«ما كان مقبولًا قبل عشرة أو خمسة عشر عامًا لم يعد كذلك الآن بتاتًا».
بهذه الجملة المقتضبة، اختصر وزير الدفاع البريطاني المستقيل «مايكل فالون» كثيرًا مما يمكن أن يُقال عن التأثير الاجتماعي للحملات النسوية المتتالية منذ مطلع هذا العقد: لمس ركبة صحفية في عشاء رسمي لم يكن يومًا تصرفًا مقبولًا من سياسي ذي حيثية، لكنه الآن يتخذ أبعادًا أكبر تؤدي إلى إنهاء مستقبله المهني والسياسي، حتى لو رفضت من وقع عليها الفعل وصف نفسها بـ«الضحية»، واعتبرت الموضوع سخيفًا من أساسه ولا يستحق كل هذه الضجة، كما في حالة الصحفية «جوليا هارتلي بريور»، التي أدت مزاعم التحرش بها إلى استقالة فالون.
التغير الاجتماعي الذي لمّح إليه فالون يراه كثيرون علامة على التقدم، فالوعي بمشكلة التحرش تطور بشكل واضح، وصار من الأسهل كشف حالات الانتهاك الجنسي الجسيم. كذلك، يُحسب لحملة «#MeToo» أنها ربطت قضية التحرش بموضوع السلطة: ما يحدث من انتهاك للنساء في الحيز العام وأماكن العمل هو اضطهاد بنيوي، سببه اختلال ميزان السلطة لمصلحة الذكور، وبالتالي فانتهاك الجسد الأنثوي هو التجسيد الأكثر فجاجةً للهيمنة الذكورية.
إلا أن المسارات التي اتخذتها الحملة، واستغلال بعض الجهات لها لتصفية الحسابات السياسية مثل حالة الحكومة والبرلمان البريطاني، والجدل المحتدم والانفعالي الذي أثارته، دفع كثيرين، خصوصًا من خارج السياق الثقافي الأنغلوساكسوني، إلى طرح عدة أسئلة حول التأثيرات المحتملة لمثل هذه الحملات على عدة أصعدة: المفاهيم الجندرية، والعلاقات الجنسية، وتشكيل الحيز العام، والتأثيرات القانونية والتشريعية.
ربما كان من المفيد وضع حملة #MeToo ضمن سياقها في تاريخ الحركة النسوية لفهم الجدل الدائر حولها ومعالجة اثنين من أهم جوانبها: الجنس والقانون.
حروب الجنس النسوية: نسوية أم بيوريتانية؟
لدى البحث عن «حروب الجنس النسوية»، يُصدم المرء بأنه لم يُكتب أي شيء تقريبًا باللغة العربية عن هذا الفصل المهم من تاريخ النسوية.
يشير هذا المصطلح إلى الخلافات المحتدمة والصراع الأيديولوجي بين تيارات الموجة النسوية الثانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حول قضية الجنس. فبعد أن قامت الحركات الاجتماعية بتثوير الجنسانية منذ الستينيات، وطرحت الشعار الشهير: «كل ما هو جنسي، هو سياسي»، كان على النسويات أن يحددن موقفهن بوضوح من عدة قضايا: الحرية الجنسية، والبورنوغرافيا، والممارسات الجنسية التي توصم بأنها «منحرفة» (السادية والمازوخية والجنس الجماعي)، والعمل الجنسي، إلخ.
كان الأدباء والمستشرقون يهربون إلى «الشرق» ليعيشوا مغامراتهم الجنسية، إذ كان الشرق العثماني أكثر انفتاحًا جنسيًّا.
انقسمت الحركة النسوية بعنف نتيجة هذا الجدل إلى تيارين متعارضين:
- النسوية المناهضة للإباحية (Anti-pornography feminists)، التي تعتبر الإباحية والعمل الجنسي انتهاكًا شاملًا للمرأة وتسليعًا لجسدها، وتنتقد موجة التحرر الجنسي التي ترسخت مع الثورات الشبابية والطلابية في الستينيات، وتعتبر أنها ليست لمصلحة النساء، اللواتي يُستغللن ويُتلاعب بهن تحت شعارات «الحرية». وعمومًا، كان لهذا الفصيل النسوي موقف متشكك من الجنس والانطلاق الجنسي.
