دعهم يموتوا: أسئلة «السلطة الحيوية» وعنصرية الدولة في السودان

مستشفى في السودان - الصورة: Getty/UniversalImagesGroup

خالد يوسف أحمد
نشر في 2017/11/30

في بلد أصبح الطموح الأقصى فيه هو البقاء على قيد الحياة، حيث لا أمل في مستقبل ولا تطلعات سياسية أو ثقافية، كل مواطن فيه أرنب لا يُحسن الركض، عليه أن يوفِّق بين نجاته من السلطة الجائعة المفترسة وما يسد رمقه كل يوم بما يُعينه على النجاة من المفترس، تأتي تصريحات وزير الصحة السوداني، بحر إدريس أبو قردة: «بنصرف قروش على مرضى السرطان وفي النهاية بيموتوا».

لا يمكن أن تُقرأ تلك التصريحات في إطار «زلات اللسان»، بل هي تعبير دقيق عن سياسات الدولة الصحية المتبناة، وتعبير أدق عن رؤيتها تجاه المواطن وكيفية التعامل معه بصورة عامة.

نظرة سريعة على التدهور المريع في القطاع الصحي في السودان، المتردي بالأساس، تجعلنا ندرك أن تصريح الوزير غير مفاجئ، فالاتجاه العام يرمي إلى خصخصة الخدمات الصحية، بتفكيك مؤسسات الدولة وتحرير سعر الدولار الدوائي ليقارب سعر الدولار في السوق السوداء (28 جنيهًا لحظة كتابة الموضوع)، مما ترتب عليه زيادة في أسعار الدواء فاقت أضعاف الأضعاف.

إضافةً إلى ذلك، هناك قلة الكوادر العاملة في الحقل الصحي لظروف كثيرة، أهمها الهجرة بحثًا عن ظروف عمل أفضل، إذ يبلغ معدل العاملين في مجال الصحة في السودان 1.2 عامل لكل ألف نسمة، و0.4 و0.6 لكل ألف في دارفور والمناطق الحدودية، مقارنةً بالمعدل المعتمَد من منظمة الصحة العالمية: 2.3 لكل ألف شخص.

صاحَب هذا التدهور ازدهار كبير في القطاع الصحي الخاص بتكاليفه الباهظة، إذ لا بديل أمام المواطنين غيره، ما يجعلنا نتساءل: ماذا تبقى للفئة الثانية من الذين لا يملكون؟ ماذا تبقى لأولئك الذين يعانون الاحتيال من مراكز الطب البديل والأعشاب، التي، للمفارقة، يدير شركاتها حكوميون نافذون (شركة النيل للأعشاب كمثال)، ويعانون الإهمال في المستشفيات الحكومية الباقية؟

السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية

يمكن لأفكار الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» عن ثنائية السلطة الانضباطية/السلطة الحيوية وعلاقتهما بالعنصرية أن تساعدنا في فهم تصريح الوزير.

ففي سلسلة محاضراته الشهيرة في معهد كوليج دو فرانس، المسماة «يجب الدفاع عن المجتمع»، يميز فوكو بين طريقتين لممارسة السلطة على أجساد السكان في مجتمعات أوروبا الرأسمالية:

  1. السلطة الانضباطية، أي كل «التقنيات» التي تمارسها السلطة مباشرةً على الأجساد بهدف تطويعها وترويضها، مثل التعذيب والقمع والعقاب الجسدي وحتى الإماتة (محو الجسد من الوجود)
  2. السلطة الحيوية (Biopower)، وهي الطريقة التي تتيح بها السلطة لنفسها الحق في إدارة الحياة: طريقة الحياة ورفع مستوى الحياة، إطالة الأعمار، القضاء على الأوبئة والأمراض وتنظيم النسل

قد يهمك أيضًا: تعاطفك لا يكفي: هل الإحساس بالآخرين غير أخلاقي؟

بدأت هذه العمليات، بحسب فوكو، في نهاية القرن الثامن عشر بهدف تفعيل الجسد الاقتصادي والسياسي
لمجتمع مقبل على الانفجار الديموغرافي (السكاني) والصناعي، أي أن المحافظة على صحة وحياة السكان يكون بغرض تحويلهم إلى أفراد منتجين ضمن علاقات الإنتاج الرأسمالية.

السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية، وإن كانتا متفارقتين زمنيًّا، إذ ظهرت الحيوية بدايةً من نهاية القرن الثامن عشر، فإنهما متَمَفصِلتان، أي توجدان جنبًا إلى جنب، وتتراكبان بحيث تعتمد إحداهما على الأخرى، وتعملان على مستوى الدولة وتحت الدولة، عن طريق المؤسسة الطبية والضمان الاجتماعي وصناديق الإغاثة، إلخ.

أجساد السودانيين: حياة عارية

مستشفى سوبا في الخرطوم - الصورة: Petr Adam Dohnálek

أجساد الأغلبية في السودان «حياة عارية»، أي محض وجود بيولوجي فقط منزوع الحقوق، بما فيها الحق في الصحة.

