قد نُدهَش إذا علمنا أن العبادات التي اعتاد عامة المسلمين أن يؤدوها يوميًّا مثل الصلاة، أو سنويًّا كالصوم، أو مرة في العمر أو أكثر حسب الاستطاعة مثل الحج، كانت ممارسات حاضرة على مر العصور، إمَّا في حضارات قديمة أو شرائع سماوية أو وضعية، فالإنسان القديم عرف العبادات وحرص على إقامة الشعائر والطقوس، سواءً لإرضاء الذات الإلهية أو لتحقيق رضا روحه هُو.
لكن، هل هناك أصول للعبادات التي سبقت ظهور الإسلام؟ وهل مارست الأمم السابقة ما نطلق عليه أركان الإسلام الخمسة؟
بحثنا في هذا الموضوع، وتحديدًا في أركان الإسلام، ووجدنا أمثلة ونماذج حقيقية من التاريخ لممارسة الإنسان القديم تلك الأركان، بل وتكرارها عبر مختلف الأمكنة والحِقَب.
أوَّل أركان الإسلام: شهادتا التوحيد
التوحيد هو الوصية الأولى من الوصايا العشرة المذكورة في الإنجيل.
التوحيد لغةً مِن الاتحاد أو الوحدة، وقد شهدت البشرية أول ظهور للتوحيد قبل أربعة آلاف سنة في مصر القديمة، خلال حكم «أمنحوتب الرابع»، الذي ألغى نظام الآلهة المتعددة المتعارَف عليه آنذاك وفرض عبادة الإله الجديد «آتون» قسرًا، حتى أنه غيَّر اسمه إلى «إخناتون»، الذي يعني حرفيًّا «باسم آتون الأعلى».
وعرفت الزرادشتية، التي ظهرت في بلاد فارس قبل 3500 عام، التوحيد كذلك، إذ آمن زرادشت أن الإله «أهورا مزدا» كلَّف البشرية بالاختيار بينه وبين روح الشر «أورا ماينو». و يؤمن الزرادشتيون بأن الإنسان يعيش في صراع طَوَال عمره، يحتِّم عليه الاختيار بين الإله الواحد وروح الشر.
أما قبل الإسلام، فاتفقت اليهودية والمسيحية على مبدأ أن الله صاحب القوة العظمى في الوجود وخالق كل شيء.
وفقًا لنصوص التوراة والتلمود، يؤمن اليهود بوجود رب واحد خالق مستحِق للعبادة والصلوات، وفي سِفْر «التثنية» نجد دليلًا توراتيًّا على التوحيد في الآية «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد» (التثنية 6:4)، وكذلك في المسيحية، فالتوحيد هو الوصية الأولى من الوصايا العشرة المذكورة في الإنجيل.
قد يعجبك أيضًا: رحلة في موجة الإلحاد والثورة الاجتماعية في العالم العربي
ثاني أركان الإسلام: الصلاة
الصلاة في اللغة: الدعاء والمناجاة، وتعرِّفها معظم الأديان بأنها محادثة مباشرة يجريها الإنسان مع ربه لأسباب عديدة، مثل طلب الشفاعة أو الشكر أو التضرُّع، أو لطلب أمر معين، وقد يؤدي أكثر من شخص الصلاة في نفس الوقت والمكان، وحينئذ تصير صلاة جماعية.
يعتبر الصابئة المندائيون الصلاةَ ركنًا أساسيًّا من أركان الدين كما يؤمن المسلمون.
تمَّت أول صلاة معروفة منذ بدء الخليقة عندما جاء الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم، فكان في ذلك إشارةً لإحياء هذه العبادة عن طريق الرسالات السماوية لاحقًا.
كان قدماء المصريين أول من أنشأ دور العبادة، واعتقدوا أنها منازل الآلهة التي عبدوها وصَلُّوا لها، فبنوها من صخور قوية وزينوها بكتابات هيروغليفية تصور الملك يحارب الأعداء ويؤدي طقوس استجداء الآلهة.
