يُعرف عن طائر Magpie (غراب العقعق) انجذابه لكل ما يلمع ويتلألأ، والناس كذلك بفطرتهم وبجميع أعمارهم ينجذبون لكل أشكال الزينة والزخرفة، مع اختلاف الأذواق.
الزينة والأشجار طقوس شتوية كان يمارسها الأوروبيون القدامى قبل اعتناقهم الديانة المسيحية.
كان لا بد من هذه المقدمة البسيطة لبيان انجذاب الناس على اختلاف مشاربها لزينة أعياد الميلاد، أو «الكريسماس»؛ من أشجارها وزُخرُفها وأغانيها وهداياها وإعلاناتها التجارية وبابا نويلها، وما تضفيه من أجواء احتفالية في فترة هذه الأعياد.
أصل احتفالات الكريسماس
الخامس والعشرون من شهر ديسمبر هو ما يعتقد غالبية مسيحيي العالم أنه تاريخ ميلاد النبي عيسى ابن مريم عليه السلام، لكن ما نراه اليوم من زينة وأشجار لا يمت لمولد المسيح بأي صلة؛ فجميعها طقوس شتوية كان يمارسها الأوروبيون القدامى في إسكندنافيا وألمانيا، حتى قبل اعتناقهم الديانة المسيحية. كانت الأشجار دائمة الخضرة (Evergreen)، كالصنوبر، تحتل مكانة خاصة لديهم، لأنها تبقى خضراء في فصل الشتاء القارس تحت الثلوج، بينما تفقد بقية الأشجار أوراقها مع الخريف.
احتفل الأوروبيون القدامى بما سُمِّي «الانقلاب الشتوي» (Winter Solstice) في 21 أو 22 ديسمبر؛ لاعتقادهم أن إله الشمس يكون قد تعافى بعد مرضه في الخريف، وعاد ليطوِّل النهار عن الليل. وبما أن التقويم المسيحي «الغريغوري» (Gregorian) يتبع الشمس وليس القمر كما الهجري، فإن تاريخ الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، 25 ديسمبر، يأتي سنويًّا في فصل الشتاء (بالنسبة لدول نصف الكرة الشمالي)، ولذلك استمر الأوروبيون في ممارسة تقاليدهم الشتوية «الوثنية» حتى بعد اعتناقهم المسيحية، وهذا ليس بشيء مستغرَب؛ فجميع الديانات السماوية استدخلت بعض الطقوس الوثنية، من باب الاستمرارية في حياة معتنقي الدين الجدد.
أغلب أغاني الكريسماس المعاصرة من تأليف وتلحين أمريكيين يهود، لا علاقة لهم بالمسيح ولا بالكريسماس.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي، كان لشعبية ملكة بريطانيا «فيكتوريا» أثر كبير في انتشار شراء أشجار الصنوبر لتزيين المنازل خلال الأعياد، بعد اقتباسها هذه العادة من زوجها الأمير «ألبرت» ألماني الأصل. بينما في الولايات المتحدة، لم تنتشر أشجار الصنوبر كعادة «كريسماسيَّة» إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر، ولاقت آنذاك اعتراضات من بعض المسيحيين المتشددين.
اقرأ أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانيَّة
مناسبة علمانية وتجارية
لكن كعادة الأمريكان عند اكتسابهم تقاليد جديدة، فقد أخذوها إلى أبعد مدى، وجعلوا منها مناسبة سنوية علمانية وتجارية أكثر من كونها دينية. وتبدأ الزينات في الظهور في شوارع المدن والقرى، وداخل المنازل والمتاجر، قبل يوم الكريسماس بشهر وأحيانًا أكثر. ويجد التجار في تلك الفترة فرصة للتخلص من بضاعتهم أواخر السنة، بإجراء تنزيلات هائلة احتفالًا بهذه المناسبة، كما أن أشهر الأغاني المعاصرة المرتبطة بالكريسماس، أغانٍ مرحة وعاطفية ذات طابع علماني، ولا يُذكر فيها حتى اسم المسيح، وأغلبها من تأليف وتلحين أمريكيين يهود، لا علاقة لهم لا بعيسى المسيح ولا بالكريسماس.
المتشددون الإسلاميون يحاربون الاحتفال بالكريسماس، لكنهم لا يقدمون أي بديل لشعوبهم المتعطشة للفرح «الشرعي».
