ثلاثة كتب في حياة نجيب محفوظ، كان يبدأ بها يومه، صارت طقسًا يوميًّا ثابتًا لديه. يقرأ بعض الآيات من القرآن، ثم قصائد عادةً تكون من الشعر الفارسي، أو لطاغور، أحد شعرائه المفضلين. وقبل خروجه مباشرة، كان يضع في مدخل البيت كتابًا في الفن التشكيلي، حيث يقف لنصف ساعة متأملًا لوحة واحدة يختارها كل يوم. وحسب ابنته أم كلثوم، كان الفن الانطباعي الأقرب لديه، وكان عاشقًا لأعمال «كلود مونيه» الرسام الفرنسي الشهير.
كان محفوظ قارئًا نهمًا لدرجة أن وَصَفه صديقه محمد عفيفي بأنه يستحق جائزة الدولة في القراءة. وعلى الرغم من توقفه عن الكتابة مجبرًا في أشهر الصيف، بسبب مرض حساسية العين، فإنه لم يكن يتوقف عن القراءة، لكن في موضوعات مختلفة عما يقرأه في بقية الشهور. كان يعود إلى قراءات الطفولة، وتحديدًا الروايات البوليسية، وبخاصة «أغاثا كريستي» و«ألفريد هيتشكوك».
ذات يوم التقاه أحد أصدقائه حاملًا روايات كريستي، فسأله ساخرًا: «هل تقرأ هذا النوع من الروايات؟»، أجابه محفوظ: «لا، لقد أحضرتها لابنتي». كان محفوظ صادقًا، فقد كان يشارك ابنتيه في قراءة هذه الرواية البوليسية التي كان مولعًا بها منذ الطفولة، بل هي التي قادته إلى عوالم الكتابة، أو ما أسماه «أبواب السحر ومدائن الغرائب».
يقول محفوظ لجمال الغيطاني في كتاب «المجالس المحفوظية»: أعطاني صديق رواية بوليسية، وكانت خارج المقرر الدراسي. منذ هذا اليوم لم أتوقف عن القراءة. منذ صغري كنت أقرأ ما يكتبه حافظ نجيب، وكان (حرامي مثقف) وعربيدًا دَوَّخ الحكومة، وأصبح أشهر مؤلف قصص بوليسية، ومن أشهر مؤلفاته «جونسون» و«ميلتون ويب».
هذه السلاسل كانت بديلًا عن كتب الأطفال، ثم توصلت بعد ذلك إلى سلاسل أخرى. وعن طريق كتب الأهرام المترجمة بدأت دائرة قراءتي تتسع، فكنت أتابع إعلانات هذه الكتب بالجريدة، وأسارع إلى شرائها، ولم أعد بحاجة لاستعارة الكتب من صديقي العزيز يحيى صقر (زميل محفوظ في المدرسة، وزميله في فريق كرة القدم أيضًا).
غرام محفوظ بالقصص البوليسية هو الذى قاده أيضًا إلى السينما كاتبًا للسيناريو. وكان أول أفلامه: «المنتقم» 1947 عن قصة خُط الصعيد، والثاني «ريا وسكينة» عن قصة السفاحتين الشهيرتين، ثم «جعلونى مجرمًا»، و«الوحش»، وغيرها من أفلامه الأولى التي يبدو فيها ولعه بالجريمة، إضافة إلى رواياته التي الخط البوليسي يبدو في كثير منها واضحًا، ومنها «اللص والكلاب».
عندما انتقل محفوظ إلى العباسية عام 1923 بدأ في تكوين مكتبته الخاصة، وكانت البداية بكتب مصطفى لطفي المنفلوطي.
ولد نجيب محفوظ عام 1911 في بيت لم يكن فيه مكتبة. كان والده، حسب وصف محفوظ، رجلا «مستقيمًا» منتميًا لإحدى الطرق الصوفية، وعمل مديرًا لمدرسة في النحاسين، ثم مديرًا لشركة النحاس المطروق، وفي ما بعد استقال من عمله، وتفرغ للعمل الحر في «الفابريكا» الحسينية، ولم يكن مهتمًّا بالقراءة. كان يحتفظ في البيت بكتاب واحد هو «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي الذي كان صديقًا شخصيًّا له، وأهداه نسخة من هذا الكتاب.