- النسوية الإيجابية جنسيًّا (Sex-positive feminism)، التي شن المنتمون إليها حملة من النقد اللاذع ضد ذلك الطرح، ودافعن عن الحرية الجنسية بوصفها من أهم مكتسبات المرأة، فهي خلصتها من الرقابة الأبوية وسمحت لها بإطلاق العنان لإرادتها ورغباتها الخاصة دون وصاية اجتماعية. واعتبرن كل أشكال الممارسة الجنسية مقبولة ومشروعة طالما برضى الطرفين.
لعل من أهم الانتقادات في هذا السياق أن النسويات المعاديات للإباحية، خصوصًا في أمريكا وبريطانيا، لا ينطلقن من موقف نسوي بقدر تأثرهن برواسب دينية بروتستانتية بيوريتانية (تطهرية)، فلطالما أثّرت البيوريتانية في الفضاء الأنغلوساكسوني على المواقف من الجنس والجسد الإنساني، منذ نشأتها في القرن السادس عشر.
أسهم نزوعها لكراهية الملذات الدنيوية والاشمئزاز منها في تشكيل بعض أكثر عصور التاريخ تزمتًا، مثل العصر الفيكتوري (1837 - 1901)، الذي أثر بأخلاقياته المحافظة في كامل أوروبا، لدرجة أن أدباء ومستشرقين مثل «غوستاف فلوبير» كانوا يهربون إلى «الشرق» ليعيشوا هناك مغامراتهم الجنسية. الشرق العثماني آنذاك كان أكثر انفتاحًا جنسيًّا، سواءً في الجنس المثلي أو المغاير، لدرجة أنه صُوِّر استشراقيًّا كأرض الملذات.
من تأثيرات النزعة التطهرية أيضًا قانون منع الكحول في أمريكا، الذي فُرض بمساهمة كبيرة من جمعيات نسائية مسيحية تقوية، وأدى إلى فترة اضطراب اجتماعي كبير بين عامي 1920 و1933.
هذا التراث البيوريتاني والفيكتوري، بحسب النسويات الإيجابيات جنسيًّا، ما زال يؤسس جانبًا كبيرًا من وعي ولاوعي بعض تيارات النسوية: المرأة دائمًا ضحية للممارسة الجنسية وليست شريكة بها، وغير مؤهلة لاتخاذ قراراتها الجنسية بحرية، ولا يحق لها أن تمتلك ميولًا جنسية مخالفة للمألوف، ربما بوحي من النموذج الديني لمريم العذراء.
ربما نرى «موجة نسوية رابعة» تعمل على الحشد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي هذه «الموجة» الجديدة يبدو أن أصداء حروب الجنس تعود بقوة.
وصلت حروب الجنس النسوية إلى أوجها وكادت تتحول إلى معارك حقيقية عام 1982، حين طُردت النسويات المعاديات للإباحية من «مؤتمر الحياة الجنسية» الذي نظمته كلية برنارد في نيويورك، ما دفعهن إلى التظاهر والاحتجاج خارج المؤتمر.
أسهمت حروب الجنس النسوية في إنهاء الموجة النسوية الثانية وانطلاق الموجة الثالثة، التي اعترفت بالاختلافات بين النساء ورفضت تحديد نموذج واحد للمرأة، ما فتح المجال لاستيعاب كثير من المظاهر التي رفضتها النسوية سابقًا: العمل الجنسي، النساء المحافظات اجتماعيًّا، نساء العالم الثالث، حركات ما بين الجنسين والخنوثة.
ورغم هذا، لم تتوقف سجالات حروب الجنس أبدًا، وظلت تفرض مسائلها على كل طرح نسوي.
