هذا الموضوع ضمن هاجس «المغامرة». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
الموضوع متوفر صوتيًّا كذلك، يمكنك الاستماع إليه هنا.
أن تكون نشأتك الأولى، ذكرياتك، هويتك، مبنية على كراهية المكان الذي تعيش فيه. أن تكون أنت منزوعًا من نفسك لأنك تنتمي إلى مكان آخر تراه فردوسك المنتظَر. ذلك ما يعني أن تتحول كل أيامك في مكان تكوينك إلى انتظار طويل للحظة فرج مفترضة لا تتحقق في أغلب الأحيان. كان ذلك حالي في 17 عامًا قضيتها في السعودية، في انتظار عودتي إلى مصر.
اليوم، وأنا على مسافة كافية من هذه الفترة، أنظر ورائي بشيء من الحنين والتقدير للجمال الذي لم ألتفت إليه، لمكامن البهجة التي راوغتني مفاهيمها أول الأمر، قبل أن أجد طعمها في فمي وعقلي الآن. عن السعودية التي أحبها أتحدث.
كنتُ في العاشرة يوم تطابق الاسم والشكل، السمعة والصورة. سمعتُ كثيرًا عن محمد عبده على عدة وجوه، تارةً هو ذلك الشيطان المفروض علينا، «مطاوعة» المدرسة (مفردها مطوّع، وهو السُّني الملتزم) لا يذكرونه إلا بكل سخط، الرجل المدعوم من الأسرة المالكة، الوجه الأساسي للاحتفالات الملكية الرسمية (مع طلال مداح قبل الاختراعات الجديدة، راشد الماجد وعبد المجيد عبد الله ورابح صقر وغيرهم)، وكيف يكون بالله احتفال الجنادرية (مهرجان سعودي سنوي) دون عبده وطلال. المطاوعة كرهوه لأنه يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويذكرون بكثير من الأسى أيام اعتزاله الفن في نهاية الثمانينيات، ربما لأن الحديث عن «تجاوزه الشرعي» يعني الكلام عن داعميه وافري السلطة، وهو ما يهابه الجميع بالطبع.
تدخُل ابتسامة محمد عبده القلب مباشرة، تجاوزتُ معها صراعاتي نفسها واستغرقتُ في الاستماع حتى أذان العشاء، حين عدت إلى منطقتي الآمنة في التحريم.
مجموعة أخرى من الفسدة المفسدين الزملاء الأشقياء مدمني الرسوب، غير المتحرجين من الإفصاح عن محبتهم الغامرة لمحمد عبده، متباهين به باعتباره من رموزهم المحببة. كانت الحميمية تبلغ مداها معهم أن ينادوه «أبا نورا»، الكنية دائمًا من أسباب الحميمية والمحبة، كأن عبده واحد من مجموعتهم القريبة.
هؤلاء «الفسدة» كانوا يحبون إغاظة المطاوعة بمحبتهم غير المتحفظة، بدندنة أغانيه، ذكرها في وسط الكلام، يكفي أن يقول أحدهم «لنا الله» حتى يبادر «لنا الله ياخالي من الشوق وأنا المولع»، وتعلو أصوات الاستغفار.
كنتُ بين هؤلاء، عقلي يميل إلى التحريم، وأذني تطرب لِما أسمع عبر وسيط غير مدرب، أي أصوات زملائي. أطرب لموسيقى تلتقطها الأذن بسهولة، أضبط نفسي متلبسًا بالدندنة بيني وبين نفسي، ثم أستغفر الله.
كنت في العاشرة حين رأيت صورته لأول مرة، وسمعته في إحدى احتفالات الجنادرية.
وجه ناعم وشارب رفيع حاد، وصوت أكثر حدة، مع رخامة من السهل أن تحبها الأذن من المرة الأولى. الملامح تشي بعِرق آسيوي خفي، والصوت كذلك، أو هذا ما تخيلته وقتها. كانت ابتسامته من النوع الذي يدخل القلب فورًا، هذه ابتسامة مستمتع بما يفعل. تخيلتُ لوهلة أن ذلك الاستمتاع غير مشغول بصراعاتي الوجودية عن الحرام والحلال. ابتسامةٌ تجاوزتُ معها صراعاتي نفسها، واستغرقت في الاستماع والاستمتاع حتى أذان العشاء، حين انهيار كل شيء والعودة إلى منطقتي الآمنة في التحريم.
أذني لم تقبل طلال مداح من المرة الأولى كما فعلت مع محمد عبده، أحسستُ أنه يختبئ خلف نظارته وصوته الهادئ، الهدوء الذي رأيته محايدًا وقتها.
