إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.
ملاحظة: جميع الأسماء الواردة لأشخاصٍ حاولوا الانتحار أو يفكرون فيه مستعارة.
بدأ «الربيع العربي» بحادثة انتحار، حين أحرق محمد البوعزيزي نفسه، لكن سلسلةً من الأحداث تَلَت موته عشَّمت الشباب العربيّ بالحياة، فقط ليُفاجأوا بعدئذٍ بسلسلة أخرى، هذه المرة من خيبات الأمل، فيفاجِئوا بدورهم العالم بارتفاعٍ واضح في أعداد حالات الانتحار المُسجَّلة في الدول العربية.
منذ أعوام، انتحر شاب سعودي من الجسر المعلق بالرياض، وأشير إلى أنه لم يجد وظيفة، في بلد يوفر آلاف الوظائف لوافدين من بلدان أخرى. وفي المغرب، أحرقت خديجة ابنة الـ17 عامًا نفسها، بعد الإفراج عن مغتصبيها، وتوفيت في المستشفى متأثرة بجراحها. ثمانية أشخاص خطفوا واغتصبوا خديجة في «بنغرير» (بلدة صغيرة قرب مدينة مراكش في جنوب المغرب)، وهددوها بعرض فيديو للجريمة التي ارتكبوها في حال لم تتخلَ عن ملاحقتهم قضائيًا. بعد وفاتها، كشف الطب الشرعي عن حمل خديجة.
يقول كاتب فرنسي: «الانتحار قرار بائس نتخده بعد وصولنا إلى طريق مسدود، وهو أيضًا النداء الأخير للهروب من حياة لا تُطاق». ربما كانت هذه الحياة التي لا تطاق، في العالم العربي بالتحديد، سببًا يؤدي بالشباب إلى التفكير في «الخلاص»، وبالتالي ازدادت حالات الانتحار في السنوات الأخيرة في المنطقة... ما الذي حدث للنفس العربية الشابة؟ هذا ما نحاول تتبُّعه في الحكايات التالية.
المغرب: العنف والحاجة دوافع للرحيل
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن النزاعات، والحروب، والعنف، سواء أكان منزليًا أو جنسيًا، كلها عوامل تقترن بقوة بالاكتئاب والسلوك الانتحاري. وتتأثر الأقليات والفئات المستضعفة، مثل اللاجئين والمثليين وضحايا العنف والجرائم الجنسية، على نحوٍ كبير؛ إذ ترتفع معدلات الانتحار بين هؤلاء. ويُعد المغرب مثالًا واضحًا على ذلك؛ ففي عام 2011، انتحرت الطفلة أمينة الفيلالي بعد أن زُوِّجَت لمغتصبها تحت ضغط أسرتها وبمساعدة القانون المغربي. وتكررت الحالة نفسها في السنوات الأخيرة، كما سُجِّلت عدة حالات انتحار أخرى في صفوف الشباب والمسنين أيضًا.
أدى هذا إلى تحذير المنظمة من تنامي الانتحار في المغرب، عقب أن جاء هذا الأخير في المركز الثاني، بعد السودان، ضمن قائمة الدول العربية ذات نسب الانتحار الأعلى في العالم العربي. الأسباب تعود أيضًا إلى الضغط الناجم عن الظروف المادية؛ فانخفاض الدخل أو البطالة أسباب غالبًا ما تقود صاحبها إلى التفكير في «الخلاص».
اقرأ أيضًا: حكايات الاضطراب الوجداني ثنائي القطب
خالد، طالب مغربي، يسيطر عليه التفكير في الانتحار على نحوٍ شبه يومي. يقول لـ«منشور»: «وضعي المادي هو السبب في ذلك. أحاول إيجاد أي عمل لكي أستطيع تمويل دراستي ومواصلتها؛ دون ذلك ليس لحياتي أي معنى. الحياة في المغرب صعبة جدًا. وهذا ما يدفعني للانتحار». قصة خالد تشبه قصص مواطنين مغاربة آخرين، وإن توفر دخل فهو متواضع لدرجة لا تضمن حياة كريمة؛ فقد سمعنا كثيرا عن آباء موظفين أنهوا حياتهم لعدم قدرتهم على توفير ما يلزم لأسرهم.