قد يعجبك أيضًا: كيف أصبحت نسوية نكدية؟
اليوم، يتحدث بعضهم عن موجة نسوية رابعة تحوي عناصر من الموجات النسوية السابقة كافة، يعتمد أسلوب عملها على الحشد عبر مواقع التواصل الاجتماعي والعمل مع مؤسسات جهاز الدولة الغربية التي تبنت رسميًّا كثيرًا من شعارات النسوية. في هذه «الموجة» الجديدة، يبدو أن أصداء حروب الجنس تعود بقوة.
من أهم محطات الخلاف النسوي الجديد-القديم: مسألة العمل الجنسي، خصوصًا مع قوانين «تجريم زبائن الدعارة» التي بدأت في السويد عام 1999، وأدى إقرارها في فرنسا إلى حملة احتجاجات لعاملات الجنس والنسويات المؤيدات لهن.
موضوع الإباحية برز بقوة أيضًا مع تصاعد الحملات ضد التحيز الجنسي (Sexism) في الإعلانات ووسائل الإعلام.
لعل من أهم محطاته نجاح بعض النسويات البريطانيات في إجبار جريدة «The Sun» البريطانية واسعة الانتشار على إلغاء بابها الشهير «فتاة الصفحة الثالثة»، الذي يعرض صور فتيات عاريات الصدر، رغم اعتراض نجمات الصفحة أنفسهن على هذا الإلغاء.
كذلك، هناك قرار عمدة لندن «صادق خان» حظر الإعلانات «التي تقدم تصورًا غير صحي للجسد» (أي صور عارضات أزياء بملابس سباحة) في شبكة مترو أنفاق لندن، مما أثار احتجاج بعض النسويات، وتأييدًا متحمسًا لدى أخريات.
لكن أهم نقاط الخلاف هي قضية التعريف القانوني للاغتصاب والتحرش، الذي أثار كثيرًا من الجدل حول الموقف من الجنس نفسه.
جنسانية «المساحات الآمنة»: حول معنى «نعم» و«لا»
لا يوجد أي اتجاه نسوي، مهما كان مؤيدًا للجنس، يوافق على التحرش والاغتصاب أو يدافع عنه. إلا أن الخلاف اندلع حول تعريف هذين المفهومين، خصوصًا مع التطورات، التي يراها كثيرون خطيرة، في الجامعات الأنغلوساكسونية نحو توسيع مفهوم الاغتصاب والتحرش، بشكل يؤدي إلى جعل التواصل الجنسي بين الطلاب شبه مستحيل.
اقترح زعيم حزب العمال البريطاني تخصيص عربات للنساء في مترو الأنفاق، اقتراح قُصد به مجاملة النسويات فأثار جدلًا كبيرًا في أوساطهن.
قانون «نعم تعني نعم»، الذي أقرته ولاية كاليفورنيا الأمريكية في جامعاتها، يشترط الموافقة الواضحة والصريحة على الممارسة الجنسية، وليس مجرد الرفض والمقاومة، وإلا اعتُبر اغتصابًا.
إن كان هذا يبدو عاديًّا، فإن القانون ذكر بوضوح أن الموافقة لا يمكن أن تُعطى إذا كان أحد الأطراف (وهذا يعني المرأة بالتأكيد) مخمورًا أو تحت تأثير المخدرات، ما يفتح الباب لاعتبار أي ممارسة جنسية مع فتاة شربت كأسًا من النبيذ اغتصابًا.
الأسوأ أن عبء إثبات الموافقة في هذا القانون يقع على المدعَى عليه وليس على المدعِي، ما يقلب كل المعايير القانونية المتعارف عليها منذ القدم.
هناك من ذهبوا في تفسير القانون إلى القول بأن الموافقة يجب أن تُعطى بوضوح، ليس على العملية الجنسية بشكل عام فحسب، بل على كل لمسة وكل حركة من الممارسة الجنسية.