كانت والدته لا تقرأ، لكن والدها مصطفى محمد قشيشة، جد محفوظ، كان شيخًا أزهريًّا له كتاب في النحو طُبِع في المطبعة الأهلية، وكان من كبار محققي التراث في القرن التاسع عشر، وترك ثماني مخطوطات في تحقيق التراث، منها: «عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة» لابن هذيل علي بن عبد الرحمن بن هذيل، و«مختصر الفوائد المكية في المسائل والضوابط والقواعد الكلية» لعلوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقَّاف شيخ السادة العلوية بمكة. وربما لم يلتق محفوظ بجده، وربما لم تعرف والدته سوى كتاب النحو.
لكن المدهش أن محفوظ استخدم اسم جده في واحدة من قصص البدايات: «مأساة الغرور» (المجلة الجديدة - 19 إبريل 1934)، عن تلميذين في مدرسة فؤاد الأول (التي كان يدرس بها) الأول مصطفى قشيشة (الذي يستخدمه محفوظ قناعًا له)، والثاني محمد عبد القادر، المجتهد الذي يخدع زملاءه بأنه غني، وعندما يكتشفون ذلك يفكر في الانتحار.
معظم عناوين الكتب التي تضمها مكتبة العباسية، في التاريخ والتراث والفلسفة، والنادر منها في الأدب.
عندما انتقل محفوظ إلى العباسية عام 1923 تقريبًا، بدأ في تكوين مكتبته الخاصة، وكانت البداية بكتب مصطفى لطفي المنفلوطي. كتب محفوظ رسالة إلى المنفلوطي نشرتها مجلة «الوسط» اللندنية عام 1994:
«كنت متجهًا إلى العلم، وذلك لتفوقي في الرياضيات، إلا أنك جعلتني أُولي الكتابة أهمية لم أفطن لها من قبل، وغيرت أحلامي بعد أن كانت تنحصر في الهندسة والطب، فإذا بي أصبح كاتبًا. وهذا التحول أنا مدين به لك، أيها الكاتب الكبير».
يكشف محفوظ في رسالته عن ما بعد القراءة الأولى: «بفضلك بدأت أقرأ العقاد وطه حسين وسلامة موسى وآخرين، وتلاحظ كم حدد هؤلاء نوعية اختياراتي في الكتابة. لكن الفكر يطغى في نتاجهم على الإبداع الأدبي. ولعل قراءاتي المبكرة لكتبك هي السبب المباشر الذي وجهني إلى دراسة الفلسفة. ومر وقت طويل نسبيًّا قبل أن أفهم أن ميلي الحقيقي إلى الكتابة الأدبية وليس إلى الفكر. وأتذكر الآن بين كتاباتك نصًّا كان بالنسبة إليَّ بمثابة الموجِّه الرئيسي، هو مقدمة أحد كتبك: العبرات أو النظرات، حيث كتبت في المقدمة عن فن الكتابة وقيمته».
ويضيف: «قرأتُ كل ما كتبت، فهديتني إلى الطريق على المستوى الشخصي، وجدت فيك نفسي بلا شك، وهيأتَ لي أكبر متعة عرفتها في حياتي، وأكبر تقدير كان نصيبي منها. الغريب أنني لمَّا دخلت عالم الكتابة، لم أكن امتدادًا لرومانسيتك، بل نقيض لها. لكن الشعلة كانت تستمد منك زخمها وتأججها.
وأتذكر الآن أني ظللت، مدة طويلة بعد رحيلك، أحسبك لا تزال بيننا، حتى عرفت ذات مرة عن طريق المصادفة أنك مت في يوم الاعتداء على سعد باشا زغلول، فكان النبأ بالنسبة إليَّ بمثابة صدمة كبيرة. وأعترف لك بأن صورة كبيرة لك كانت معلقة على حائط غرفتي. وأذكر أنني قرأت مقالة حادة وعنيفة للمازني يهاجم فيها المنفلوطي وطريقته وأسلوبه، فآلمتني لدرجة أنني لم أذق طعم النوم تلك الليلة».
قد يهمك أيضًا: في مكتبة يوسف إدريس: عقل يقظ لا يحب الأبواب المغلقة
معظم عناوين الكتب التي تضمها مكتبة العباسية، في التاريخ والتراث والفلسفة، والنادر منها في الأدب. نجد طبعة قديمة من «رحلة ابن بطوطة» كتب عليها محفوظ اسمه، و«الكامل» للمبرد و«الأمالي» لأبي على القالي، و«رسالة الغفران»، و«سيرة ابن هشام» وغيرها. في تلك الفترة كانت الاستعارة من المكتبات العامة هي الأساس، لا اقتناء الكتب.
تبرعت أسرة محفوظ بنحو ألف و805 كتاب إلى «صندوق التنمية الثقافية» من أجل متحف محفوظ، منها نسخ لأعماله في عدة لغات.
