًّا وطنيًّا هائلًا وغير مسبوق، بمساعدة أساسية من صناعتها التكنولوجية المزدهرة.
يقول «شان جون»، نائب رئيس شرطة محطة القطار في مدينة تشنغتشو، حيث قُبِضَ على مهرب الهيروين: «في الماضي، كان الأمر برمته يعتمد على الحدس»، ويضيف: «لو فوَّت شيئًا ما، فقد فوَّته وانتهى الأمر».
تلغي الصين التصور الشائع عن التكنولوجيا باعتبارها وسيلة عظيمة لإرساء الديمقراطية، وتوفير مزيد من الحرية للأشخاص وربطهم بالعالم. في الصين، تجلب التكنولوجيا السيطرة.
تُظهِر شاشات عرض بحجم لوحات الإعلانات وجوه المشاة المخالفين، وتضع قائمة بأسماء الأشخاص الذين لم يسددوا ديونهم المستحقة. تحرس الماسحات الضوئية التي تتعرف على الوجوه، مداخل المجمعات السكنية. وقدرت الصين عدد كاميرات المراقبة بـ200 مليون، أي أربعة أضعاف العدد في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتُكمل هذه الجهود، جهودًا أخرى من برامج مختلفة، تتعقب استخدام الإنترنت ووسائل الاتصال، وإقامات الفنادق، ورحلات الطائرات والقطارات، وحتى السفر بالسيارة في بعض المناطق.
ورغم ذلك، تفوق تطلعات الصين قدراتها. فالتكنولوجيا المطبَّقة في محطة قطار أو ممر مشاة قد تكون غير متوفرة في مدينة أخرى أو حتى في البناية المجاورة. إذ تمنع جوانب القصور في البيروقراطية إنشاء شبكة تغطي نطاق الدولة كلها.
قد لا يكون هذا مهمًّا بالنسبة إلى الحزب الشيوعي. فالسلطات الصينية أبعد ما يكون عن إخفاء جهودها، إذ تصرح بصورة منتظمة عن إمكانياتها وتبالغ فيها. في الصين، يمكن حتى للشعور الوهمي بالمراقبة أن يدفع الناس إلى الامتثال للقواعد.
بعض الأماكن مواكبة للتكنولوجيا أكثر من غيرها، إذ أُنشئ نظام مراقبة ضخم في غرب البلاد لتتبع أعضاء أقلية الإيغور المسلمة، ورسم خريطة لعلاقاتهم بالأصدقاء والعائلة، وفقًا لبرمجيات شاهدتها صحيفة «نيويورك تايمز».
يقول «مارتن كوروزامبي»، وهو زميل في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: «من الممكن أن تكون هذه طريقة جديدة كليًّا للحكومة لتتحكم في الاقتصاد والمجتمع»، ويضيف: «الهدف هو الوصول للحكم الخوارزمي».
اقرأ أيضًا: تجربة الصين التكنولوجية: هل الحل في الحجب؟
لعبة العار
كان التقاطع الموجود جنوب جسر تشانغهونغ في مدينة شيانغيانغ كابوسًا، إذ تُقاد السيارات بسرعة، ويجري المشاة على جانبي الطريق.
وضعت الشرطة، في الصيف الماضي، كاميرات تعمل بتقنية التعرف على الوجه، وبشاشة خارجية ضخمة. وكانت صور مخالفي القانون تُعرَض إلى جوار أسمائهم، وأرقام هوياتهم الحكومية. للمفارقة، كان الناس في بداية الأمر متحمسين لرؤية وجوههم على اللوحة، حسب ما قالت المتحدثة الرسمية «غوان يوي»، إلى أن أخبرتهم المنابر الإعلامية بأن هذا كان عقابًا. قالت غوان يوي لصحيفة النيويورك تايمز: «إذا التقطتك الكاميرا، ولم تنتبه لكون صورتك على الشاشات، سيراك جيرانك وزملاؤك، وسيثرثرون عن هذا الأمر». وتابعت: «هذا محرج أكثر من اللازم للناس».
تستند المراقبة الجديدة في الصين إلى فكرة قديمة: السلطة القوية فقط هي التي تجلب النظام في بلد مضطرب. لكن «ماو تسي تونغ» أخذ هذه الفلسفة إلى درجة مدمرة، إذ جلب حكمه الذي تسير فيه الأوامر من أعلى إلى أسفل، المجاعة، ثم الثورة الثقافية.
تعتبر الصين أكبر سوق لتقنيات المراقبة والأمان في العالم.
