عن تأثير فيرتر: قبل أن تتورط في قتل أحدهم بنشر أخبار الانتحار

انتحار «Evelyn McHale» من برج الإمباير ستيت في أمريكا - الصورة: Robert Wiles

محمد جمال
نشر في 2017/10/21

هذا الموضوع ضمن هاجس «النداء الأخير» عن الانتحار. اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


ذات يوم جلس «يوهان»، البالغ من العمر 24 عامًا، وشرع في الكتابة، ولستة أسابيع متصلة لم يتوقف عن الكتابة حتى انتهى تمامًا من روايته.

كتب يوهان رواية شديدة الجمال والشاعرية، عن فنان شاب يُدعى «فيرتر»، يعيش في قرية صغيرة، يقع في غرام فتاة جميلة لكنها مخطوبة لرجل يكبره بأحد عشر عامًا، ويحكي فيرتر في رسائل مطولة بالغة العذوبة لصديقه عن حبه المستحيل وتعلقه الشديد بالفتاة، وتنتهي الرواية بانتحار فيرتر، اقتناعًا منه بأن مثلث الحب هذا لن يُحَل إلا بموت أحد أضلعه.

نُشرت رواية «أحزان الشاب فيرتر» عام 1774، وقوبلت فور أن نُشرت باحتفاء رهيب في المجتمع الأدبي الألماني والأوروبي. ورغم أنها نُشرت بدون الإشارة إلى اسم مؤلفها، فإنه سرعان ما عرف العالم أن الشاب «يوهان فون غوته» هو مؤلف هذا العمل الروائي العبقري.

تعلُّق الشباب بالكتاب كان عظيمًا، حتى أن كثيرين صاروا يحاكون طريقة حديث فيرتر وكلماته، ويقتدون بطريقة ملبسه مثلما وُصفت في الرواية، و.. يحاكون حتى طريقة موته.

انتشرت في أوروبا بين صغار السن حُمَّى الانتحار على طريقة فيرتر، بنفس الطريقة التي قتل بها نفسه في الرواية، مرتدين ملابسه، وبجوار جثث بعضهم وُجدت نسخ من الكتاب مفتوحةً على صفحة انتحاره. زاد عدد المنتحرين بهذا الشكل من الشباب حتى منعت سلطات عدد من الدول الأوروبية طبع وتوزيع وتداول الرواية بشكل قاطع، في محاولة يائسة للحد من الظاهرة.

تأثير فيرتر

الصورة: Paul Demaria

«الحديث عن الانتحار يعطي ضوءًا أخضر لأولئك الذين لا يملكون القوة لاتخاذ ذلك القرار».

بعد قرنين من نشر رواية غوته، أطلق «ديفيد فيليبس»، البروفيسور في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، مصطلح «تأثير فيرتر»، نسبةً إلى تأثير رواية «أحزان فيرتر» في الشباب، ليصف ظاهرة زيادة حالات الانتحار في الفترات التي تعقب نشر الجرائد الشهيرة خبرًا عن حالة انتحار.

درس فيليبس حالات الانتحار المسجلة رسميًّا في العقدين الماضيين، وسجل متى وقعت كل حادثة وكيف نُشرت إعلاميًّا عبر الراديو أو الجرائد، وهل كان مجرد ذِكر عابر في نشرة أخبار أم تقريرًا مطولًا عن الحالة، وكيف كان التركيز عليها. وأظهرت نتائج الأبحاث ارتفاعًا دراميًّا في عدد حالات الانتحار في المناطق التي تُنشر فيها أخبار عن حالة انتحار، ويسلط الإعلام الضوء عليها بصورة عالية.

يقول ديفيد فيليبس: «يبدو أن الحديث عن الانتحار يعطي ضوءًا أخضر لأولئك الذين لا يملكون القوة لاتخاذ ذلك القرار».

