غريزلدا بلانكو: الأم الروحية للكوكايين

مشهد من فيلم «Cocaine Godmother» - الصورة: Asylum Entertainment

مصطفى شلش
نشر في 2018/04/04

«وأخيرًا، أصبحت حرة». هكذا ينتهي فيلم «Cocaine Godmother»، بطولة «كاثرين زيتا جونز» و«جيني بيليسر»، إخراج «غيليرمو نافارو».

الفيلم سيرة ذاتية عن مهربة المخدرات الكولومبية «غريزلدا بلانكو»، التي لُقبت بـ«الأم الروحية» في عالم تجارة المخدرات، فقد كانت مسؤولة عن تهريب المخدرات وتبييض الأموال في أمريكا لصالح «بابلو إسكوبار»، بارون المخدرات الكولومبي الشهير.

غريزلدا صنعت أسطورة عن نفسها، ليس عن طريق وحشيتها التي اشتهرت بها وحسب، وإنما بطرقها المبتكَرة في التهريب أيضًا. وألهمت قصة حياتها صُنَّاع السينما ليقتبسوا بعض الأساطير التي تحكى عنها، مثلما حدث في فيلم «Scarface» بطولة آل باتشينو.

غريزلدا بلانكو.. ما حقيقتها؟ وهل استطاع الفيلم أن يقترب من حياتها؟ سنحاول معرفة هذا عن طريق قراءة حياتها بشكل غير تبريري، ولا حاد، ولا يقطع بفساد الإنسان في الوقت ذاته.

حقيقة «الأرملة السوداء»

غريزلدا بلانكو - الصورة: Metro Dade Police Department

وُلِدَت غريزلدا بلانكو في مدينة وميناء بحري كولومبي يدعى «كارتاخينا دي اندياس» في 15 فبراير 1943، وانتقلت مع والدتها إلى مدينة مديلين، ثاني أكبر المدن الكولومبية، وسنها ثلاث سنوات.

لم تكن طفولتها هادئة، فعندما كان عمرها 11 عامًا، اختطفت صبيًّا واحتجزته للحصول على فدية، فقد كان الصبي من أحد الأحياء الأكثر رقيًّا، وظنت أن أهله سيدفعون فدية لاستعادته، لكن هذا لم يَسِر وفقًا للخطة، إذ رفضت عائلته دفع المبلغ . وبعد بضعة أيام، انهارت مفاوضتها مع أهل الصبي، فأطلقت النار على رأسه وتركته في الشارع.

ابتكرت غريزلدا طرقًا لقتل منافسيها، منها استخدام الدرجات النارية، إذ يتولى فرد القيادة والآخر يطلق النار، وهذه الطريقة تستخدمها الجماعات الإرهابية حتى الآن.

في سن 14 عامًا، هربت من منزل أمها بسبب الاعتداء الجنسي التي تتعرض له من زوج الأم، ودخلت عالم الجريمة عن طريق السرقة في الشوارع، ثم تعرفت إلى زوجها الأول «كارلوس تروجيلو» الذي كان مزوِّرًا، ويعمل في تهريب البشر من كولومبيا إلى الولايات المتحدة، وأنجبت منه ثلاثة أطفال، واشتركت معه في عمليات التزوير، إلى أن انتهت علاقتهما بالطلاق.

بعد ذلك تزوجت «ألبرتو برافو»، وهو تاجر كوكايين يعمل في التهريب إلى أمريكا، ومن هنا دخلت عالم المخدرات، وبدأت أفكارها غير التقليدية في تنمية أعمال الزوج. وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، انتقل ألبرتو برافو إلى نيويورك وبدأ مؤسسته لتهريب الكوكايين، وكان روادها من المشاهير وصناع السينما والرياضيين .

هذا الرواج لتجارة الكوكايين رصدته وحدة مكافحة المخدرات الأمريكية التابعة لوزارة العدل «DEA»، التي كانت تظن أن عمليات التهريب وراءها «رجل»، لكنها اكتشفت أن المسؤول سيدة، ولهذا أطلقت عملية للقبض عليها باسم «الشؤم»، وهو مصطلح مقتَبَس من الأسطورة الآيرلاندية التي تحكي عن سيدة تملك روحًا شريرة، وأصدرت قائمة بالاتهامات في إبريل 1975. لكن غريزلدا تمكنت من الهرب قبل أن يُلقى القبض عليها، وعادت إلى كولومبيا ثم ميامي في أواخر السبعينيات.

وفي ميامي، لم تكتفِ بابتكار تقنيات لتهريب الكوكايين عبر ملابس النساء الداخلية أو كراسي المُقعَدين، وهكذا استطاعت أن تعبر حواجز التفتيش في المنافذ الأمريكية ناقلة الكوكايين من كولومبيا لتسويقها في الولايات المتحدة.