تعطش خلفاؤه أيضًا لفرض النظام، لكنهم خشوا من عواقب الحكم الشمولي، فأبرموا اتفاقًا مع الشعب الصيني: نظير العجز السياسي سيُترَكون بمفردهم، ويُسمَح لهم بالثراء. ونجح الأمر. بقيت الرقابة والشرطة قوية، وقد أسهم هذا الموقف الجديد في عقود من النمو الاقتصادي السريع. أما الآن، فإن هذا الاتفاق غير المكتوب ينهار. فالاقتصاد الصيني لا ينمو بالوتيرة نفسها. ويعاني الصينيّون من فجوة ثراء حادة.
انتقل «شي جين بينغ»، رئيس جمهورية الصين الشعبية، إلى ترسيخ سلطاته. والتغييرات التي أجريت على القانون الصيني تعني أنه يمكن أن يحكم أكثر من أي زعيم آخر منذ ماو. وأطلق حملة فساد واسعة يمكن أن تكسبه عددًا كبيرًا من الأعداء.
توفيرًا للدعم، لجأ إلى معتقدات حقبة ماو المتمثلة في تقديس الحزب الشيوعي وحكمه في الحياة اليومية. ومنحته التكنولوجيا السلطة للقيام بهذا.
أشار المؤرخ الصيني «تشانغ ليفان» إلى سياسات العقود الأربعة التي أعقبت حكم ماو، قائلًا: «فشل الإصلاح والانفتاح، لكن أحدًا لن يجرؤ على قول ذلك»، وأضاف: «خلق النظام الحالي تمييزًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا شديدًا. والآن يستخدم الحكام أموال دافعي الضرائب لمراقبة دافعي الضرائب نفسهم».
أصبحت الصين أكبر سوق لتقنيات المراقبة والأمان في العالم. حتى أن هناك محللون يقدِّرون أن الدولة ستملك 300 مليون كاميرا مراقبة بحلول عام 2020.
تمد الصفقات الحكومية البحث والتطوير بالتقنيات التي تتبع الوجوه والملابس، وحتى طريقة سير الشخص. وبدأت في الظهور أجهزة تجريبية، مثل نظارات التعرف على الوجوه.
لكن يبدو أن الصينيين أنفسهم لا يهتمون بهذا الأمر كثيرًا. في حديثه مع النيويورك تايمز، قال «وانغ فوكانج»، وهو طالب جامعي تطوع كحارس عند ممر المشاة في مدينة شيانغيانغ، إنه واحد من أكبر نقاط التقاطع في المدينة، ومن المهم أن يبقى آمنًا ومنظمًا.
عادة ما توضح الشركات الناشئة نقاط إصرارها على أن يستخدم موظفوها التقنيات نفسها. في شينغهاي، أخذت إحدى الشركات النائشة التي تُسمى «Yitu» هذا الأمر إلى أعلى مستوياته.
فأروقة مكاتب الشركة مزروعة بالكاميرات التي تبحث عن الوجوه. من المكتب، إلى غرفة الاستراحة، وبوّابات الخروج، ومسارات الموظفين مراقبة على شاشات تلفاز في شكل خطوط مُنقطة بالأزرق. ويظهر جهاز المراقبة دخولهم وخروجهم، طوال اليوم، وكل يوم.
صناعة تُدّر أموالًا
ترى شركات المراقبة الصينية أنها مع الوقت ستخرج بعيدًا عن حدود الصين نفسها. لتطوير طرق المراقبة بشرق آسيا، وكذلك الشرق الأوسط.
بلغة المال، فالتلصص في الصين أصبح صناعة رائجة. فبينما تنفق الحكومة مبالغ كبيرة من الأموال على تقنيات المراقبة، تنشأ في الوقت ذاته عدد من الشركات لمواكبة الطلب الكبير.
في الحقيقة، فإن الشركات الصينية تطوِّر عددًا من التطبيقات المتعلقة بالتمييز الصوتي والمرئي. ظهرت شركة «Yitu» أول مرة عام 2017، بمشاركتها في مسابقة نظمتها الحكومة الأمريكية لتطوير خوارزميات التعرُّف إلى الوجوه، وشارك فيها عدد من الشركات الصينية الأخرى. التطور الواسع في هذا النوع من التقنيات في الصين، يساعد الحكومة الأمريكية في كثير من مساعيها.
ترى الشركات الخاصة أن هناك سوقًا واعدة في تقنيات المراقبة بالصين. إذ تقدَّر القيمة السوقية لهذا المجال بأكثر من 80 بليون دولار في العام الماضي، وهي القيمة المتوقَّع زيادتها أكثر بكثير في الأيام القادمة، تحديدًا بعد تطبيق الصين لعدد من إجراءات التعرُّف إلى الوجوه، حسبما يرى «شين زينيانغ»، عالم البيانات السابق في شركة غوغل، والمسؤول التكنولوجي الحالي في شركة «Eyecool» الناشئة.