خلق هذا تصورات كاريكاتيرية عن عملية جنسية يطلب فيها الشاب من الفتاة بعبارات واضحة موافقتها قبل كل قبلة يطبعها على أي مكان من جسدها، وينتظر موافقة صريحة على ذلك، وربما عليه تسجيل هذه الموافقات بالصوت والصورة تحسبًا لاضطراره لعرضها مستقبلًا أمام قاضٍ متشكك. لا أحد يمارس الجنس بهذه الطريقة.
فضلًا عن هذا، بدأ فعليًّا توسيع مفهوم «المساحات الآمنة» (Safe-space)، التي أُنشئت أصلًا كأماكن يلجأ إليها الطلاب المثليون في حال تعرضوا للمضايقات، لتشمل النساء أيضًا، وهكذا ينشأ تدريجيًّا حيِّز لفصل الجنسين في جامعات الدول الناطقة بالإنجليزية.
ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى المواصلات العامة، إذ اقترح «جيرمي كوربين»، زعيم حزب العمال البريطاني، تخصيص عربات للنساء في مترو الأنفاق، على الطريقة المصرية والهندية. هذا الاقتراح الذي قُصد به مجاملة النسويات أثار جدلًا كبيرًا في أوساطهن.
بالنسبة إلى التحرش، ظهرت وقائع غريبة نوعًا ما للاتهام بالتحرش الجنسي، مثل الحملة الإعلامية التي شُنت ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما جامل زوجة الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بالقول: «مظهرك حسن جدًّا». هذا القول الذي يعدُّ مجاملة لطيفة ومقبولة حتى في بعض المجتمعات الشرقية المحافطة، اعتُبر نوعًا من التحرش.
مع حملة #MeToo، ظهرت أشكال أكثر غرابةً للاتهام بالتحرش، لعل أطرفها اتهام الحارس السابق للمغنية «ماريا كاري» بأنها حاولت التحرش به لأنها ارتدت «ثوبًا شفافًا» أمامه في إحدى المرات، و«كانت تؤدي سلوكيات جنسية لأجل لفت انتباهه». هل بات ارتداء النساء ملابس «مثيرة»، ومحاولات «لفت الانتباه الجنسي» التي لا تشمل إرغامًا أو تعديًا على الحيز الجسدي، تحرشًا؟
حملة #MeToo هي خليط من «معاداة الجنس والشهوة، والتسويق الإعلامي للجنسانية والانتهازية».
يتهم بعض النسويات النمط السائد من النسوية اليوم بأداء عملية مزدوجة تفرض جوًّا فيكتوريًّا جديدًا من التزمت والفصل الجنسي: إضفاء الطابع الجنسي أولًا على كثير من التصرفات التي كان يُنظر إليها حتى الآن على أنها تصرفات اعتيادية غير ذات مدلول جنسي، مثل المجاملة والتحية والتقبيل. وتوسيع تعريف الاغتصاب والتحرش ثانيًا، بما يجعل العملية الجنسية متعذرة عمليًّا، لأن الغزل والمبادرة الجنسية صار من الممكن بسهولة اعتبارهما تحرشًا.
بالإضافة إلى اعتبار النساء عمليًّا غير ناضجات بما فيه الكفاية لإعطاء الموافقة الجنسية، والسيطرة على النفس تحت تأثير الكحول، لأنه حتى «نعم» قد لا تعني دائمًا نعم.
رغم جو الهيستيريا السائد، يبدو الصحفيون والفنانون والباحثون خارج الإطار الثقافي الأنغلوساكسوني أكثر جرأةً في نقد ما يحدث.
الممثلة والمغنية النمساوية «نينا برول» كتبت على فيسبوك انتقادًا لحملة #Metoo، بما فيها من توسيع لتعريف التحرش، وانتقدت كذلك لجوء بعض الفنانات إلى الاستفادة من أنوثتهن لتحقيق مكاسب لدى المنتجين وأصحاب النفوذ، ومن ثَمّ الادعاء بعد سنوات عديدة أنهن تعرضن للتحرش.