هذه نتيجة يمكن فهمها إن تذكرنا حديثنا السابق عن الدليل الاجتماعي، إذ يرى الضعفاء والمكتئبون وكل من تراوده فكرة الانتحار دليلُا في حالات الانتحار التي يسلط الإعلام عليها الضوء للتصرف الذي يجب عليهم اتباعه: الانتحار.

قد يهمك أيضًا: كيف تنجو بحياتك من الجهل الجمعي؟

ليس هذا فقط، بل فوجئ فيليبس أيضًا بارتفاع متوسط عدد حوادث السيارات والطائرات وشتى أنواع الحوادث الطبيعية في تلك المناطق، وفسر ذلك بأنه ربما يكون تأثيرًا غير مباشر، فحتى أولئك الذين لا يفكرون في قتل أنفسهم تؤثر فيهم مثل تلك الأخبار، وتجعلهم أكثر تهورًا في تفاصيل حياتهم اليومية في الفترة التي تتلو نشر الخبر، وكأن الموت لم يعد مخيفًا مثلما كان قبل أيام.

الانتحار والنشر الإعلامي

قبر مارلين مونرو - الصورة: Oleg Alexandrov

أبحاث عدة تناولت علاقة الانتحار بالإعلام بعد أبحاث فيليبس، عاد أغلبها ليؤكد النتائج السابقة ويضيف إليها الجديد.

أكدت الأبحاث أن حوادث انتحار المشاهير يكون تأثيرها أقوى بـ14 مرة من انتحار الأفراد العاديين، وأشهر مثال على هذا كان انتحار مارلين مونرو عام 1962، إذ رفع ذلك حالات الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 12%. ورغم أن الانتحار فعل مكروه عبر التاريخ، فإن انتحار المشاهير المحبوبين، الذين يعُدُّهم الناس قدوة ودليلًا لِما يجب عليهم عمله، لا يصير فعلًا كريهًا إلى هذا الحد.

ينصح علماء النفس بتقليل حجم التعامل الإعلامي مع حوادث الانتحار، وتغطيتها بحذر شديد، ونقلها إلى الصفحات الخلفية بأخبار صغيرة.

نتائج أخرى أثبتت أن أكثر الأعمار تأثرًا بحوادث الانتحار صغار السن (المراهقون والشباب) والكبار (فوق الستين)، أما متوسطو العمر (30 عامًا فأكثر) فالأقل تأثرًا، والأكثر تأثرًا على الإطلاق هم المراهقون.

يفسر الباحث الأسترالي في سيكولوجية المراهقين «كار-غريغ» ضعف المراهقين بأنهم يشعرون أغلب الوقت أنهم ليسوا آمنين، وغير مُقدَّرين بما يكفي، مما يجعلهم باستمرار ضعفاء أمام المؤثرات الخارجية. ضع هذا مع هوس لا ينقطع بالاهتمام بما يخبرهم الإعلام بأن عليهم أن يهتموا به، ومع محتوى إعلامي مظلم دائمًا وبائس وسلبي، تكون النتيجة زيادة ضعفهم وتأثرهم بحكايات الانتحار ورغبتهم في الإتيان بمثلها.

النتيجة الأهم لتلك الأبحاث أن أكثر العوامل تأثيرًا في انتشار الانتحار بالتقليد هو حجم التغطية الإعلامية لحالة الانتحار، فكلما زادت تغطية الانتحار واحتلت موقع الصدارة في عناوين الأخبار، زادت فرصة انتشار الحالات التي تتخذ من تلك الحالة قدوة.

لذا، ينصح علماء النفس بتقليل حجم التعامل الإعلامي مع تلك الحالات، وتغطيتها بحذر شديد، ونقلها إلى الصفحات الخلفية بأخبار صغيرة، وتقليل مدة الحديث عنها في نشرات الأخبار، وتحييد الأسلوب بقدر الإمكان، بدلًا من تلميع الحكاية والتركيز على رومانسيتها.