ركزت مع عبده كأنه ناسَبَ مزاجي وقتها، فقبلته دفعة واحدة. طلال تسلل إليّ خطوة بخطوة، تجرعته ببطء حتى صار أكثر رسوخًا، لكن هذه حكاية أخرى.
المسافة بين البيت والشارع في الرياض أبعد من مجرد النظر من النافذة أو المبادرة بالخطوة الجريئة بالنزول (لا سمح الله). المسافة هي بين ما أراه، وما يريدني أهلي أن أراه. هكذا، كمدرّب على الجُبن، صرت أخاف من الشارع، أحذر من العيون المتتبعة، أخاف من تحولي إلى شهوة محتملة لأحدهم، لا أرى في العلاقات التي تتربى فيه إلا ضرر ما خفي لا أعرفه.
وأهلي، كما عرفت لاحقًا، كانوا يحافظون على «نقائي المصري»، يريدون لي أن أتجهز لموعد عودتي المنتظر خالص المصرية، قادرًا على فهم تفاصيلها، رغم تبجيلهم لدراستي الدينية، لكنها كانت كل ما يحتاجونه من اختلاطي بالفضاء العام. المسجد هو المساحة الآمنة (بعد المدرسة)، فهمت هذا دون أن أستطيع التعبير عنه بالكلمات، ومن هنا صارت حاجتي إلى الاختباء داخلي، أحكي لهم ما يرغبون في سماعه لا حقيقة ما يحدث، لم يعرفوا أبدا حجم «الشقاوة» مع زملاء حلقة التحفيظ، ولا محاولاتهم لاستمالتي إلى صفهم في التساهل مع الحفظ والانضمام إليهم في مغامراتهم.
رغبتُ في الانضمام لكني اكتفيت بالمشاركة الصامتة، لم أكن «خالص المصرية» في نظرهم، ما جعلهم يحبونني، لم أشِ بهم للمحفِّظ، لم أعترض على أي جنون طفولي يقترفونه. كنت محايدًا، لا رغبةً في الحياد، بل محاولةً آمنةً في الاندماج.
مصريتي هذه شكّلت امتيازًا وعائقًا لي، امتياز «الشطارة» المزعوم والقدرة على التفوق، وعائقًا لُغويًّا قدرت أن أتخطاه بسهولة، أجدتُ لهجة نجد حتى صرت في نظر أهل الرياض «حجازي»، والحقيقة أني، وبشكل أساسي، رغبت في التخلص من سخافات تمصير اللغة شديد السماجة، بتحويل كل قاف إلى همزة ونزع التعطيش عن أي جيم.
غير أن «التورط» في الاندماج جعلني أذهب مذهبًا أبعد، أن أُقنع نفسي بمحبة الفن الخليجي رغم تعاليّ عليه في البداية، كمصري أصيل، أردد كلام أبي «نحن أهل الفن»، وكيف بالله يمكن أن نقارن أي فنان خليجي بأم كلثوم وعبد الوهاب؟ التقاط أذني للألحان لم يكن معناه احترامها بالمرة، لكني تابعت الجنادرية بهوس لأحفظ شيئًا من أغانيها، وقد كان.
يوم رائق في منتصف الأسبوع، حين قررت أن «أغامر» وأتخلى عن حيادي الآمن، ويرتفع صوتي في باحة المسجد قبل وصول المحفظ بدندنة أغنية من أغاني محمد عبده من الجنادرية، لتتعالى الصيحات «الله أكبر، رح تتجنّس يا أحمد»، يقصدون أنها الخطوة الأولى في حصولي على الجنسية. الحمقى، عن أي جنسية يتحدثون؟ هذه فقط محاولات طفل لا يريد أن يبقى غريبًا.
وكما تحايلتُ على أغاني أم كلثوم بالاستماع (فقط) إلى أغانيها الدينية، داومتُ على سماع أغنية «يا مستجيب للداعي» لمحمد عبده:
«يا مستجيب للداعي
جِب دعوتي بإسراعِ
واشفِ جميع أوجاعي
يا مرتجى يا رحمن
***
اغفر لعبد مذنب
من الخطايا يسكب
بحُب ساكن يثرب
طه شفيع النيران»
الأغاني حرام بالطبع، لكن هذه أغنية فيها مديح نبوي، تشابه ما غنته أم كلثوم في «سلو قلبي» و«وُلد الهدى»، وأغاني رابعة العدوية الفاتنة. ورطتي الكبرى كانت في سحري الرهيب بأغنية «لنا الله». اللحن المقسوم خليجي بإيقاعه السريع وكلماته الحارة أخذت عقلي تمامًا، ولم تفلح كل محاولات طرده.