وفي مقابلة تلفزيونية لاحقة، وضّحت برول أن التحرش يبدأ منذ أن تقول المرأة «لا» ويستمر الرجل رغم ذلك في التودد إليها، وليس قبل هذا بالتأكيد.
أما «مونيكا فروميل»، أستاذة الدراسات القانونية وعلم الجريمة في جامعة كيل الألمانية، فبدت أقسى في نقدها، فهي ترى أن #MeToo نتاجًا لمجتمعات مهووسة بالإعلام وفقدت معاييرها، وأن حملات الإدانة التي تحدث هي خليط من «معاداة الجنس والشهوة، والتسويق الإعلامي للجنسانية والانتهازية».
تؤكد فروميل أنه منذ سبعينيات القرن الماضي نشأ وعي كبير ضد الانتهاكات الجنسية، وتطورت القوانين في الغرب كي تستطيع النساء الرفض والمقاومة واللجوء إلى الحماية القانونية ضد التحرش والاغتصاب. الحملة الحالية، في رأيها، تكرس «دور الضحية» بالنسبة إلى النساء وتضيق مساحات الحرية.
تقول مونيكا فرومويل إنه «منذ السبعينيات، صار العنف ضد المرأة والتمييز الجنسي قضايا حيوية. الأطروحة القائلة بأن الضحايا يسكتن بسبب الخوف والعار باتت تعود لخمسين عامًا مضت، ومنذ نحو 20 سنة تقريبًا لم تعد واقعية. منذ العام 1986 كان لدينا بالفعل جوّ عام يمكِّن النساء وكل ضحايا إساءة المعاملة من التعبير عن أنفسهن، ومن وقتها لم تمر فترة تشريعية دون المزيد من تطوير حقوق الضحايا. عندما تصبح المرأة ضحية، ينبغي عليها أن تصرح عن ذلك. لكن رجاءً، ليس من خلال مثل هذه الحملات وبعد عقود من الزمن».
وقائع محاسبة الاغتصاب والتحرش التي عرفتها السنوات الماضية تدعم آراء الباحثة الألمانية حول تطور البنى القانونية والوعي الاجتماعي في الغرب لمصلحة الضحايا، ما أعطى النساء قدرة على الاحتجاج والرفض دومًا.
ولعل قضية المدير السابق لصندوق النقد الدولي، «دومينيك ستروس»، كانت شديدة الدلالة في هذا السياق، إذ تمكنت عاملة فندق بسيطة من مواجهة هذا المسؤول الدولي الكبير، بعد أن اتهمته بالتحرش بها في الفندق الذي تعمل به في نيويورك، وتعاطفت معها قطاعات اجتماعية واسعة ووسائل إعلامية كبيرة، فضلًا عن أجهزة إنفاذ القانون.
هذه المرأة تتقاطع فيها كل الهويات «الضعيفة»: فهي فقيرة، ملونة، إفريقية، لاجئة، مسلمة. ورغم ذلك استطاعت أن تقول «لا» فور تعرضها للانتهاك. كيف إذًا لم تتمكن نجمات هوليوود، اللاتي كُنّ بالتأكيد في موقع اجتماعي أفضل من هذه العاملة، حتى في بدايات حياتهم المهنية، من الاحتجاج والرفض والمقاومة واللجوء إلى القانون؟
يمكن أيضًا توسيع نقد «صناعة الضحية» التي يجيدها الإعلام الناطق بالإنجليزية، ليشمل القول إن تكريس صورة «المرأة الضحية» سيؤدي بالضرورة إلى تكريس صورة «الرجل المعتدي»، مما يعني عمليًّا توطيد الأدوار الجنسية بدلًا من تفكيكها.
نقدٌ كهذا وجهه أيضًا كتّاب أمريكيون وبريطانيون إلى مفهوم «المساحة الآمنة»، باعتبار أن وجود هذه المساحة سيؤدي تلقائيًّا إلى اعتبار بقية الأماكن «غير آمنة»، وإلى جعل هذا طبيعيًّا، بحيث يمكن أن يُلام في المستقبل أي شخص تعرض للانتهاك خارج «مساحته الآمنة» لأنه تركها وواجه العالم. يذكرنا هذا بالوضع في الدول العربية، حيث تُلام النساء لخروجهن إلى الحيز العام، ما يؤدي إلى التحرش بهن، وفق منطق: «إيه اللي ودّاها هناك؟».