الحياة في المغرب صعبة جدًا. وهذا ما يدفعني للانتحار.
حكايةُ رضا مختلفة نوعًا ما؛ فهو يَعْتبِر الانتحار خلاصًا أبديًا من أشياء كثيرة. والغريب في الأمر أنه قد بدأ يفكر في الموت منذ طفولته، ويُعلل ذلك بنشأته في أسرة دينية، وخوفه من عذاب القبر والنار: «كنت أفكر في إنهاء حياتي منذ كنت في العاشرة؛ خوفًا من اقتراف ذنوب عندما أكبر. وكان حلمي أن أصبح طيرًا في الجنة وأهرب من العقاب؛ لأنني سأنتحر طفلا. لم أتوقف عن التفكير في ذلك إلى أن انتحر شاب في حَيِّنَا، وأجمع سكان الحي على أنه أجرم في حق روحه، رغم ظروفه، لكني كنت أرى عكس ذلك».
هذه الحادثة أثرت في رضا وكانت سببًا في تغيير معتقداته الدينية بعد سنوات. أصبح إنسانًا بلا معتقد أو انتماء، وتخلَّص من فكرة عذاب ما بعد الموت. أعدَّ طريقة انتحاره وسينفذها، على حد قوله. «عندما أنتهي من بعض الأمور هنا في الحياة، لا أريد أن أموت بسبب مرض ما. أريد أن أختار طريقة إنهاء حياتي، ذلك إن لم يفاجئني الموت».
سوريا: ما فعلته الحرب
أدى حسن رابح رقصته الأخيرة في شهر يونيو الماضي، حين ألقى نفسه من الطابق السابع ببناية في شارع الحمرا ببيروت. حسن راقص معاصر لاجئ فلسطيني سوري فر من الاحتلال الصهيوني إلى سوريا أثناء طفولته، ثم لجأ إلى لبنان بعد الأزمة السورية حيث عانى من اضطرابات نفسية وصدمات، لينهي حياته في سن الـ25 بطريقة تراجيدية صعقت الجميع. حال حسن مثل كثير من اللاجئين السوريين الذين اضطُروا إلى الهروب من مرارة الحرب، وحاولوا الانتحار أيضًا، حتى وإن لم تُسجَّل تلك الحالات.
تشير دراسة أجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان، إلى أن 41% من الشباب السوريين اللاجئين في لبنان اعتبروا التفكير في الانتحار، و17% منهم فكروا فعليًا في الانتحار، أما في دول أخرى، فقد انتحر عدد منهم بالفعل، مثل الشاب الذي ألقى بنفسه في نهر العاصي في أنطاكيا التركية، وآخر شنق نفسه في منطقة الجبل الأخضر في العاصمة الأردنية عمَّان. وغالبًا ما تعود أسباب انتحار الشباب السوري إلى الظروف التي يمرون بها في بلدان اللجوء، من فقر وتشرد، أو ممارسات قمعية وتمييزية ضدهم، بالإضافة إلى آثار الحرب والظرف الاستثنائي الذي يعيشونه، ما يؤدي إلى إصابة هؤلاء بأمراض نفسية مثل الاكتئاب، حتى يبدو لهم أن المخرج الوحيد هو الانتحار.
مصر: لا تخدعنَّك الثورة
حمل الربيع العربي آمالًا عريضة للشباب العربي والمصري، وبخاصةٍ في عام 2011، سرعان ما أُحبِطت بسبب التغيرات والأحداث التي عرفتها مصر منذ الثورة. انتحار زينب المهدي كشف عن وجع ومعاناة جيل 25 يناير. ناشطة سياسية في العشرينات، وُجدت مشنوقة في غرفتها بعد أن تركت في رسالةٍ أخيرة قبل انتحارها بفترة «إن النصر لن يأتي. نحن نكذب لنعيش».