ابتكرت غريزلدا أيضًا طرقًا جديدة لقتل منافسيها، منها على سبيل المثال استخدام الدرجات النارية في عمليات تصفية خصومها، إذ يتولى فرد القيادة، والآخر يطلق النار، وهذه الطريقة تستخدمها الجماعات الإجرامية والإرهابية حتى الآن. عمدت غريزلدا إلى أسلوب وحشي، وليس فقط القتل في حد ذاته. وكانت وراء موجة عنف اجتاحت ميامي في ما عُرِف بعد ذلك بـ«حروب الكاوبوي»، وكانت بين عصابات الكوكايين في المدينة، وقد ذُكِرَ في ملفات التحقيق أن مشرحة ميامي استعانت بمقطورات اللحوم المجمدة لنقل جثث أفراد العصابات وأشلائهم.

وحصلت على لقب «الأرملة السوداء» لأنها قتلت ثلاثة من أزواجها، فزوجها الأول «كارلوس تروجيلو»، الذي التقت به عندما كانت في الـ13 من عمرها، قُتِلَ بوحشية في سبعينيات القرن العشرين، وزُعِمَ أنها قتلته بعد فشل صفقة تجارية وذهابها للمنافسين.

أما الزوج الثاني «ألبيرتو برافو»، الذي انتقلت معه إلى الولايات المتحدة وكان شريكها في تجارة الكوكايين، فقد قُتِل في عام 1975. الأساطير كثيرة حول مقتله، منها أن غريزلدا التقته في موقف سيارات ملهى ليلي، وتجادلا حول فقدان المال، فانتهى الأمر بمقتل برافو بالرصاص مع ستة من حراسه الشخصيين.

أما الزوج الثالث «داريو سيبولفيدا» فخطف ابنهما الأصغر «مايكل كورليوني» ورحل به ليعيش في كولومبيا، فاستأجرت غريزلدا من يقتله، وعاد مايكل ليعيش مع أمه في ميامي.

على إثر هذه السمعة، التي امتزجت فيها الوحشية بالعبقرية، زاد نفوذها في منطقة ميامي، وتحكمت في تجارة الكوكايين، وكانت هذه التجارة تدر عليها أرباحًا بلغت 80 مليون دولار شهريًّا، وأسهمت هذه الأموال في بناء عدد من الفنادق والشركات والأعمال من أجل تبييضها. استمر الحال إلى أن انتقلت إلى كاليفورنيا في 1984.

لكن في عام 1985 ألقت وكالة مكافحة المخدرات القبض على غريزلدا. ومع ذلك، واصلت السيطرة على نشاطها التجاري من السجن.

ورغم أن أحد كبار أعضاء عصابتها تحول إلى شاهد في محاكمتها، فلم يتمكن من إثبات القضية ضدها. وتذكُر السلطات الكولومبية أن غريزلدا كانت وراء 250 جريمة قتل، وتأكدت السلطات الأمريكية من ضلوعها في 40 عملية قتل على أراضيها، وهذا أيضًا لم يكن من السهل إثباته، فقد أقرت غريزلدا فقط بثلاث قضايا قتل في 1994، بعدما قضت عدة سنوات في السجن عقوبةً لتجارة المخدرات. وبعد 19 عامًا على إلقاء القبض عليها، وبعد أن قُتل ثلاثة من أبنائها على يد منافسيها، أعيدت الأم إلى كولومبيا.

عام 2012، أكدت الشرطة الوطنية الكولومبية وفاتها، فقد ذكرت التقارير الصحفية أن اثنين من المسلحين كانا على متن دراجة نارية أطلقا النار عليها بينما كانت تمشي في ميدلين. أصيبت في رأسها برصاصتين، وهكذا ماتت بنفس الطريقة التي ابتكرتها.

يقول «بيلي كوربون»، أحد صناع فيلم وثائقي من جزأين باسم «Cocaine Cowboys»، إن طريقة موت غريزلدا كانت «كلاسيكية، فمن عاش بالسيف، مات به».

غريزلدا بلانكو على الشاشة

مشهد من فيلم «Cocaine Godmother» - الصورة: Asylum Entertainment

كان الرجال قنطرة لزيادة نفوذها وقوتها، فعن طريق زوجها الأول دخلت عالم الجريمة، ودعم زوجها الثاني إمبراطوريتها، ووثَّق الثالث علاقتها ببابلو إسكوبار.

اعتمد صُناع فيلم «Cocaine Godmother» على وثائقي بيلي كوربون، لهذا لم يخرجوا عن الخط العام لحياة غريزلدا بلانكو، لكن مع بعض التحريفات في الأحداث لما يقتضيه العمل السينمائي. فمنذ بداية الفيلم، نجد غريزلدا الطفلة تمارس الجنس في حي فقير في كولومبيا مع أحد الرجال، بموافقة أمها، وهذا الخط يتيح لنا أن نقرأ لماذا خرجت هذه الشخصية بكل هذه القسوة، فالإنسان وفكره ما هما إلا حصيلة تفاعلات مجتمعية.