يشير شين زينيانغ إلى أن غالبية التقنيات التي تستخدمها السوق لا يمكن وصفها بالتقنيات «الذكية»، إذ تمثل تقنيات الذكاء الصناعي نسبة محدودة في رأيه. لكنه لا ينفي إطلاقًا أن عددًا من هذه الشركات تقدم معلوماتها إلى الحكومات. موضحًا أن شركته قد قدمت مساعدات لأنظمة المراقبة في أكثر من 20 مطارًا ومحطة قطار، والتي ساعدت في القبض على أكثر من ألف مجرم. إذ تقدم الشركة أكثر من مليوني صورة للوجوه يوميًّا.
شركات المراقبة الصينية ترى أنها مع الوقت ستخرج بعيدًا عن حدود الصين نفسها. يبدو أن لديها شهية واسعة لتطوير تقنيات المراقبة في عدد من دول العالم. فمثلًا، أعربت شركة «ييتو» مؤخرًا عن أنها تطمح في التوسُّع خارج نطاق الصين، وتطوير طرق المراقبة في عدد من دول العالم، مثل دول جنوب شرق آسيا، وكذلك الشرق الأوسط.
الصين الرائعة
عودة إلى الصين، فالمسؤولون يجهزون مواطنيهم لهذه المرحلة الجديدة. في فيلم دعائي جديد نشرته السلطات الصينية بعنوان «الصين الرائعة»، تظهر عدد من الخرائط الافتراضية التي تمد الشرطة بعدد من البيانات التي تتوقع حدوث الجرائم قبل حدوثها أصلًا.
يقول راوي الفيلم إن النظام التقني الجديد يستطيع تمييز أي اضطرابات تحدث أمامه، ما يساعد الشرطة على التحرّك سريعًا عند رصد أي أحداث من المتوقَّع أن تتطوَّر إلى مشكلات. في نهاية هذا المقطع، يظهر ضابط شرطة ليقول بشكل واضح: «أينما كنت، وحيثما هربت، ستصل العدالة إليك».
ادخل البانوبتيكون
مجرد ظهور فكرة تمييز الوجوه، دفعت عددًا من المجرمين إلى الاعتراف.
لكن ليس بالضرورة أن تكون التقنية المستخدمة فعَّالة دائمًا. المثال الواضح هنا هو نظارات التعرف إلى الوجه التي يرتديها رجال الشرطة الصينيون. والتي تعمل فقط عندما يكون المشتبَه به ثابتًا لعدة ثوان. ولهذا تُستخدم هذه التقنية تحديدًا في المطارات ومحطات السكة الحديد للتعرف إلى هويات المسافرين المزيفة.
المؤيدون لهذه التقنية مغرمون بقصص تستطيع فيها السلطات القبض على المشتبه بهم أو المجرمين في لحظة ارتكابهم الجريمة. أظهر مقال نشرته الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي، عددا من القصص التي قُبِضَ فيها على المجرمين بمساعدة تقنيات التعرف إلى الوجوه.
نجحت هذه التقنية في عدد من الأماكن، إذ انخفض عدد المخالفات في الشوارع. حتى الحوادث البسيطة، مثل سرقة دراجة، نجحت السلطات المحلية في العثور على مرتكبيها بمجرد الإبلاغ.
الفكرة الأساسية من المسألة ألا يدرك الناس أنهم مراقَبون. هكذا يرى «مارتن كورزيمبا»، زميل معهد بيترسون لعلوم التكنولوجيا. فعندما لا يكون الناس متأكدين من أنهم مراقَبون، فإن عدم التأكد هذا بالتحديد هو ما يجعلهم أكثر قابلية للخضوع للقانون.
الأمر أشبه بـ«النانوبتيكون»، حسبما يرى كورزيمبا، وهي الفكرة القائلة بأن الناس يكونون أكثر قابلية للسير حسب القواعد، عندما لا يدركون في أي لحظة بالضبط يراقبون.
قد يهمك أيضًا: كيف تجعلنا الدولة نراقب أنفسنا؟
حسبما تورد «نيويورك تايمز»، فإن المسؤولين في مقاطعة «زينج زوه»، كانوا سعداء للغاية بالقول إن مجرد ظهور فكرة تمييز الوجوه، دفعت عددًا من المجرمين إلى الاعتراف بما فعلوه.
يتذكر أحد المسؤولين في محطة قطارات هذه المقاطعة، المرة التي واجه فيها أحد المشتبه بهم بتهمة تهريب الهيروين. فعندما خلع رجل الشرطة نظارته، وأشار إليها قائلًا إن اعتراف المتهم غير مهم لأن الشرطة لديها كل المعلومات التي ترغب في الحصول عليها. اعترف المجرم بكل شيء، دون حتى أي استجواب. مجرد الفكرة جعلته يدلي بكل ما لديه.