يؤكد الأخصائيون ضرورة مساعدة من يعانون من الاكتئاب؛ لأن الأفكار الانتحارية تسيطر عليهم على نحوٍ مُلِح. وعلى الرغم من أن المرضى النفسيين غالبًا ما يُخفون حقيقة معاناتهم عن أقرب الناس إليهم؛ لأن ذلك يُعتبر من التابوهات المجتمعية، إلا أن الأسرة قد تُسهم في مساعدتهم بقدرٍ كبير.
أسرة مريم، دكتورة صيدلية مصرية، لم تكن تعرف بالأمر، لكنها تدخَّلت لإنقاذ مريم بعد محاولتها اﻻنتحار للمرة الأولى دون تخطيط سابق. تروي مريم لـ«منشور»: «لم أكن أفكر في الانتحار، ولكن، بعد علاقة عاطفية فاشلة دمرتني نفسيًا، لم أستطع النوم ولا التوقف عن التفكير، فقررت أن أضع حدًا لذلك، وأخذت حبَّات دواء مُنوِّم، جرعة لم تكن كافية، لكنها قامت بمفعولها سريعًا لأني كنت قد تناولت مشروبات كحولية قبلها». تحكي مريم، التي أدركت ما حصل واتصلت بوالدتها لنقلها إلى المستشفى: «استنتجت أنه من الوارد جدًا أن نقتل أنفسنا دون إدراك ذلك، وأنه ليس من الضروري التفكير في الانتحار أو التخطيط له».
قد يهمك أيضًا: لماذا نختار الموت؟ 6 أسباب يشرحها مختص نفسي قد تدفع الناس للانتحار
أما أحمد، فقد خطط جيدًا لانتحاره، وودَّع أصدقاءه، وسافر إلى مدينة ساحلية بمصر، حيث استعان بِيخْتٍ ليصل به إلى أعمق منطقة في البحر، ويلقي نفسه هناك، لكنه، في ثانيةٍ تَلَت، أدرك أن الموت بتلك الطريقة بشع، في الظلام وسط البحر، وخاف ألَّا يرى حبيبته ثانية، وقرر أن يعيش، رغم إصابته باكتئاب حاد، وما أنقذه كان مهارته في السباحة.
فلسطين: ربما يقتلك المجتمع
أحمد لم يحكِ تجربته لأسرته. وحتى إن كان الانتحار في العالم العربي غير مقبول ومحرم دينيًا أيضًا، إلا أن أي حالة انتحار تشكل مأساة للأسر، لكن تعامل بعض هذه الأخيرة بعنف مع أطفالهم، يطور سلوكهم الانتحاري دون إدراك ذلك. بيسان، من فلسطين، تعاني من اضطراب «ثنائي القطب» (Bipolar Disorder)، والمعروف أيضا بـ«الاضطراب الوجداني ثنائي القطب» أو «الهوس الاكتئابي»، وسلوكها الانتحاري يتضاعف مع معاناتها من «متلازمة القولون العصبي».
والدتي وأسرتي هم السبب فيما وصلت إليه الآن.
تقول بيسان لـ«منشور»: «أفكر في إنهاء حياتي كل ساعة تقريبا»، حياة تصفها بيسان بالجحيم، لكنها لا تستطيع إيقاف هذه المعاناة؛ لأن هناك أشخاصًا يحبونها وسيتأثرون بانتحارها. هل تعني أسرتها؟ «إطلاقًا، والدتي وأسرتي هم السبب فيما وصلت إليه الآن. عانيتُ بشدة من عنفها، وصوتها المرتفع يطاردني في كوابيسي. علاقتي مع والديَّ عمومًا سطحية جدًا. ولا أهتم لأمرهما الآن. ملاذي الوحيد في الموسيقى والأعمال اليدوية التي أقوم بها، حتى الأكل لا أستطيع أن أستمتع به؛ لأني أتبع نظامًا قاسيًا بسبب القولون العصبي. لجأتُ إلى أطباء نفسيين لكني لم أصل إلى نتيجة؛ ما يهمهم هو جمع المال فقط.. حياتي بائسة بكل المقاييس».