اقرأ ايضًا: شبح «كلام الناس» يطارد النساء في العالم العربي
يبدو أن اليسار الليبرالي المناهض للعنصرية والتحيز الجنسي يعيد إنتاج ممارسات وجغرافيا الفصل العنصري والجنسي من جديد، فتتكاثر تدريجيًّا أماكن ومناسبات فصل البشر على أسس عرقية وجنسية.
أحد الأمثلة على ذلك محاولة مجموعات نسوية «ملونة»، في باريس، إقامة لقاء نسوي يُمنع الرجال والبيض من حضور أجزاء منه، ما دفع عمدة المدينة إلى التهديد بحظر هذا التجمع القائم على أسس عنصرية.
من ناحية أخرى، يتم تحديد ما يُسمح للمرء بقوله والنقاش فيه حسب لونه أو جنسه أو دينه، وأهم مثال على ذلك تخوف عديد من الصحفيين الذكور من إبداء آرائهم في حملة #MeToo الحالية.
من المفيد أيضًا مقارنة قانون «نعم تعني نعم»، الذي أُقر في «ولاية المساحات الآمنة»، بالقانون الألماني «لا تعني لا». فبحسب القانون الأخير، تُعتبر أي ممارسة أو تواصل جنسي مخالفةً للقانون بمجرد أن يبدي أحد الأطراف رفضًا واضحًا.
هنالك فرق شاسع بين القانونين: في الأول، لا تُأخذ قدرة المرأة على المقاومة والرفض بعين الاعتبار، بل ولا تُعتبر مؤهلة دائمًا لتقول «نعم». أما في الثاني، فالمرأة جزء فاعل في عملية التواصل الجنسي وليست ضحيتها، تملك إرادتها الحرة وقادرة على الرفض والمواجهة وفرض الحدود.
صيد الساحرات: ما بعد دولة القانون
«أرى أننا في وسط مطاردة ساحرات، وأعتقد أننا ذاهبون إلى الجنون الكامل في هذا البلد». بهذه الطريقة عبّرت الصحفية جوليا هارتلي بريور، «ضحية» وزير الدفاع البريطاني السالف ذكرها، عن احتجاجها على الضجة التي أثيرت بشأن لمس الوزير لها.
ليست هارتلي بريور الوحيدة التي ذكرت تعبير «صيد الساحرات»، فقد قالها أيضًا المخرج الأمريكي الشهير «وودي آلن». أما في ألمانيا، البلد الذي تقع فيه مدينة بامبرغ، التي شهدت أسوأ وقائع هذا «الصيد» تاريخيًّا، فقد أكسب تكرار هذا التعبير الجدل الدائر طابعًا سوداويًّا.
في عصر «صيد الساحرات»، كان الشهود ضروريين لإتمام المحاكمة. أما في #MeToo، فلا داعي حتى لهذا التفصيل. ولا توجد سابقة قانونية معروفة لهذا الأسلوب من «العدالة».
يشير مصطلح «صيد الساحرات» إلى الهوس الجماعي الذي اجتاح أوروبا في مطلع العصور الحديثة، بتعقب النساء، والرجال أيضًا، واتهامهم بممارسة السحر، ومن ثَمّ إحراقهم بعد تعذيبهم وعقد محاكمات صورية لهم. صار المصطلح يرمز إلى كل عملية اتهام جماعي تتم وسط هياج جماهيري، وتجرف في مسيرتها المذنبين والأبرياء دون تمييز، ودون تثبُّت من الجُرم المزعوم.
«محاكمات موسكو» في الثلاثينيات والمكارثية في الخمسينيات من أهم وقائع «صيد الساحرات» في القرن الماضي.