فكان محفوظ يتردد على دار الكتب والوثائق ومكتبة جامعة القاهرة طلبًا لاستعاره ما لا يستطيع أن يشتريه، وكان من حظه أيضًا أنه عمل بعد فترة من تخرجه في الجامعة أمينًا لمكتبة الغوري.
وكانت هذه الوظيفة نوعًا من العقاب بعد أن رحل الشيخ علي عبد الرازق، وزير الأوقاف، إذ رأى الوزير الجديد أن محفوظ ينتمى إلى حزب «الأحرار الدستوريين»، فعاقبه بإرساله إلى المكتبة. واكتشف محفوظ ما فيه من نعمة لأنه استطاع أن يقرأ كتبًا مهمة، منها رواية «مارسيل بروست» «البحث عن الزمن المفقود».
يقول لرجاء النقاش في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»: «كنت سعيدًا بالعمل في المكتبة، فمن يعمل فيها لا يتذكره أحد بعدها، وتكون بذلك فرصة لي لكي أعمل وسط الكتب، مثل مدير المكتبة حسن السندوبي الذي لم يكن يفعل شيئًا سوى القراءة والتأليف، وأظنه أصدر شرحًا وتحقيقًا لديوان المتنبي». لم يمض وقت طويل على هذه «النعمة» حتى أعاده مدير الشؤون الدينية الشيخ سيد زهران، مديرًا لمكتبه، وقال له: «نحن الوفديين لا نضطهد الآخرين»، ورد محفوظ: «إذا كان العمل في المكتبة ظلمًا، فليحيا الظلم».
بعد زواج محفوظ، عاش عامًا كاملًا في «عوامة» على النيل، ثم انتقل إلى شقة العجوزة التي أصبح له فيها حجرة مستقلة «مكتبة»، ولكن الكتب زحفت لتحتل جزءًا من الصالة، ثم جمع ما لا يحتاجه منها في صناديق ووضعها في بلكونة المنزل.
في مكتبة «العجوزة» يمكننا الاطلاع على كتب في كل المجالات: 90% منها اشتراها محفوظ، والنسبة المتبقية إهداءات من أصحابها. وفي ما بعد، تبرعت الأسرة بنحو ألف و805 كتب إلى «صندوق التنمية الثقافية» من أجل متحف محفوظ، منها نسخ من أعمال محفوظ نفسه في عدة لغات، ويتبقى في مكتبة المنزل مئات الكتب الأخرى.
قد يعجبك أيضًا: في مكتبة صلاح جاهين: الرجل الذي أراد أن يكون عصفورًا
عندما نتصفح عناوين الكتب المهداة إلى المتحف «الموقوف»، سنجد عددًا من الكتب بالإنجليزية التي كان يجيدها محفوظ، ويبلغ اهتمامه مداه بأعمال «جيمس جويس»، سواء بالإنجليزية أو ما تُرجِم أو ما كتب عنه من دراسات، وأعمال «صامويل بيكيت» ( كل أعماله المسرحية لدى محفوظ)، وبعض أعمال «كافكا» و«فرجينيا وولف» و«كلود سيمون» و«ميشيل بوتور» و«نتالي ساروت» و«جان كوكتو» و«جان جينيه» و«جون أوزبورن» و«يوجين أونيل» و«جان كرواك» و«إدوارد ألبي»، والرواية الفرنسية الجديدة.
وهناك أيضًا أعمال «مارسيل بروست» و«تشارلز ديكنز» و«توماس مان»، والترجمة الإنجليزية لأعمال «دوستويفسكي» و«تشيخوف» و«تولستوي»، وأسماء أخرى سابقة تبدأ بـ«شكسبير» مرورًا بـ«ديكينز»، ولا تنتهي بأحدث الموضات الأدبية في ستينيات القرن العشرين، والتي يبدو أن محفوظ كان متابعًا لها أولًا بأول، وهو ما يكشف عنه تواريخ نشر هذه الأعمال لأن محفوظ يحتفظ بطبعاتها الأولى.
أول كتاب قرأه محفوظ كان عن تاريخ الفن، كان بعنوان «Outline of Art»، ويحكي تاريخ الفن التشكيلي من الفراعنة حتى بيكاسو.
يحظى المسرح بمساحة كبيرة في مكتبة محفوظ، وتحديدًا المسرح الأمريكي المعاصر، ومسرح العبث. وتوجد كتب عن الدراما اليونانية، والإغريقية، إضافة إلى مسرحيات أحمد شوقي وصلاح عبد الصبور وألفريد فرج، وترجمات «يوجين يونيسكو» و«يوجين أونيل»، وتوجد كتب عن آداب الهند وأمريكا الجنوبية والصين وغيرها.