الكويت: قد تحبطنا الأسباب ذاتها
تعتقد الأغلبية أن سكان الخليج ينعمون بحياةٍ مريحة، فهي أرض البترول والأموال، وبالتالي لا سبب يدعو للانتحار، لكن الإحصاءات الرسمية في الكويت كشفت عكس ذلك؛ فقد سُجِّلت 227 حالة انتحار خلال السنوات الثلاث الماضية، من بينها 32 حالة منذ بداية العام الجاري، وتتراوح أعمار المنتحرين بين 19 و35 عامًا.
علي من الكويت، البالغ من العمر 35 عامًا، محظوظ بأسرته التي ساعدته، وبخاصة شقيقه الذي كان بجانبه حتى تجاوز محنته؛ فقبل سنتين، كان علي قد عاش تجربةً عاطفية فاشلة تعرَّض إثرها إلى ابتزاز خصوصياته وأسرته، وفكر وقتها أن لا شيء يستدعي وجوده في الحياة؛ فخوفه من العار وإيمانه بعدمية الأشياء صوَّرا له أن الانتحار هو «الحل الوحيد للهرب»، لكنه اكتشف بعد هذه التجربة أنه لا تزال هناك أشياء جميلة في الحياة.
كل وجع يطال بشر العالم أحسه وجعي، فأخاف وأهرب إلى غير المعلوم.
لكن دانة، من الكويت أيضًا، أصبحت ترى العالم قبيحًا جدًا، وتحس بحزن شديد وعبء كبير. تحكي لـ«منشور»: «كل وجع يطال بشر العالم أحسه وجعي، فأخاف وأهرب إلى غير المعلوم». حاولت دانة الانتحار بطرق عدة، منها سياقة سيارتها بسرعة جنونية لتسقط من الجسر، وابتلاع محتويات أشرطة الأدوية الموجودة في غرفتها. لم يعرف أحد من أقربائها بالأمر. نجاتها كانت بمثابة إشارة للاستمرار والحلم بحياة أجمل. «كنت أفكر كثيرًا بإمكانية أن تكون هناك حياة أخرى غير هذه الحياة التي أعيشها، وذهبت إلى معالج نفسي حوَّلني بدوره إلى طبيب نفسي، وعالجني من اكتئاب حاد».
الكويت، والبحرين، والسعودية، وسلطنة عمان.. دول خليجية جاءت في مؤخرة الدول الأعلى نسبة في الانتحار، لكن الأرقام تظل مجرد أرقام، وبخاصة في المجتمعات العربية التي تعتبر الانتحار من المحرمات لأسباب دينية. أما أنا، كاتبة هذه المادة، فقد أدى بي الاكتئاب المَرَضي أيضًا إلى التفكير في الانتحار عدة مرات، ولا زلت أفكر فيه حتى اليوم، لكنني أحاربه بكل ما لدي من قوة، ليس خوفًا من الموت ولا حبًا في الحياة، حتى أنني فكرت في الوسيلة القاتلة، لكن شيئًا ما بداخلي يرفض تنفيذ هذه الخطوة التي قد تريحني لكنها ستؤلم أقرب الأشخاص إليّ.
إنني محاطة بأشخاص يعانون من الأمر نفسه، حتى أن أحد أفراد أسرتي حاول الانتحار ذات يوم، فكان الحدث الذي هزني وجعلني أعيد التفكير في أشياء كثيرة. أنا مدركة تمامًا أنني أحتاج إلى علاج، وما يؤجل هذه الخطوة هو خوفي وقلقي مما سأحكيه للمعالج النفسي، كأنها حرب مع المرض والموت معًا، لكنني مدركة أن هذه الحرب طويلة، وتستنفد طاقتي التي ربما أحتاج استثمارها في أشياء أخرى. هل سأنتحر يومًا؟ بعد تفكير وتأمل، لا أعتقد أن ذلك سيحدث، فلدي أحلام كثيرة أحققها، وأماكن أزورها، وموسيقى أكتشفها، وقصص أحكيها.
هذا الموضوع جزء من ملف منشور عن الانتحار، لقراءة موضوعات أخرى في الملف، اضغط هنا.