ارتباك أبي، حين ضبطني متلبسًا بغناء «لنا الله»، أظهر لي معنى المسافة بينه وبين أزمتي في مقاومة الغربة.
أبي يحب السعودية حبًّا حقيقيًّا، يحب عمله كثيرًا، وهو ما بقي معه حتى وفاته، لكنها محبة «متعالية» في كثير من تفاصيلها، التعالي المصري، محبة دون اندماج، وهو الفخور بمصريته فخرًا كلاسيكيًّا. فيما أنا لا أعرف عن مصر إلا ما يحكيه وأراه في أشياء من قبيل مسلسل «رأفت الهجان» و«دموع في عيون وقحة»، وحكاياته عن سلطة أم كلثوم، ودهاء عبد الوهاب، وحِكمة حسن البنا، وتفاني سيد قطب، وثقافة محمد الغزالي، وحنكة السادات، وملحمية سيد قطب.
ارتبك أبي، ولم يعرف هل يلومني على فكرة الغناء لمحمد عبده، أم يبارك؟ رأيتُ ذلك الارتباك في عينيه، اختصره بجملة واحدة جاهزة: «ركِّز في المذاكرة وبطّل لعب».
تزامن تغير مزاجي الموسيقي مع تعرفي إلى عالم البورن، لم يكن وافرًا كما هو اليوم، كان محصورًا في الصور والمقاطع القصيرة والحكايات الجنسية.
كنت لا أزال أتعذب من الحرمانية، لكني أستمع في كل الأحوال، ضابطًا حالي على الاستغفار اليومي. أليسَ الله «لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء»؟ تغير مزاجي الموسيقي، قادني إلى محبة أغنيتين لأبي نورا: «شبيه الريح» و«مذهلة»، كلمات مليئة بالمجاز القريب من غروري، رومانسية المراوغة، التجديد الظاهري. أحببتهما حتى حفظتها بالنوتة، خصوصًا أن موسيقى الأغنيتين يتوارى فيهما الأثر الخليجي كثيرًا، بالذات في التوزيع.
تزامَن ذلك مع تعرفي إلى العالم الجديد المسمى بالبورن، لم يكن وافرًا ومتنوعًا كما هو اليوم، كان محصورًا في الصور والمقاطع القصيرة والحكايات الجنسية المكتوبة: «نادية طيز» و«ألف نيكة ونيكة»، ورواية «مديحة» الشهيرة من موقع سميرة «موقع أكبر شرموطة». ومثل كلب بافلوف، لا أتذكر الأغنيتين إلا وتتدفق ذكريات البورن الأولى في رأسي، صار لهما وقعهما الإيروتيكي في نفسي حتى اليوم.
لم تكن لي حبيبة في ذلك الوقت، مجرد خيالات لِبنات أركبهن كما أحب، أُسقط عليهن هرموناتي، «مذهلة ماهي بس قصة حسن، رغم إن الحسن فيها بحد ذاته مشكلة»، ثم أهجرهن ويهجرنني، «شبيه الريح أنا ما أقدر أكدر صفوك العاصف»، غارقًا تمامًا بين كلمات الأغاني وآهات البورنو، فينزل مائي.
فُرجة صغيرة عَرَفتها حياتي في الثانوية العامة، انتقلنا إلى جدة، المدينة السياحية الساحلية الأقل قتامةً من الرياض. لم أحبها في البداية لِقِلة عدد المولات فيها بالنسبة إلى الرياض، لكنني اندمجت سريعًا، وللمفارقة صرت أمام زملاء المدرسة «النجدي» بعد أن كنت «الحجازي» في الرياض. حتى في ثوبي السعودي ولساني النبطي كنتُ دخيلًا.
لكن ذلك لم يطُلْ، جمال جدة بالنسبة إليّ لم يكن في بحرها ولا وجوه نسائها الظاهرة (وهو الشيء الجديد علي)، جمالها في تنوع جنسياتها، مجموعة من الوحيدين الغرباء من كل بلاد العالم، مدينة كوزموبوليتانية حقيقية. وبحكم قُربها من مكة، لا تنقطع وفود المعتمرين والحجاج أبدًا.
السوق القديمة في جدة مليئة ببضاعة متنوعة وغريبة بالفعل، لدرجة أني اشتريت منظارًا مكبرًا عليه لوغو الحزب الشيوعي السوفييتي من أحد الحجاج الأفغان. أثارتني فكرة أنني أشتري شيئًا من مخلّفات الحرب، ناهيك بفكرة «مداه» الذي يمتد إلى عدة كيلومترات. أداة تلصص ممتازة أفادتني كثيرًا في مراقبة النساء، لكن هذه حكاية أخرى.