قد يعجبك أيضًا: الانتحار بوصفه هجومًا لا استسلامًا

الآن، تتبع أغلب المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم إرشادات وقواعد أخلاقية لنشر أخبار حوادث الانتحار بشكل مناسب وحذر، يمنع أو يقلل من احتمالات انتشار حوادث مماثلة.

لكن الإعلام لم يعد مقتصرًا على التلفزيون والجرائد..

مراهقة تنتحر على فيسبوك، والشرطة تناشد المستخدمين إيقاف نشر مقطع الفيديو

كان فيديو انتحار «كاتلين ديفيز» صاعقًا مروعًا، وانتشر لدرجة جعلت الشرطة المحلية ترسل نداءات متوسلة تطالب بالتوقف عن إعاده نشره.

ربما يمكن التحكم في وسائل الإعلام التقليدية عبر مجموعة من القواعد والقوانين الحاكمة للتصرفات العامة، لكن عندما يصل الأمر إلى الإنترنت، لا يُعَد الأمر ممكنًا أبدًا.

الإعلام الآن هو إعلام الفرد، ما نقدمه إلى بعضنا كأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، ما نختار أن ننشره ونختار أن نتجاهله بإرادتنا الحرة، هو ما ينتشر ويصبح الأكثر شعبيةً أو يموت فور ولادته ولا يتذكره أحد.

اقرأ أيضًا: كريستين تشاباك: إليكم انتحارًا على الهواء مباشرةً

في الفيديو أعلاه تقرير مختصر عن مدوِّنة الفيديو ذات الاثنَي عشر عامًا «كاتلين ديفيز». فتاة صغيرة كانت تقضي أوقاتها في بث مقاطع فيديو حية لها على يوتيوب وفيسبوك، تتحدث فيها عن نفسها وحياتها وتفاصيلها البسيطة، لكن آخر فيديو نشرته كان بثًّا مباشرًا لانتحارها.

مقطع الفيديو كان صاعقًا مروعًا، وللأسف كان ينتشر بين مستخدمي الإنترنت كالنار في الهشيم، حتى أن الشرطة المحلية كانت ترسل نداءات متوسلة تطالب بالتوقف عن نشر المقطع.

ليس كل من نشر مقطع فيديو مشابهًا شخص مؤذٍ أو سادي، بل في الغالب كان من نشروه أشخاصًا عاديين متأثرين بمأساوية الحادث وحزينين على الفتاة، وربما كان غرضهم التوعية ضد أفعال مشابهة مثلًا، لكن النتيجة كانت العكس تمامًا.

قد يبدو هذا نداءً خاليًا من الإنسانية. كيف تخبرني أن لا أتعاطف مع المنتحرين؟ أتريدني أن أتجاهل مأساتهم وأمضي في حياتي ضاحكًا لاهيًا؟

عندما ننشر، بحسن نية، رسالة انتحار أو مقطع فيديو لمنتحر، أو أي محتوى لشخص منتحر على مواقع التواصل، نفعل ذلك تعاطفًا مع الضحية، لكننا لا ندرك أن نشرنا هذا قد يؤدي إلى تلميع وتأصيل فكرة الانتحار عند آخرين نال منهم الاكتئاب والضعف ويبحثون عن حل. نحن نقدم إليهم الحل دون أن ندري، نخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك سينالون تعاطفنا ومحبتنا، وستُحكى قصصهم كسِيَر الأبطال.

فكر قليلًا قبل نشر أي محتوى، فكر في التأثير الذي سيسببه تعاطفك هذا. ربما الأجدر بك أن ترسله بشكل مباشر إلى أقارب ومعارف الضحية، فهم أكثر من يحتاجونه، أما الآخرون فيجب أن نكون في منتهى الحذر عند اختيار الكلمات والتعبيرات التي نتحدث بها عن الحادث أمامهم، فهناك دومًا شخص ضعيف مكتئب ذو ميول انتحارية، وفي الأغلب أنت لا تعرفه، لأن منهم من لا يُبدي أمام الآخرين ميوله، بل ويبدو في خير حال.

مواضيع مشابهة