تحتل «الموسوعة البريطانية» (طبعة 1965) مكانة متميزة في المكتبة، والتي كان يرى محفوظ أن مجرد القراءة فيها «رحلة مضمونة القيمة»، ويصفها بـ«أرض معتدلة تقدم لك معلومات أولية تعصمك من الانحراف عندما تبدأ في قراءات متصارعة». توجد الموسوعة الإسلامية وموسوعة الفنون (Encyclopedia of the Arts) (طبعة 1946)، وهي إحدى الموسوعات الفنية التي كان يطالعها يوميًّا، وهناك عشرات الكتب المتعلقة بالفن التشكيلي، وتحديدًا أعمال ثروت عكاشة.
اهتمام محفوظ بالفن التشكيلي بدأ مبكرًا في أواخر العشرينيات، عندما قرأ مقالًا لعباس العقاد عن الفنان المصري محمود سعيد الذي ترك القضاء من أجل الفن. وفي المقال أكد العقاد ضرورة أن يُلِم المبدع في أي مجال، بالمجالات الأخري، فاستجاب محفوظ لنصيحة العقاد، وبدأ التردد على معارض الفن التشكيلي ليكون مُلمًّا بالفنون الأخرى.
وأول كتاب قرأه محفوظ كان عن تاريخ الفن، كان بعنوان «Outline of Art»، ويحكي تاريخ الفن التشكيلي من الفراعنة حتى بيكاسو. يقول محفوظ: «أذكر أنني مع صباح كل يوم جديد أفتح الكتاب على لوحة فنية جديدة تكون لوحة يومي هذا. أقرأ كل شيء عنها وعن الفنان الذي أبدعها. ففي يوم تكون لوحتي هي الطاحونة الحمراء لتولوز لوتريك، وفي يوم آخر تكون زهور عباد الشمس لفان غوخ، أو حاملات القرابين من معبد حتشبسوت».
امتد تأثير الفن التشكيلي إلى أعمال محفوظ الروائية. فرواية «الشحاذ» تبدأ بوصف لوحة معلقة على جدران عيادة الطبيب الذي يذهب لاستشارته عمر الحمزاوي. يظهر من الوصف أن محفوظ يتمتع بحس تشكيلي عالٍ. يرسم لوحته، لكن بالكلمات: أبقار، وطفل يمتطي جوادًا خشبيًّا، وأفق ينطبق على الأرض، كأننا في سجن لانهائي، ورغبة في الطيران والانعتاق. اللوحة/المفتتح تتوزع تفصيلاتها في ما بعد، بدقة وعناية في كثير من مَشاهد الرواية. لذا هي أشبه ما تكون بالرواية، مضغوطة في جملة أو في لوحة.
يحتفظ محفوظ في مكتبته بكل أعمال فتحي رضوان وهيكل وحسين عفيفي ويحيى حقي.
تحتل كتب التراث مكانة متميزة لدى محفوظ. إذ نجد «السيرة النبوية» لابن هشام، و«الطبقات الكبير» لابن سعد، و«تاريخ الأمم والملوك» للطبري، و«البيان والتبيين» للجاحظ، و«رسالة الغفران» للمعري، و«حي بن يقظان»، و«الشاهنامة»، و«الأغاني» للأصفهاني، وغيرها.
في الفلسفة وعلم النفس، نجد أعمالًا عدة عن التركيبات النفسية للأشخاص وعلم النفس السلوكي، منها كتاب «The Psychology Of Character» الصادر عام 1928، إضافة إلى كل مؤلفات «فرويد». ويحظى «برتراند راسل» بمكانة خاصة لدى محفوظ، وكذلك «ديكارت».
من الأدب العربي الحديث، يحتفظ محفوظ في مكتبته بكل أعمال فتحي رضوان ومحمد حسنين هيكل وحسين عفيفي ويحيى حقي. ونجد أعمالًا لجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ويوسف القعيد وأدونيس وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور ومحمود الورداني وسعد الدين وهبة و نعمان عاشور وعبده جبير.