أخذت الصلاة أشكالًا مختلفة عبر التاريخ، ففي الوثنية التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت عن طريق الدوران حول الكعبة والتصفيق والصفير، فيما يؤدي الهندوس الصلاة على شكل «مانترا»، أي تكرار عبارات تمجِّد الآلهة ثلاث مرات في اليوم، أما المؤمنون بالشنتو في اليابان فيقيمون صلوات عبارة عن مجموعة طقوس، من ضمنها رقصة مقدسة لـ«كامي» أو الإله.
الصابئة المندائيون، أتباع النبي يحيى في العراق القديمة الذين لا يزال بعضهم موجودًا في الوقت الحالي، يعتبرون الصلاةَ ركنًا أساسيًّا من أركان الدين كما الإسلام، وهي فريضة منذ سِنِّ التكليف الديني حتى الوفاة. يجب على المندائي الصلاة ثلاث مرات في اليوم: فجرًا وظهرًا وعصرًا، بعد أن يتوضَّأ موليًا وجهه ناحية الشَّمال حيث عالم النور، ثم يردد أدعية باللغة المندائية وهو واقف، ويسجد عند ذكر كلمة السجود.
ثالث أركان الإسلام: الصيام
عُرِف عن الصوم أنه أكثر عبادةً تسعى لتهذيب النفس وتطهير الروح، بمنع الجسد عن مقاربة متع الحياة الضرورية مثل الأكل والشرب والجماع، والابتعاد عن كل ما قد يسيء إلى الآخرين من قول أو فعل خلال فترة زمنية محددة عند كل معتقَد، لذا فالصوم موجود في أغلب الديانات القديمة التي سبقت الإسلام.
قد يهمك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية
كان الصيام من أقدم التشريعات في اليهودية، وتندرج تحته ثلاثة أنواع:
- صيام الفرض في أيام المناسبات المهمة، مثل يوم كيبور (الغفران)، والصيام الموسوي (الأربعين يومًا) تأثرًا بالأيام التي قضاها النبي موسى خلال تلقيه الوحي في وادي طُوَى.
- صيام لأسباب شخصية، مثل صيام الفرد للتكفير عن خطيئة أو ذنب ارتكبه، أو صيام لأسباب تتعلق بأزمات تاريخية حصلت لليهود على مر الزمان، مثل صيام يوم هدم الهيكل.
- صيام تطوعي، مثل صيام يومي الإثنين والخميس (الأيام التي تُقرأ فيها التوراة في المعبد).
كذلك، يؤدي اليهود نوعًا آخر من الصوم هو صيام الصمت، إذ يستغرق اليهودي في الصمت التام للتقرب إلى الله، نادمًا على بذيء الكلام وفاحش القول.
اقرأ أيضًا: التدين ومعضلة «الدولة اليهودية» في إسرائيل
تُخصص البهائية 19 يومًا في شهر مارس من كل عام للصوم.
يختلف الصوم في المسيحية لأنه مستحب أكثر من كونه فرضًا، ويكون بالامتناع عن المنتجات الحيوانية فقط (اللحوم والألبان ومشتقاتها) مع السماح بتناول باقي الأطعمة والأشربة، وتختلف مناسبات الصوم وأيامه من مذهب مسيحي إلى آخر.
وشددت الهندوسية، التي سبقت الشرائع السماوية الثلاثة، على أهمية الصيام، واعتبرته وسيلة لمعاقبة النفس وتطهيرها من الآثام وتخفيفها من الذنوب، وخصصت له بعض أيام الأسبوع، ويصوم الهندوس يومًا معينًا لكل إله.
أما البهائية، التي ظهرت في إيران خلال أواسط القرن التاسع عشر، فتخصص 19 يومًا كل عام للصوم (من 2 إلى 20 مارس بالتقويم الميلادي)، ويسمى شهر العلا، وهو الشهر الذي يسبق السنة البهائية الجديدة المكونة من 19 شهرًا، ويُلاحَظ تكرار الرقم 19 لأنه مقدس في البهائية.
رابع أركان الإسلام: الزكاة
وُجِد مبدأ الصدقة أو العطاء المالي للمحتاجين في جميع الشرائع السماوية، وهو محبَّذ عند الرب لأنه قائم على مبدأ إحقاق العدالة بين الناس، ويكون بأخذ جزء من مال الغني وإعطائه للفقير.
