بينما أصدقاؤه يتسامرون في حفل سيمتد حتى الصباح، كان هو مستلقيًا على الأريكة في غرفة المعيشة وفي يده رواية جديدة وأمامه كوب الشاي الساخن. كان وحده تمامًا غير أنه لم يشعر بملل، وبينما أحس بعض أصدقائه بالشفقة تجاهه أو ظنوه متعجرفًا أو جادًّا أكثر من اللازم، شعر هو أن خُلوته تحقق له إشباعًا لا يفهمونه.
لماذا لا يقبل المجتمع أن نؤدي الأنشطة الحياتية المختلفة وحدنا؟ ولماذا يُفترض دومًا أن الناس لا يرغبون في أن يكونوا بمفردهم؟ تتساءل «كريستينا لينج» (Christina Ling)، في مقالها على موقع Medium، وتجيب...
قد نفضِّل الخُلوة أحيانًا
الإنسان كائن اجتماعي، والأصل أننا نميل لأن نكون مع الآخرين، ونسطَع أكثر من خلال العمل الجماعي، ونرغب في أن يشاركنا الآخرون تجاربنا، فالاختلاط والحوار هما السبيل لتكوين الصداقات وتطوير المهارات، وفق لينج.
لذا يتعجب البعض من رغبة شخص في أداء عمل معين منفردًا، فالمجتمع ينظر لأنشطةٍ كتناول الطعام خارج المنزل والذهاب للسينما باعتبارها اجتماعية بالأساس، غير أن ممارسة الناس بعض مظاهر حياتهم منفردين لا تعني بالضرورة أنهم بلا أصدقاء، وحتمًا قد يتسلل إليهم الشعور بالوحدة في بعض الأوقات، لكن ذلك لا يعني أبدًا أن وضعهم يثير الشفقة أو أنهم غريبو الأطوار.
لا تحاصرني بنظراتك
من حق أي شخص ألَّا تكون لديه رغبة مستمرة في الاختلاط بالآخرين، فلماذا يجد أحدنا نفسه ملاحَقًا بنظرات الناس إذا تجول في الأسواق وحيدًا أو تناول وجبته المفضلة دون رفقة؟
إن الحياة العصرية تقذف في وجوهنا بالكثير من المثيرات ومصادر الإرباك، كما أننا نخالط أشخاصًا كثيرين يوميًّا شئنا أم أبينا، والأمر مرهق للأعصاب سواء كنا أشخاصًا مُنطوين أو منفتحين، فكلنا في حاجة إلى وقت لا ينازعنا فيه أحد.
مَن قال إن الوقت الذي نقضيه وحدنا ينبغي أن يكون خلف جدران المنزل؟ ولماذا يقبل الناس أن نكون وحيدين ما دمنا نختبئ في الداخل ولسنا في الخارج حيث أماكن التنزُّه والسهر؟ لا شك أن قضاء وقت على الشاطئ أو تناول مشروب على المقهى دون صحبة له متعته الخاصة كذلك.
تضيف لينج أننا عادة نُسقط ميولنا وأفكارنا، خاصةً السلبية منها، على الآخرين (أي نُلصق عيوبنا بالآخرين، كأن يرى الكذاب كل الناس كذابين)، ومن هنا نعرف أن أكثر الأشخاص رفضًا لأداء أي أنشطة وحدهم هم الأقل قدرة على الانفراد بأنفسهم والاستماع لصوت عقولهم، إنهم أشخاص يتنقلون في جنبات الحياة من ملهاة إلى أخرى.
اقرأ أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
في الخلوة غذاء للروح.. وحرية
ترى الكاتبة أن انفرادك بعقلك أحد أفضل السبل لتغذية روحك، فالخلوة تعيد شحذ أرواحنا لكي نمسك بزمام أمورنا ونهرب من زحام التزاماتنا ومواعيدنا. ويمكننا إذ نختلي بأنفسنا أن نفكر أو نبحث عن ذواتنا، كما أن القراءة المتعمقة والاستمتاع بالطبيعة والاستجمام كلها أمور تتطلَّب الانعزال عن الناس.
إن أداءك أي نشاط وحدك يمنحك الحرية في ترتيب وقتك والانغماس فيما يسعدك، فيمكنك مثلًا أن تمضي ساعة كاملة في قياس ملابس جديدة في المتجر دون أن ينتظرك أحدهم في الخارج متطلعًا إلى ساعته، وبمقدورك أن تُنهي جولتك في متحف وجدته مملًّا على وجه السرعة دون أن تخشى غضب أحد، وباستطاعتك أن تتوقف لالتقاط الصور متى شئت وأن تعيد التقاطها مرات ومرات، كما إن بإمكانك أن تستمع لمقطوعة موسيقية بكل حواسك دون مقاطعة.
قد يعجبك أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
حقق هدفك، حتى ولو وحدك
أداؤك أي نشاط وحدك يخلصك من شعور ثقيل بأن الجميع يراقبونك.
إذا رغبت أن تقوم بشيء فلا تجعل فكرة أدائه منفردًا تقف عائقًا أمام قرارك، لأن تحقيق غايتك هنا هو الأهم. لو أردت أن تذهب إلى السينما لتشاهد فيلمًا ولم تجد صديقًا متاحًا فلا تفوِّت الفرصة واحجز تذكرتك، وكذا لو أردت أن تمارس الرياضة فاذهب إلى النادي ولا تنتظر أن يُفسح الآخرون أوقاتهم لك.
تذكُر لينج أنها كانت في زيارة لفرنسا حين قضت سهرة في ملهى ليلي، وهناك لاحظت كثيرًا من الأشخاص بمفردهم دون صحبة، ومع هذا كانوا يستمتعون بأوقاتهم ولا يتعجب أحد من كونهم وحدهم، ممَّا أعطاها انطباعًا بأن الثقافة المجتمعية والنظرة للأشخاص قد تختلف من بلد لآخر.
قد يهمك أيضًا: لماذا يجب عليك التخلص من معظم أصدقائك؟
تؤكد كاتبة المقال أن هدفها ليس تشويه صورة الناس الذين لا يفضلون الوحدة، أو أن تُظهرهم كأشخاص تافهين، بل إن العبرة في النهاية بتحقيق الإشباع عن طريق ممارسة نشاط معين نحبُّه دون تأجيل.
انتهز الفرص، ولا تشغل بالك بهؤلاء الذين يصِمُونك بأنك «وحداني»، فقيامك بأي نشاط وحدك سيخلصك من شعورك الثقيل بأن الجميع يراقبونك، ويمنحك ثقة أكبر للخروج إلى الأماكن العامة، لأن الخروج وحيدًا يتطلب حتمًا درجةً من الثقة ينبغي أن تفخر بها.
الوحدة الحقيقية هي أن تكون بمفردك وسط «أحبابك»، حين تشعر أن وجودك معهم كعدمه، أما الاختلاء بالنفس فوسيلة يستخدمها كثيرون لاكتشاف ذواتهم والتواصل معها وسط زحام الحياة، أو هو رغبتهم في أن يتحرروا من كل القيود فيحلِّقوا بعيدًا دون قيد أو رقابة.