أجساد السودانيين، لا سيما المهمشين منهم «عرقيًّا واقتصاديًّا»، لطالما كانت موضوعات للسلطة الانضباطية بغرض تطويعها وضبطها وإخضاعها، بل حتى سلبها حق الحياة، أجسادهم موضوعات للبراميل المتفجرة، وأدوات التعذيب في المعتقلات، وموضوعات للتجويع المتعمد في مناطق الحروب التي تشنها الدولة على السكان.

السؤال هو: هل لهذه السلطة الحيوية على أجساد السودانيين أي اهتمام بالإنسان بوصفه كائنًا حيًّا؟

أي الاهتمام بصحة الأجساد وتحسين حياتها عبر تبنِّي، على الأقل، الرعاية الصحية الأولية، وهي من مفاهيم السياسة الصحية التي ظهرت بعد مؤتمر «ألما-آتا» في الاتحاد السوفييتي السابق، وهي «الخدمات الصحية الشاملة والأساسية الميسرة لجميع الأفراد والأسر في كل المجتمعات، والمعتمدة على وسائل وتقنيات صالحة عمليًّا، وسليمة علميًّا، ومقبولة اجتماعيًّا، وبمشاركة تامة من المجتمع وأفراده، وبتكاليف يمكن للمجتمع والدول توفيرها في كل مرحلة من مراحل التطور».

يبدو السؤال ضربًا من العبث، فزيارة سريعة إلى أقرب مستشفى حكومي، أو إلى أقرب إحصائية لمؤشرات الصحة في السودان، كافية لنفي أدنى اهتمام من الدولة بصحة الأجساد.

أجساد الأغلبية من السكان بالنسبة إلى الدولة في السودان «حياة عارية»، بتعبير فيلسوف أوروبي آخر هو «جورجيو أغامبين»، في كتابه «Homo Sacer». أي حياة هي محض وجود بيولوجي فقط منزوع الحقوق، بما فيها الحق في الصحة بطبيعة الحال.

فتمييز، أو ربما حتى عنصرية، الدولة السودانية عبر سلطتها الانضباطية تجاوزت العقاب الجسدي (التعذيب) والإماتة الفردية في بيوت الأشباح في بدايات الإنقاذ، وأخذت منحًى أكثر تطرفًا وتنظيمًا يتمثل في الحروب الطويلة والكارثية والممنهجة، التي ينجم عنها ملايين القتلى في جنوب السودان القديم/الجديد، ودارفور، وذلك عبر استبعاد قطاعات كاملة من السكان لأنهم غير عرب أو مسلمين (حرب الجنوب).

بالتالي يحق للمجموعات الأخرى الأكثر تميزًا، في النظرة الهرمية التي تتبناها الدولة للسكان، أن يحيوا ويعيشوا بمواردهم البترولية، أو أن يخضعوا لشروط هذه السلطة ويرتضوا هذا الترتيب الهرمي العنصري.

كذلك يُخضَع أسفل الهرم السكاني في دارفور، لأن أي مطالبة بالحق في حياة كريمة من هؤلاء تزعزع استقرار المجموعات الأخرى، وتضر بالاقتصاد الذي تستفيد من ازدهاره مجموعات صغيرة أرقى وأفضل في الهرم السكاني للدولة.

هنا يأتي اقتباس فوكو في محاضرات «يجب الدفاع عن المجتمع» عن طريقة تفكير هذه الدولة: «إذا أردت أن تحيا، يجب على الآخَر أن يموت»، إذ إن موت الآخر وموت العِرق الدنيء أو الأسوأ هو ما يجعل الحياة بوجه عام أكثر طهارةً ونقاء.

قد يهمك أيضًا: حكاية الصراع الدموي في جنوب السودان

عبء يجب التخلص منه

تقرير عن مركز السلام للقلب الذي يعالج المرضى مجانًا

تتعامل الدولة السودانية مع المواطن كعبء يجب التخلص منه، خصوصًا إن توقّف هذا المواطن عن الإنتاج. يتضح ذلك بصورة متسارعة في الهروب المتراكم للدولة من مسؤولياتها الخدمية تجاه المواطنين، وإطلاق يد القطاع الخاص لتُلهِب ظهورهم، القطاع الخاص الذي يديره أفراد الدولة أو حلفاؤها.

في عام 2013، سُرِّب مقطع فيديو يظهر فيه رئيس الجمهورية عمر البشير، ووزير الزراعة آنذاك عبد الحليم المتعافي، ووزير الإعلام أحمد بلال، لدى زيارتهم مركز السلام للقلب الذي يعالج المرضى مجانًا، حيث طلبت إدارة المركز دعمهم بعد أن تقلصت المساعدات التي تأتي من الخارج.

اقترح البشير تحويل جزء من المركز المجاني إلى استثماري، وتحصيل أموال من المرضى مقابل العلاج، الشيء الذي قوبل بالرفض منهم، كونه يتناقض مع رسالة المركز الرامية إلى علاج السودانيين، وحتى مواطني دول الجوار القريبة، دون مقابل.