انتشر مفهوم الرحمة تجاه ذوي الحاجة في حضارة بابل القديمة عندما أقرَّ الملوك عقوبات على الأقوياء الذين يؤذون الضعفاء، وتجلَّت الفكرة بشكل أكبر في ملحمة غلغامش، التي أبرزت باستخدام الشعر خصال الكرم والتضحية بالنفس، وأهميتها لنهضة الحضارة ورِفعتها.
يتفق الهندوس والبوذيون والسيخ على الصدقة، ويمنحوها خصوصًا في المناسبات مثل الزواج والجنائز.
وفي الحضارة الرومانية، كان الدافع الأكبر للشخص الكريم، الذي يدفع من حُرِّ ماله لإقامة الولائم أو الألعاب البهلوانية، هو القيمة الاجتماعية التي يحظى بها نظير عطائه، وكذلك اعتباره من كرماء القوم، ممَّا حثَّ المقتدرين على التصدق للفقراء بشكل وافر في تلك الحقبة.
اختلف معنى العطاء المالي في اليهودية عمَّا سبقها، وغدى واجبًا وسُمِّي صدقة «Tzedakah»، واعتُبِر التصدق على المحتاجين عدالةً وإنصافًا أكثر من كونه عملًا اختياريًّا ينُمُّ عن الكرم، كما خُصِّص عُشر دخل الفرد للفقراء أو دور العبادة.
كانت الصدقة جزءًا رئيسيًّا من الثقافة الهندية منذ القدم، فحرص الملوك والنبلاء على تنظيم الولائم الجماعية وتوزيع الحبوب والشعير على الفقراء، في ما سُمِّي قديمًا «دانا».
أما في الوقت الحاضر، فتشترك الهندوسية والبوذية والسيخية في التشديد على إحياء نفس العبادة، خصوصًا في المناسبات مثل الزواج والجنائز وغيرها، فيتصدق الشخص المقتدر بإعطاء الكاهن مالًا أو غذاءً أو ذهبًا.
قد يهمك أيضًا: رواه بوذا: كيف تجتمع المبالاة مع اللا مبالاة عند «زِن»؟
خامس أركان الإسلام: الحج
كان الحج قبل الإسلام مناسبة دينية ثقافية اجتماعية اقتصادية.
هو الرحلة التي يقوم بها الشخص من مسكنه الأصلي إلى مكان ديني مقدس، وغالبًا ما يحتوي ذلك المكان على معبد أو صرح ديني. وشهد التاريخ القديم مئات المعابد والأماكن المقدسة التي كانت مزارًا للحجاج القدامى، وتُعد الآثار الباقية أكبر دليل على ذلك.
من أشهر تلك الآثار معبد رمسيس الثاني بمنطقة وادي أوزيريس في مدينة أبيدوس الأثرية، التي تقع في محافظة الوادي الجديد المصرية. كانت مدينة أبيدوس مقصدًا لأتقياء المصريين القدماء، وكان كل واحد يسعى إلى أن يُدفن هناك ليجاور ضريح أوزيريس رب الحياة الثانية.
كان الحج قبل ظهور الإسلام مناسبة دينية ثقافية اجتماعية اقتصادية، يلتقي فيها العرب من أجل العبادة والتجارة والتعارف، ويفدون إلى مكة من أرجاء الجزيرة العربية خلال الأشهر الحُرُم الثلاثة، للطواف حول الكعبة سبعة أشواط مرتدين المآزر أو عراةً، مع تقبيل الحجر الأسود الذي كان مقدسًا كذلك وقتها.
ويحج ملايين المسيحيين إلى مواقع مقدسة عديدة حسب كل طائفة، فحَجُّ الكاثوليك مثلًا يستمر طَوَال العام إلى كنيسة القديس بطرس في مدينة الفاتيكان الإيطالية.
في وقتنا الحاضر، لا يزال الإنسان الحديث يحتاج إلى إقامة الشعائر والعبادات نفسها كما فعل أسلافه، وإن اختلفت الطُّرُق والأساليب حسب ماهيَّة المعتقدات والديانات، لكنها تسعى كلها إلى الغرض نفسه الذي سعى إليه الإسلام منذ ظهوره حتى الآن.