كثيرون أبدوا دهشتهم من الطريقة التي يحدث بها تجريم المتهمين في حملة #MeToo، فبمجرد أن يُتّهم أحدهم بالتحرش، تُعتَبر التهمة صحيحة والجرم حاصلًا، وتبدأ على الفور عملية عقاب المتهم، دون مراعاة للمبادئ الأبسط للقانون الحديث، أي كون المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته.
قد يهمك أيضًا: #أنا_أيضًا: وماذا بعد الاعتراف؟
في حالة المفكر الإسلامي طارق رمضان، كان مجرد الاتهام سببًا في اضطراره إلى أخذ «إجازة مفتوحة متفق عليها من الطرفين» من جامعة أكسفورد، حيث يعمل، وذلك رغم إنكاره الكامل للتهم الموجهة إليه.
أيًّا كان رأيك في رمضان والطريقة التي نال بها درجته العلمية ومركزه في الجامعة العريقة، فإن الأسلوب الذي تم به التعامل معه مثير للدهشة فعلًا.
يذكرنا هذا بما قاله المفكر الفرنسي «ميشيل فوكو» في كتابه «المراقبة والمعاقبة» عن أسلوب العقوبة في عصور ما قبل التنوير، حين كانت إجراءات الاتهام والمحاكمة نفسها جزءًا من العقوبة: يُعذّب المتهم في السجن، وفي الطريق إلى المحكمة، وداخلها، حتى لو ثبتت براءته في ما بعد (وهذا نادر الحدوث)، فالاشتباه والتقاضي في حد ذاتهما كافيان لانتهاك جسد المتهم وطبع وَسْم السلطة عليه.
إلا أن بعض الناس لاحظ أنه حتى في عصر «صيد الساحرات»، كان وجود الشهود ضروريًّا لإتمام المحاكمة الصورية. أما في #MeToo، فلا داعي حتى لهذا التفصيل. في الحقيقة، لا توجد سابقة قانونية معروفة لهذا الأسلوب من «العدالة».
يُعطي أسلوب الحملة انطباعًا بأننا أمام حالة مما يسمى «عدالة الحشود»، وهو الشكل الأكثر بدائيةً للتعامل الإنساني مع مفهوم العدالة. وفيه يتحرك حشد من البشر ككيان واحد لا عقل له، من أجل اتهام شخص وإدانته وتنفيذ الحكم عليه في اللحظة نفسها. عدالة الحشود في يومنا تجري بواسطة أحدث وسائل التقنية والاتصالات، وهذا أحد التناقضات الشهيرة للعولمة: قمة البدائية تجتمع مع قمة التكنولوجيا.
اللافت أيضًا أن الدولة لم تعُد من ينفذ الأحكام، بل مؤسسات «مستقلة»، مثل وسائل الإعلام والجامعات وشركات الإنتاج.
كذلك، لم تعُد إجراءات التقاضي الرسمية ذات أهمية في التعاطي مع الموضوع. نزعُ سلطات العدالة من أيدي أجهزة إنفاذ القانون وإعطاؤها إلى «سلطات اجتماعية» أخرى، مثل جمهور وسائل التواصل الاجتماعي ومؤسسات رأس المال، تطور خطير بكل المعايير.
ربما نكون اليوم نشهد، بعد اضمحلال «دولة الرفاه» ثم «الدولة الوطنية» في عصر العولمة، مرحلة جديدة هي اضمحلال «دولة القانون» ذاتها.
أثر «ترامب وحمامات المتحولين»: التقدم إلى الوراء
نسبة عالية من الشباب والمراهقين الأمريكيين يناصرون التوزيع التقليدي للأدوار الجندرية، ويؤيدون بقاء النساء في المنزل وتفرغ الرجال للعمل.
بالعودة إلى آراء مونيكا فروميل، فإن حملة #MeToo تتبع آليات الحشد الشعبوي، ولذلك فليس من الغريب أنها انطلقت وازدهرت في البلدين الناطقين بالإنجليزية، اللذين شهدا انتصارات انتخابية حاسمة لليمين الشعبوي: بريطانيا بريكست، وأمريكا دونالد ترامب.