أحببت جدة، وأحبتني. كانت سَمحة جدًّا في ذروة مراهقتي، الغناء كان أعلى صوتًا في هذه المرحلة، لدرجة أن ثَمّة «معركة» خفية بين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحية، والشباب من ناحية أخرى، كانت ساحتها «بوستر» ألبوم «علم قلبي» لعمرو دياب.
دون عون أو وسوسة من أحد، عَبَرتُ الصراط إلى عالم جديد، لتنفتح أمامي المغارة، أرفف هائلة بها عشرات شرائط الكاسيت، يتوسطها بوستر ضخم لعمرو دياب.
لكن كل ذلك تغير فجأةً حين ظهرت صورة عمرو دياب، عشرات الصور أمام محلات الكاسيت وغيرها. كأنه إعلان تمرد صغير، قابَلَهُ «مطاوعة الهيئة» بالتمزيق، وأحيانًا بضرب من يُمسَك متلبسًا بالجُرْم. لم تتوقف الصور عن الظهور، لأيام متتالية، وحاول رجال الهيئة إخماد الثورة الصورية الموسيقية الصغيرة. استمرت المعركة بين شد وجذب حتى يأس رجال الحسبة، وبقيت الصورة.
لأجل هذه المعركة الرمزية سمعت الشريط، وحفظته كاملًا عن ظهر قلب، وما زلت، بترتيب أغانيه، وأسماء كُتابه وملحنيه، حفظت حتى المقطع الموسيقي في نهاية الوجه الأول لأغنية «خليني جنبك». تمكن الشريط من قلبي تمامًا، رغم النزاع الذي لا ينقطع بين الحرام والمحبة. ولأول مرة في حياتي، أتقدم بنفسي إلى محل كاسيت في شارع «باخشب» المزدحم بمحلات الشرائط الدينية والقرآن، بنفسي ووحدي ودون عون أو وسوسة من أحد.
دخلت إلى المحل، عابرًا الصراط بين عالم أعرفه إلى عالم جديد عليّ، لتنفتح أمامي المغارة، أرفف هائلة بها عشرات شرائط الكاسيت، يتوسطها بوستر ضخم لعمرو دياب، وحوله عشرات النسخ من «علم قلبي». اشتريت الشريط وأنا أنظر حولي ممنيًا نفسي بوجبة موسيقية دسمة، هنا كل شيء أبتغيه، من أم كلثوم حتى مصطفى قمر، لكني اكتفيت بالهضبة، إلى حين.
خرجتُ من المحل يملؤني إحساس بامتلاك العالم، لقد اتخذت قرارًا ونفذته، دون النظر إلى العواقب الأُسَرية أو الإلهية. الفكرة أني كنت قد حفظت الأغاني بالفعل، لكن أن أشتري الشريط، كانت خطوة تعني غَلَبة الهوى على الواجب. أحمل في قلبي مشاعر طيبة تجاه ذلك اليوم، لا لأنه حوى مغامرة واحدة، بل اثنتين.
الشريط في جيب ثوبي الأمامي، أمشي متهاديًا بخفة من مارَس الجنس مع فتاة أحلامه، ثم أتوقف عند محطة بنزين لأكافئ نفسي بعلبة شوكولاتة كاملة من محل المحطة. تستوقفني سيارة مرسيدس بلون غريب، ليس أصفر وليس ذهبيًّا، لكن في منطقة بينهما. يخرج من كرسيها الخلفي كهل بوجه ناعم وشارب رفيع حاد وملامح تشي بعرق آسيوي، لا بد أنه هو، ليست هلاوس النشوة.
ما أكد شكوكي صوته، ذلك الصوت الحاد، إنه محمد عبده، أبو نورا.
غامت تفاصيل كل شيء في ذلك اللقاء وبقيت منه لمحات. أذكرُ، لَمْ أحدثه بسعودية حجازية أو نجدية، بل بمصرية خالصة، أردتُ أن أخبره أني مصري يحبه، يحفظ أغانيه. هل هي إيوفوريا النشوة الاستثنائية أم جنون مؤقت أصابني، راميًا حذري المعتاد بعيدًا عني؟ لا أدري، لَم أكن أنا كما أعرفني، لدرجة أني تجرأت وغنيت له «لنا الله»، فابتسم وربّت على كتفي. استأذنني في الانصراف، وعلى طريقة الأفلام الأمريكية أنزل زجاج السيارة وهو يقول لي: «إن شالله نلتقي في مصر». ولأكمل المشهد البارق، غنيت وراء سيارته المنصرفة «بلا خوف بنلتقي، بلا حيرة بنلتقي».