اقرأ أيضًا: علاج حسب الهوية الجنسية: حكايات المتروكين للموت في لبنان

كيف يمكن لسلطة أخذت على عاتقها مسؤولية تحسين الحياة وإطالة الأعمار واستبعاد الحوادث، أن تَقتُل مواطنيها؟

آخر الإحصائيات تشير إلى أن هنالك أكثر من 160 ألف مصاب بالسرطان، واكتشاف 12 ألف إصابة جديدة كل عام. ويشكل الأطفال 8% من مرضى السرطان، و50% من المصابين بسرطان الدم يحتاجون علاجًا فوريًّا.

على المستوى الجغرافي، تتركز نصف الإصابات بالسرطان في ولاية الجزيرة، وتصل في الخرطوم إلى نحو 12%، وفي القضارف إلى 10% تقريبًا من معدل الإصابة بأمراض مختلفة.

مَنْ إذًا سيشكل النصيب الأكبر من هؤلاء المرضى سوى النازحين من حروب الإنقاذ الطويلة؟ من غير ضحايا التنمية غير المتوازنة، في ظل تأخر اكتشاف المرض لقلة الوعي الصحي؟ هناك سبعة مراكز للعلاج الكيميائي، ومركزان فقط للأشعة، وأسهمت قلة اختصاص الأطباء في تأخير تشخيص وعلاج المرضى.

يتساءل فوكو، في سياق إشارة واضحة إلى كارثتي القرن العشرين الفاشية والنازية، عن كيف يمكن لسلطة أخذت على عاتقها مسؤولية تحسين الحياة وإطالة الأعمار واستبعاد الحوادث، أن تَقتُل؟ أن «تعرِّض للموت، ليس فقط أعداءها، بل مواطنيها»؟

الجواب بالنسبة إلى فوكو هو «عنصرية الدولة»، بمعني «تثبيت العنصرية بوصفها آلية أساسية للسلطة، بوصفها وظيفة الدولة الحديثة، وذلك في حدود معينة وشروط محددة لا تمر إلا عبر العنصرية، لأن «العنصرية، ببساطة، قائمة على وضع تمايز وتراتب بين الأعراق الجيدة»، التي تستحق أن تحيا وتُمارَس عليها السلطة الحيوية، والأعراق «السيئة والدنيئة»، التي لا تستحق أن تحيا وتُمارَس عليها سلطة الإماتة. العنصرية هي الشرط الذي بواسطته تستطيع ممارسة القتل.

عنصرية الدولة السودانية قد تتخطّى عِرقًا معينًا إلى الطبقات بأعراقها وإثنياتها المختلفة، عن طريق حرمانها من الخدمات الصحية الجيدة.

هذه الطبقة الفقيرة تنظر إليها الدولة كوافدين يتمتعون بخدمات ليست حقًّا لهم، ولا يشكلون سوى تهديد أمني واقتصادي محتمل، ولذلك حَقّ عليهم حرمانهم العلاج من الأمراض القاتلة، والتضييق عليهم كذلك في وسائل كسب العيش، كما شاهدنا في القرارات القاضية بحرمان ما يزيد على 13 ألفًا من «ستات الشاي» من مزاولة عملهم في بيع الشاي على الشريط المتاخم لشارع النيل في الخرطوم والطرقات الرئيسية، وهي مهنة قوامها الأكبر من ضحايا الحروب والفئات الأكثر فقرًا في العاصمة.

قد يعجبك أيضًا: هل يدفع نظام البشير ثمن جرائمه أخيرًا؟

مستشفى سوبا في الخرطوم - الصورة: Petr Adam Dohnálek

تصريح أبو قردة ورد البشير على مسؤولي مركز السلام للقلب يمثل رؤية الدولة للسياسات الصحية، فهنالك نوعان من السكان إذًا، من يملكون، «المقتدرون»، وهؤلاء لهم الحق في التمتع بالسلطة الحيوية وتكنولوجيات الإحياء، أي بإمكانهم الحصول على أفضل الخدمات الصحية في المستشفيات الخاصة أو خارج السودان إن أرادوا، بإمكانهم اختيار جنس المولود الذي يرغبون فيه باستخدام أحدث تقنيات الخصوبة، بإمكانهم الحصول على شكل الجسد الذي يرغبونه بزيارة عيادات التجميل والصالات الرياضية والتغذية الجيدة، إلخ.

أما من لا يملكون، فهؤلاء تنظر إليهم الدولة (السلطة) باعتبارهم عِبئًا وفائضًا عن الحاجة يمكن الاستغناء عنه بسهولة، سواء برفع اليد عن الخدمات الصحية المقدمة إليهم، أو طردهم، أو إبادتهم جماعيًّا، فهؤلاء مجرد موضوعات للسلطة الانضباطية وسلطة الإماتة.

مواضيع مشابهة