وبرأيي الشخصي، فإن روح البهجة التي تغمر أوروبا وأمريكا في موسم الأعياد تكون وقاية من قسوة الشتاء البارد المظلم. ولكم أن تقارنوا بين أيٍّ من عواصمها في أثناء الأعياد وبعدها، ليصلكم الإحساس بالفارق الكبير في أجوائها: فرحة وزينة في مواسم الأعياد، تليها كآبة وعتمة تمتد من يناير إلى مارس. ولعل ذلك هو أحد أسباب ضعف الاحتفالات بالأعياد الإسلامية مؤخرًا، كونها تأتي في فصل الصيف الحار جدًّا، فالطقس الحار يؤدي إلى الكسل ولا يشجع على الاحتفال، والناس مرهقون من الصيام الطويل، وما عليكم سوى تذكُّر جمال ومتعة شهر رمضان عندما كان يحل علينا في الشتاء، كي تتأكدوا من صحة ذلك.
الإسلاميون وحرب الأشجار
ومع تزايد التزمُّت والغلوِّ في التديُّن ومحاربة كل مظاهر الفرح، يجد المتشددون الإسلاميون أنفسهم في مواقف متناقضة؛ فهم يحاربون مظاهر الاحتفال السنوي بالكريسماس، لكنهم لا يقدمون أي بديل لهذا الاحتفال لشعوبهم المتعطشة للفرح «الشرعي»؛ ولا يتقبلون الاحتفال والبهجة بالأعياد الإسلامية لأن ذلك في نظرهم يسلبها قدسيتها، ويحاربون احتفالات الكريسماس تحت ذريعة مخالفة الشرع والحفاظ على ثوابت الدين الإسلامي، غير مدركين أنهم بتصرفهم هذا يصورون الإسلام كأنه دين هش، يتهاوى أمام أشجار صنوبر وزينة مؤقتة لا تقدم ولا تؤخر.
الحرب التي يشنها الإسلاميون على أشجار الكريسماس وزينة «الفالانتاين» هي نوع من الإثارة المطلوبة ليقول «أنا هنا».
ولنا في الكويت أمثلة سنوية مكررة لدرجة السُّقْم؛ من تحريم معايدة الأصدقاء والزملاء المسيحيين، إلى آخر زوبعات أحد نواب (أو نوائب، لا فارق) مجلس الأمة؛ حين طلب من وزيرة الشؤون الاجتماعية إجبار إحدى الجمعيات التعاونية على إزالة شجرة هزيلة لم يلتفت لها أحد. وقد رضخت الوزيرة لمطالبه بدلًا من أن تنتصر للدستور الكويتي، الذي ينص على أن «حرية الاعتقاد مطلقة»، وأن «الحرية الشخصية مكفولة»، وهو الدستور الذي أقسمت الوزيرة، كما أقسم النائب، عليه.
قد يهمك أيضًا: كمن يعيش في صندوق: كيف تحيا المرأة السعودية تحت ولاية الرجل؟
إن الحرب السنوية التي يشنها الإسلاميون، في الكويت وغيرها، على أشجار الكريسماس وزينة «الفالانتاين»، ما هي إلا زوبعة مطلوب منهم خلقها للإبقاء على خطاب إسلامي متهالك لم يعد مُجديًا، فهو نوع من الإثارة المطلوبة ليقول «أنا هنا»؛ فلا تبرز محاربتهم للفرح إلا عند وجودهم في مواقع السلطة، وتختفي مطالباتهم عندما يكونون في صفوف المواطنين. وعلى الرغم من محاولاتهم التجديد في خطابهم السياسي، بالإشارة إلى أنهم يؤيدون «الحريات العامة»؛ نراهم لا يتحدثون عن الحريات الشخصية للأفراد، التي هي أساس الحريات العامة، ويصرُّون على إنكار الواقع والعالم الذي نعيش فيه باختلاق هذه المعارك الكارتونية ضد الشجر، وكأن الإسلام بحاجة لهذه المعارك التافهة حتى «ينتصر».
لم يكن سبب خيبات المسلمين والخطاب الإسلامي يومًا هو أشجار الكريسماس ولا ورود «الفالانتاين»؛ بل عقول متحجرة تصرُّ على اختطاف المجتمعات بأفكار هزلية ينشغل بها الناس، ليؤكدوا أن مشروعهم الإسلامي ضد الحرية والأشجار والبهجة لا يزال في مكانه. والعتب ليس عليهم، فلا ننتظر منهم أكثر من ذلك، لكنه على من يستمع لهم وينفذ إملاءاتهم بدافع الحرج، على من يستسلم للصورة التي يصيغها هؤلاء عن المجتمع.