فى الاثنين الخامس من نوفمبر 2018، أعلنت الإدارة الأمريكية أن الحزمة الثانية من العقوبات على طهران دخلت حيز التنفيذ، والتي تشمل القطاع المصرفي والنفط والطيران. واصفة تلك الحزمة بأنها الأشد قسوة وصعوبة على إيران، خصوصًا أنها تشمل القطاع النفطي الذي يعد شريان الحياة بالنسبة إلى الاقتصاد الإيراني الذي يتعرض لأزمات حقيقية منذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من الصفقة النووية مع إيران في مايو 2018.
بعد العمل بالعقوبات، اتهم الرئيس الإيراني حسن روحاني أمريكا بأنها تشن حربًا اقتصادية على بلاده، مؤكدًا أن طهران لن تلتفت إلى لغة التهديد التي تتبعها الإدارة الأمريكية، قائلا: «سننتهك العقوبات بكل فخر، ولن ننحني أبدًا إلى لغة القوة والضغط. نحن في حرب اقتصادية، وسنفوز بها».
اختارت القوات المسلحة الإيرانية الرد على العقوبات بشكل آخر، إذ اختبرت مجموعة جديدة من الصواريخ التي ضمتها إلى منظومة الدفاع الجوي، وأقامت تدريبات عسكرية في مناطق كثيرة من البلاد.
يقول السياسي المحافظ محسن موسوي لـ«منشور» إن «إدارة ترامب لا تدرك ما تفعله، ولا تعرف مدى قوة الرد الإيراني على تلك الإجراءات». مضيفًا: «منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأمريكا تظن أنها قادرة على أن تجعلنا نعاني، ومن الغباء أنها حتى الآن لم تفهم مع مَن تتعامل».
بعض التنازلات وكثير من الإجراءات المشددة
بعد دخول العقوبات حيز التنفيذ، كشفت إدارة ترامب عن عدد من الأمور الأخرى المتعلقة بتنفيذ تلك العقوبات، فقدمت التنازلات لثماني دول من مشتري النفط الإيراني، والسماح لهم باستكمال عملية الشراء من إيران لمدة 180 يومًا، حتى لا تتعرض أسواق النفط العالمية لعدم الاستقرار، وتلك الدول هي الصين والهند واليابان وتركيا وكوريا الجنوبية وإيطاليا وتايوان.
لكن بشرط، أن تقلل تلك الدول وارداتها النفطية من إيران خلال فترة السماح، والبحث عن بديل آخر. غير أن الصين والهند، وهما أكبر المتعاملين مع إيران في هذا المجال، لم يحسما أمرهما حتى الآن.
هدد وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف بلجوء إيران إلى السوق السوداء لبيع نفطها.
من ناحية أخرى، أعلن «مايك بومبيو»، وزير الخارجية الأمريكية، أن هناك إجراءات أصعب، وهي إدراج 50 بنكًا إيرانيًّا وفروعها، وشركة الطيران الوطنية الإيرانية، و700 مكان لصناعة السفن والشحن والتأمينات، دخلوا ضمن العقوبات الأمريكية على طهران.
قال بومبيو إن تلك الإجراءات تهدف إلى إقناع النظام الإيراني بالتخلي عن سياساته الحالية في الشرق الأوسط، ووقف دعمه الجماعات المسلحة في المنطقة، قائلًا: «الاختيار الآن بيد النظام الإيراني: إما أن يتصرف كأي دولة عادية، وإما أن ينتظر ويرى اقتصاد بلاده ينهار».
رد وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف على بومبيو، في لقائه مع موقع «يو إس توداي»، قائلًا: «لطالما كانت لدينا طرق مختلفة لبيع نفطنا، وسنواصل ابتكار طرق جديدة، لن نجلس وننتظر الموت»، مهددًا بأنه من الممكن أن تلجأ إيران إلى السوق السوداء لبيع نفطها.
قبل انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2017، وصلت صادرات إيران النفطية إلى 2.5 مليون برميل يوميًّا. لكن خلال الأشهر القليلة الماضية، انخفضت الصادرات بطبيعة الحال، غير أنه لا توجد أرقام محددة بحجم الصادرات الإيرانية حتى الآن.
فبعض المواقع المختصة بصناعة النفط، قالت إن صادرات إيران وصلت إلى 1.85 مليون برميل يوميًّا خلال أكتوبر 2018، وهذا ما أكده إسحاق جهانغيري، نائب الرئيس الإيراني، بأن الصادرات النفطية لم تقل عن مليون برميل في اليوم.
يقول مصدر مسؤول في وزارة النفط الوطنية الإيرانية: «لا يمكن وصف الأمور الجيدة أو السيئة، ولا أستطيع إلا أن أقول إن الصادرات النفطية لن تقل عن 1.6 مليون برميل يوميًّا، وهذا أمر يبدو كافيًا إلى حدٍّ ما في تلك الظروف السيئة».