فعكس دول أوروبا القارية، التي لم ينجح اليمين فيها في تحقيق نتائج حاسمة والوصول إلى الحكم، برغم تقدمه الانتخابي الواضح، أظهر بلدا «التعددية الثقافية» واليسار الليبرالي المسيطر على الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني، ضعفًا واضحًا أمام الشعبوية، وكأن هناك تناسبًا طرديًّا بين عُلو صوت شعارات الليبراليين الجدد وتقدم وانتصار الشعبوية. ربما كانت «سياسات الهوية» التي يشترك فيها الطرفان العامل الأساسي في هذا التناسب.
في الوقت الذي كان اليسار الليبرالي الأمريكي يبدو فيه منتصرًا وواثقًا من نفسه، لدرجة انشغاله بمناقشة تفاصيل مثل حق المتحولين جنسيًّا في دخول حمامات جنسهم الجديد، نجح ملياردير مغامر، متهم بالتحرش والعنصرية والفساد، في الوصول إلى سُدة الحكم. في حين لم تؤدِّ حوادث كبرى مثل هجمات باريس ونيس في فرنسا، أو أزمة اللاجئين في ألمانيا، إلى استلام اليمين الشعبوي للحكم في هذين البلدين. هذا تناقض جدير بالدراسة.
اقرأ أيضًا: لماذا يحصد الجوائز فنانون متهمون بالإساءة إلى المرأة؟
توضح دراسة أُجريت على طلاب المرحلة الثانوية في أمريكا أن نسبة عالية منهم يناصرون التوزيع التقليدي للأدوار الجندرية، ويؤيدون بقاء النساء في المنزل وتفرغ الرجال للعمل، في حين تنخفض هذه النسبة بوضوح في دول أوروبا القارية.
تُرجع الدراسة جانبًا من الأسباب إلى غياب شبكة الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة. وهذا يذكرنا بنقد شهير يوجه عادة إلى الحركة النسوية المعاصرة وغيرها من حركات «سياسات الهوية»: إهمال الجانب الطبقي والاجتماعي لمصلحة العوامل الثقافية والهوياتية. #MeToo لن تحقق الكثير للمرأة في بلد تضطر فيه النساء إلى البقاء في المنزل بسبب ضعف الميزات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، اللهم إلا زيادة جو التزمت والتطهرية المنافقة.
هذا التقاطع بين الهوياتية الشمولية والموقف التطهري فكريًّا واجتماعيًّا من جهة، والتخلي عن «دولة الرفاه» كما عن «دولة القانون» من جهة أخرى، من الصعب اعتباره موقفًا «تقدميًّا»، إلا إذا كان المعنى هو التقدم «إلى الخلف».
وبعيدًا عن أمريكا وبريطانيا وأوروبا وبقية الدول، قد يكون لهذا الجدل تأثيرات متناقضة في المنطقة العربية، فهو ربما يُسهِم في رفع الوعي العام بخصوص التحرش، وربما يؤدي على العكس إلى دعم حُجج المحافظين حول الفصل الجنسي، فضلًا عن مزيد من تطبيع التحرش، على اعتبار أنه حتى في أكثر الدول تقدمًا تقع النساء ضحايا لا حول لهن ولا قوة أمام الرجال المفترسين.
لا بد من القول إنه في بلدان تعاني فيها النساء لمجرد الخروج إلى الحيز العام، ولديها أسوأ القوانين في مجال الأحوال الشخصية وحقوق المرأة، وتعمل فيها الجمعيات النسوية تحت أسوأ الظروف، يبدو كل هذا السجال عن «الحرية الجنسية» و«الحيز العام» و«دولة القانون» أمرًا نظريًّا، لكنه ضروري لتوضيح المفاهيم في عالم يزداد تواصلًا واضطرابًا في الآن ذاته.