اقرأ أيضًا: مكتبة لطفي الخولي: هيكل ونجيب محفوظ وسارتر.. أشخاصًا وإهداءات
تحظى كتب التاريخ بمكانة خاصة لدى محفوظ، بل التاريخ هو مجاله المفضل، حسبما قال في برنامج «زيارة لمكتبة فلان» أوائل الثمانينيات. أوضح سبب تفضيله لها قائلًا: «تعالج التاريخ كأنه تاريخ أسرةٍ واحدةٍ هي البشر»، مشيرًا إلى كتابات «وول ديورانت» و«أرنولد توينبي» و«هـ.ج.ويلز». ويُفضل أن يقرأ في تاريخ تطور الأرض والإنسان في العصور السحيقة، مضيفًا أنه يفضل قراءة الكتب العلمية التي تبسط المفاهيم المُعقدة للقارئ العام. ربما من هنا يمكن أن نفهم أحد أسرار روايته العظيمة «أولاد حارتنا» التي كانت تؤرخ للإنسانية وآلامها وطموحاتها.
يحتفظ محفوظ بكل أعمال توفيق الحكيم الذي كان يراه «محيطًا» بينما يرى نفسه مجرد «جدول» صغير، بينما الحكيم يرى أن محفوظ «سيد الكتابة الروائية العربية، ومؤرخ التحولات الاجتماعية والسياسية في تاريخ مصر». وكتب إهداءً على أحد كتبه لمحفوظ. كانت مسرحية «أهل الكهف»، ورواية «عودة الروح» للحكيم، الأقرب إلى قلب محفوظ، وكان تأثيرهما فيه ضخمًا، فالزمن هو البطل في «أهل الكهف»، وهو الثيمة الرئيسية في أعمال محفوظ أيضًا.
كان محفوظ يضع على مكتبه في أثناء العمل، ثمانية عشر كتابًا في النحو وعلم اللغة والترقيم، لأنه يرى اللغة «عِدة» الروائي الأساسية.
وتوجد في مكتبة محفوظ صينية من الفضة أهداها إليه الحكيم في عيد ميلاده الخمسين «من حر ماله»، الأمر الذي رآه محمد حسنين هيكل «معجزة» كما جاء في عنوان الخبر في الأهرام. شكر محفوظ الحكيم على معجزته التي لن تتكرر، لأن «الحكيم فنان عظيم لا يكرر نفسه أبدًا».
ورغم هذه المداعبات بين الكاتبين الكبيرين، فإن الحكيم فاجأ محفوظ مرة أخرى بمعجزة جديدة عندما أهداه في عيد ميلاده السبعين (1981) «قلمين حبر» احتفظ بهما محفوظ في مكان بارز بالمكتبة مع «صينية الفضة».
قد يهمك أيضًا: في مكتبة علاء الديب: رشفة أخيرة من «عصير الكتب»
يصعب سرد عناوين ما تبرعت به أسرة محفوظ للمتحف. لكن الأسرة احتفظت بمئات الكتب الأخرى، من بينها أعمال صلاح جاهين التي حرص نجيب محفوظ على تجليدها، ونقش اسمه بجوار اسم جاهين على المجلد. كتب جاهين على نسخة من دواوينه الكاملة إهداء إلى محفوظ: «إلى مرآة عصرنا الأديب العظيم الأستاذ نجيب محفوظ، مع حبي».
وكتب لويس عوض: «هدية للصديق العزيز نجيب محفوظ، رمز مودتي وتقديري». ويكتب غالي شكري، صاحب أول كتاب نقدي عن محفوظ بعنوان «المنتمي»، على صفحات كتابه الأول الإهداء نفسه، ويكتب سلامة موسى إهداء كتابه «أزمة الضمير العربي»: «إلى الفنان الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، مع تحياتي وتقديري»، ويكتب عبد الواحد القاضي على كتابه «الثورات المصرية»: «إلى الأستاذ الكبير نجيب محفوظ.. تقديرًا واحترامًا».
كان محفوظ يضع على مكتبه في أثناء العمل، ثمانية عشر كتابًا في النحو وعلم اللغة والترقيم، فهو يرى اللغة «عِدة» الروائي الأساسية، ويقول: «إذا لم يحب الأديب اللغة.. فماذا يحب؟»، وذلك في حوار له مع مجلة «المصور»، عقب فوزه بجائزة نوبل.
لم يكتف محفوظ بكتب النحو، بل أعد بنفسه كشكولًا كتب فيه قواعد النحو، كان يلجأ إليه بين الحين والآخر، وأعد كشكولًا آخر يضم مختاراته الشعرية التي كان يراها تدريبات على اللغة، وأحيانًا تدريبات للذاكرة على عدم النسيان. كان يراجع هذا الكشكول بين الحين والآخر. إضافة إلى عدة كشاكيل يكتب فيها ملاحظاته السياسية على الراهن، وكان يستخدمها في ما بعد كأفكار للمقالات التي يكتبها.