ثم تنتقل الأحداث سريعًا دون أي تركيز على فترة تشرد غريزلدا في الشوراع الكولومبية، وهذا قصور في تكوين الصورة الأولى عن غريزلدا، فالشوارع الكولومبية وإن جاءت في مشهد سريع، كانت ملجأ للعصابات، وتشهد أحداث عنف مروعة، كل هذا كان يجب التركيز عليه، فالطفلة استطاعت أن تعيش وسط هذا العنف وتنجو منه إلى أن تصل إلى حياتها في أمريكا، وتبدأ علاقتها بأزواجها وأطفالها.

شكَّل الرجال في حياة غريزلدا قنطرة لزيادة نفوذها وقوتها، إذ تتمحور علاقتها بهم حول ثنائية «الولاء-الخيانة».

اعتمدت على الزوج الأول (الذي لم يُظهر الفيلم مقتله، إلا أن هذا سيُفهم من سياق الحوار) لتدخل عالم الجريمة، وتتعرف إلى زوجها الثاني الذي سيشكل الداعم الأول لها لتبني إمبراطوريتها الإجرامية، أما الزوج الثالث فكان مرحلة متقدمة في علاقاتها العابرة للحدود الأمريكية، ووثَّق علاقتها ببارون المخدرات الكولومبي بابلو إسكوبار. والخيانة هي ما دفعها إلى قتل الزوجين الثاني والثالث.

يلقي الفيلم لمحة على حبها للتعليم الذي حُرِمَت منه، وحلمها بتعليم أبنائها، وهذا ما تفشل فيه مع كل أولادها من زوجها الأول الذين شكلوا مملكتها الإجرامية، ما مثَّل إحباطًا للأم. إلا أنها ستتجاوز هذا الشعور الأمومي وتستخدم أولادها أيضًا كأدوات لتنفيذ أفكارها في تهريب الكوكايين والتخلص من الخصوم.

الحضور الخاطف لشخصية بابلو إسكوبار في الفيلم كرس لشخصيته الجدلية، فهو يُجسَّد على الدوام بطلًا ومحاربًا من أجل الفقراء، وإرهابيًّا، ومهربًا للكوكايين في نظر الحكومات الغربية، إلا أن الفيلم لَمَّح إلى دور أموال الكوكايين في تنمية البلدان الفقيرة في كولومبيا، فقد أشار إلى إن إسكوبار بنى وحدات سكنية ومستشفيات ومدارس.

يشير الفيلم إلى إشكالية العرقيات اللاتينية-الأمريكية، وكيف يمكن القتل على أساس هذه الإشكالية حتى وإن كانت على سبيل السخرية، فلا يقبل الأمريكي أن يكون لاتينيًّا، ولا اللاتيني ينبغي له أن يكون أمريكيًّا، وتجسَّد هذا عبر خط في الفيلم شمل العلاقة بين غريزلدا وأحد أبنائها.

من هذه العلاقات المعقدة لغريزلدا مع الرجال، التي تفتقد إلى الثقة، وكما أشرنا سابقًا إلى أن أهم رجال عصابتها هم أبناؤها وأزواجها، يمكننا أن نفهم المساحة الواسعة التي قدمها صانعو الفيلم للحديث عن ممارسة غريزلدا «المثلية» مع فتاة حسناء صغيرة، أغلب الظن أنها «رمز» وانعكاس يعبر عن ظل غريزلدا ونفسها التي أرادت أن تكونها، فقد عملت على حمايتها طوال الفيلم، والاهتمام بأمرها، وهذا ما حُرمت منه غريزلدا أغلب فترات حياتها. وجاء موت هذه الفتاة مؤشرًا على نهاية مملكة غريزلدا بلانكو الإجرامية .

لم يخرج الفيلم عن خط الوحشية المرسوم عن غريزلدا، فأظهرها تقتل الرجال والنساء والأطفال، وتخطط لعمليات وحشية ضد خصومها أو من يستدينون منها المال، وظل خط قوة الشخصية في الفيلم حتى نهايته، ولم تظهر باكيةً إلا في مشهد واحد، عندما علمت باختطاف طفلها الصغير، وسرعان ما انتقمت بقتل زوجها بعدما تأكدت أنه وراء خطفه. لم تعرف الانهيار أو الضعف حتى وفاتها.

غريزلدا بلانكو بين الواقع والسينما

إعلان فيلم «Cocaine Godmother»

أهمية قراءة حياة «غريزلدا بلانكو» الحقيقية وعبر شاشات السينما تكمن في عدم تكرار صناعة وحوش بشرية، فيظهر في خلفية هذه الإنسانة الجهل والفقر وسرقة الموارد المتعمدة من بلد مثل كولومبيا برعاية الغرب، ما يؤدي إلى إفقار هذه الشعوب، وتكمن مشكلة أخرى هي رفض الولايات المتحدة قبول أهل هذه البلدان بشكل يسمح لهم بحياة كريمة.

الجريمة فعل مكتَسَب، وليس فطريًّا يولد مع الإنسان، فغريزلدا بلانكو تمثل مأساة تطرح عددًا من الأسئلة حول العدل في العالم، إذ يجب أن يُطَبَّق العدل في الطفولة قبل أن نطبقه في المحاكم، بوصف الآخر حاملًا لجينات الإجرام ويجب إبعاده.


هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.

مواضيع مشابهة