تعمل إيران على تعطيل مراقبي نِسب تصدير النفط باستخدامها حيلة «إيقاف تشغيل إشارة AIS» الخاصة بناقلات النفط الإيرانية، وهي نظام تتبُّع تلقائي لتلك السفن، متصل بالأقمار الصناعية. فلا أحد يستطيع الجزم بأرقام محددة بخصوص الصادرات الإيرانية من النفط.
وأكد خالد الفالح، وزير الطاقة السعودي، في لقائه مع وكالة «تاس» الروسية، يوم 22 أكتوبر 2018، أنه «لا أحد لديه أدنى فكرة عن حجم الصادرات الإيرانية الآن».
هل بإمكان الاتحاد الأوروبي مساعدة إيران؟
تعود أولى موجات العقوبات الأمريكية على طهران إلى عام 1979، عندما احتجز الطلاب الإيرانيون 54 موظفًا من السفارة الأمريكية رهائن لمدة عام. من حينها وإيران واقعة تحت ضغط العقوبات والعزلة الاقتصادية.
بجانب عقوبات الولايات المتحدة، كانت هناك عقوبات دولية من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. إلى أن تولى باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة، ورأى أن طريقة التعامل مع إيران يجب أن تتغير وتُبنى على مزيد من الثقة المتبادَلة.
أعلن ترامب وجود فرصة أمام إيران لإبرام اتفاق جديد بالتخلي عن دعمها الجماعات المسلحة في سوريا واليمن، لكن إيران رفضت الدعوة.
بعد عامين من المفاوضات النووية، وكانت تلك الفترة صعبة على الإيرانيين الذين طالما انتظروا أي فرصة للخروج من تلك العزلة، توصلت أمريكا مع الدول الست الكبرى وإيران إلى الاتفاق النووي في عام 2015، والذي من شأنه فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني، مقابل رفع العقوبات تدريجيًّا وإدماج إيران في النظام الاقتصادي العالمي في ما يُعرَف بخطة العمل المشتركة.
قبل أن يصبح دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وهو يهدد بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، والذي وصفه بأنه «كارثي» ولم يتضمن أي بند يضمن عدم تطوير طهران سلاحها النووي. وقد حدث وانسحب وسط غضب من شركائه الأوروبيين الموقعين على الاتفاقية.
بعد انسحابه، أعلن ترامب وجود فرصة أمام إيران لإبرام اتفاق جديد بشرط التخلي عن دعمها الجماعات المسلحة في سوريا واليمن، والتخلي أيضًا عن برنامج الصواريخ الباليستية. لكن رفضت الإدارة السياسية الإيرانية تلك الدعوة.
قد يهمك أيضًا: الاتفاق النووي مع إيران: من يخادع من؟
من جانبه، يخشى الاتحاد الأوروبي أن تترك طهران الصفقة النووية، وتعود إلى تخصيب اليورانيوم، وهذا ما أعلن عنه بالفعل بعض القادة الإيرانيين. إذ بحث الأوروبيون عن جميع السبل التي تُمكِّن شركاتهم من استكمال أعمالها التجارية مع إيران دون الوقوع تحت العقوبات الإمريكية.
أعلن الاتحاد الأوروبي نظامًا بديلًا للدفع عن طريق إنشاء شركة تسمى «SPV»، تلعب دور الوسيط في التعاملات المالية بين إيران والشركات الأوروبية. فمثلًا عندما تشتري أي شركة أوروبية شحنة نفطية من إيران، تودع ثمن تلك الشحنة في الشركة الوسيطة، ومن خلال نفس الشركة تشتري إيران احتياجاتها من بلد الشركة الأوروبية.
«نظام عقيم يستهلك كثيرًا من الوقت، ولا فائدة منه»، هكذا وصف المحلل الاقتصادي الإيراني فرهاد حسيني، نظام الدفع البديل الأوروبي، ويرى أنه لا يمكن استخدامه في الوقت الحالي، لأن الشركات الأوروبية الكبرى لديها عدد من التعاملات مع أمريكا.
يرى فرهاد أن من الأفضل بيع النفط الإيراني عن طريق القطاع الخاص الإيراني، والذي لم تنله العقوبات الأمريكية حتى الآن.
يؤكد مسؤول شركة النفط الوطنية الإيرانية أن الحكومة لديها عدد من الطرق لبيع نفطها، بعيدًا عن مساعدة الاتحاد الأوروبي، لكنها غير ملزمة بمناقشتها علانية.
اقرأ أيضًا: الاتفاق النووي: هل يصلح الاتحاد الأوروبي ما أفسده ترامب؟
لكن هل تلك العقوبات هي الأصعب بالفعل على إيران؟
تحكي زهراء: «لم يجد الإيرانيون غالبية الأدوية خلال الأشهر الماضية، ولا حتى المعدات اللازمة في الجراحات. هذه نتيجة العقوبات التي تنفيها الحكومة».
بين تهديدات الإدارة الأمريكية ورد الحكومة الإيرانية بأنها صامدة ولن تتأثر بكل تلك العقوبات، ما زال الشعب الإيراني يعاني من كل تلك الضغوطات الاقتصادية التي يمر بها منذ إبرام الاتفاق النووي الذي لم يُرض طموحه، ولم يحقق منه أي مكاسب، فخرج للتظاهر نهاية عام 2017، لتمتد المظاهرات والاحتجاجات حتى 2018 في أوقات متفرقة.
مما ينذر بأن الأمر خطير بالفعل، وأن العقوبات ليست مجرد حرب نفسية تشنها أمريكا على إيران، كما قال روحاني، ما وصفه وزير الاقتصاد الإيراني بأن تلك الفترة هي «الأكثر حساسية» للبلاد منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979.
يرى الخبراء الاقتصاديون في إيران أن ما سيجعل تلك العقوبات هي الأشد والأصعب بالفعل، ليس تأثيرها فقط، وإنما أزمات الاقتصاد الإيراني خلال السنوات الماضية، والتي تجاهلتها كل الحكومات ليصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.
«بحثت في كل الصيدليات عن دواء القلب الخاص بوالدي، ولم أجده»، يصف نيما، مهندس الاتصالات الايراني، واحدة من أكبر مشكلات الإيرانيين الآن، نتيجة العقوبات الأمريكية.
بينما يبحث نيما عن الدواء في كل مكان، قالت زهراء (اسم مستعار)، وهي صيدلانية تعمل في إحدى شركات الأدوية: «لم يجد الإيرانيون غالبية الأدوية خلال الأشهر الماضية، ولا حتى المعدات الطبية والأدوات اللازمة في الجراحات. تلك هي نتيجة العقوبات التي تنفيها الحكومة ليلًا ونهارًا».
خرج «براين هوك»، المبعوث الأمريكي لإيران، في مؤتمر صحفي، ليعلن للإيرانيين أن هدف العقوبات هو القادة السياسيون، مؤكدًا أن أمريكا لم تستهدف التجارة الإنسانية من خلال عقوباتها.
لكن الأمر مختلف تمامًا على أرض الواقع. إذ يوضح أحد العاملين في غرفة التجارة الإيرانية، مستخدمًا اسمًا مستعارًا (أميري)، أنه رغم إعفاء الولايات المتحدة التجارة الإنسانية، والتي تشمل الأدوية والسلع الغذائية والمعدات الطبية من العقوبات، فإن الأمر ليس بهذه السهولة.
العقوبات الحالية تستهدف أيضًا التعاملات المصرفية الإيرانية، ولا توجد أي شركة أدوية أو شركة شحن تريد التعامل مع البنوك الإيرانية.
سابقًا، كان هناك بعض البنوك الإيرانية الخاصة المعفاة من العقوبات الأمريكية، لكي تستطيع استكمال عملية شراء الأدوية والسلع الغذائية، وكان أشهرهم «بنك بارسيان»، لكن إدارة ترامب أدرجت هذا البنك ضمن قوائم العقوبات لتعامله بطريقة غير مباشرة مع الحرس الثوري.
يقول أميري إن هذا الأمر زاد من خوف الشركات الأوروبية أكثر من ذي قبل.
بخصوص تلك الأزمة التي زاد منها أمر إدراج «بنك بارسيان» ضمن قوائم العقوبات، قال «براين هوك»، المبعوث الأمريكي لإيران: «سمحنا بالتجارة الإنسانية مع إيران. لكن البنوك لا تثق في النظام المصرفي الإيراني، فتلك مشكلة إيران، لا ذنب أمريكا».
اقرأ أيضًا: هل يستخدم المحافظون في إيران قوة البازار للإطاحة بروحانى؟
العقوبات على القطاع المصرفي الإيراني أثَّرت بشكل كبير جدًّا على كل السلع، وليس الأدوية والغذاء فقط. فانهيار الريال الإيراني أمام الدولار الأمريكي، وعدم قدرة المستوردين الإيرانيين على جلب بضائعهم بطرق مباشرة واللجوء إلى طرق أصعب، يزيد من تكلفة دخول المنتجات إلى إيران، فترتفع أسعارها على المواطن الإيراني.
يرى المحلل الاقتصادي فرهاد حسيني أن هناك أزمة اقتصادية كبيرة في إيران، لكن لا تصل إلى حد الانهيار. ولئلا تتطور الأمور وتزيد سوءًا، يجب على الإدارة الحالية، بقيادة روحاني، أن تعالج مشكلات البنية التحتية للاقتصاد الإيراني.
بريسا، طالبة إيرانية، ترى أن الوضع في إيران أصبح كالجحيم. تقول: «لا شيء لدينا الآن لنفعله، لم تترك لنا الحكومة ولا ترامب أي شيء لنحيا بشكل طبيعي».