في ليلة السبت، وبينما يبحث كثير من شباب مدينة هيوستن، كبرى مدن ولاية تكساس الأمريكية، عن الترفيه، يحرص بعض شباب اليهود على التعبُّد، ويعني هذا في اليهودية الامتناع عن أشياء كثيرة منها سماع الموسيقى وقيادة السيارات، فقد اختار هؤلاء العبادة على الترفيه.
في ظاهِره، يبدو هذا الاختيار مختلفًا عن خيارات الجيل الذي ينتمي إليه هؤلاء، فأعداد كبيرة من الشباب الأمريكي باتت عازفة عن الالتزام بالشعائر الدينية التقليدية، واليهود ليسوا استثناءً من هذه القاعدة، فنحو ثلث اليهود الذين وُلدوا بعد عام 1980 يعتبرون يهوديتهم مسألة تتعلق بالهُوية والأصل، لا دينًا يمارسونه، حسب مركز أبحاث «بيو» الأمريكي.
تنتشر الأرثوذكسية (التمسُّك بأصل الدين وقوالبه القديمة) الآن بين شباب اليهود في أمريكا أكثر منها بين كبار السن، وقد يبدو هذا نتيجةً طبيعية لنشوء عدد كبير من هؤلاء الشباب في عائلات متدينة، لكن نسبة صغيرة منهم لم تحظَ بتربية أرثوذكسية ولجأت إلى التديُّن عن عمد وباختيارها، فلماذا أصبحت هذه النسبة الصغيرة في تزايد؟ هذا ما يرصده مقال على موقع «The Atlantic».
اليهودية الأرثوذكسية: هل تُشعِر الشباب بالتميُّز؟
لا يُعتبر التحول إلى اليهودية الأرثوذكسية سهلًا لمن لم يُرَبَّ عليها، فالأمر يتطلب نَيْل قسط من التعليم لكي يتمكن الشخص من مراعاة حلال الطعام اليهودي من حرامه، والالتزام بطقوس السبت، بل ويتطلب جهدًا أكبر لاستيعاب المقصد منها.
تقول كاتبة المقال إنها التقت مجموعة من اليهود تَحدَّثوا عن المجهود الذي بذلوه لكي يلتزموا بالأرثوذكسية، فمنهم من كان يذهب إلى مراكز تعليمية يهودية في إسرائيل، ومنهم من اشترك في برامج شبابية تَوْعوية.
ليس من السهل الحفاظ على نمط الحياة الذي يراعي الالتزام بالمبادئ اليهودية.
ويبدو أن اتِّباع التعاليم الدينية يروق لهؤلاء الشباب، إذ تقول واحدة منهم إنها تحرص على تَجنُّب المحرَّمات من الطعام وهي تتسوق، وتقول أخرى إن التزامها بشعائر يوم السبت يُضفِي معنًى على حياتها، في حين ترى الكاتبة أن الالتزام بالقواعد الدينية يجعل اليهود أكثر إحساسًا بهُوِيَّتهم المختلفة.
قد يعجبك أيضًا: تأملات يهودية عربية: صراع الهوية بين الدين والعِرق
اليهودية الأرثوذكسية: بين تعاليم الدين وعلمانية المجتمع
يعيش الشباب اليهودي في هيوستن «شَتاتًا جغرافيًّا وثقافيًّا»، فالتزاماتهم الدينية تجعلهم يختلفون عن أقرانهم من حيث القيم والعادات، غير أن هؤلاء الشباب الأمريكيين في الوقت الذي يختارون فيه من الأرثوذكسية ما يروقهم، يعملون على استعادة اليهودية في شكلها التقليدي، وبهذا يُحيُون الالتزامات المجتمعية التي عادةً ما تفتقدها الثقافة الأمريكية المعاصرة، حسب الكاتبة.
قد يهمك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية
ليس من السهل الحفاظ على نمط الحياة الذي يراعي الالتزام بالمبادئ اليهودية، فقد يُضطر الشخص إلى مغادرة مكان عمله مبكِّرًا ليصل إلى بيته في الوقت المناسب للتفرغ للعبادة ليلة السبت، أو أن لا يقبل دعوة على الغداء عند صديق لا يراعي الطعام الحلال.
تقول إحدى الشباب إنها تَربَّت في بيت يحترم تعاليم التوراة في ما يخص الطعام، ويلتزم بطقوس التعبُّد يوم السبت، فأسرتها لا تأكل لحم الخنزير ولا المحار (حيوانات صدفية مائية)، ولا تشتري أطعمة لا تحمل موافقة مؤسَّساتهم الدينية، كما تستخدم مجموعة أطباق مختلفة لكلٍّ من اللحوم و منتجات الألبان، ولا تخلطه الصنفين في أثناء الأكل.
ومن مغرب الجمعة إلى مغرب السبت، لا يقود أفراد أسرة تلك الشابة السيارات، ولا يستخدمون الإلكترونيات من أي نوع، ولو للإنارة، والأهم من ذلك أنهم لا يعملون يوم السبت، فبينما يعتبر عموم الأمريكيين ذلك اليوم مناسبةً للترفيه، ينظر إليه اليهود على أنه يوم للراحة الملتزمة.
اليهودية الأرثوذكسية: اختبار قِيَم المجتمع الأمريكي
لكل مجتمع يهودي مجموعة من المعايير التي تحكم ما يقبله، فالأكثر تشدُّدًا من اليهود الأرثوذكس قد يرى أن الأرثوذكسية الحديثة لا تلتزم بتعاليم الدين التزامًا كافيًا، في حين قد يعتبر اليهود الأقل تشدُّدًا من الطوائف الأخرى أن الأرثوذكسية الحديثة متصلِّبة في ما يخص دور المرأة.
اقرأ أيضًا: التدين ومعضلة «الدولة اليهودية» في إسرائيل
لا يعبأ كثير من اليهوديات الشابات بعدم السماح لهن بالقراءة في التوراة.
يُعَدُّ تمسُّك اليهود بتعاليم الدين اختبارًا لعادات المجتمع الأمريكي التي تسمح باستخدام الهاتف في كل وقت وزمان، وكذا سياسة المجتمع القائمة على المساواة بين الجنسين، وثقافة العمل الأمريكية التي لا ترحم.
غير أن الاختلاف لا يُفترض أن يؤدِّي دومًا إلى النزاع، إذ تقول الكاتبة إن كل من قابلتهم قالوا إنهم يشعرون بالقبول داخل المجتمع اليهودي ومجتمع هيوستن عمومًا.
لا تساوي اليهودية الأرثوذكسية بين النساء والرجال، حسب كاتبة المقال، فكثير من أماكن الصلاة يُفصَل فيه بين الرجال والنساء، وكذا لا يُسمح للنساء عادةً بقراءة آيات من التوراة، على الأقل في وجود الرجال، ولا ترتدي النساء «التاليت» (Tallit) أو شال الصلاة، ويغطي كثير من اليهوديات المتزوجات شعرهن كله أو جزءًا منه، كما تقع على المرأة التزامات خاصة مثل إشعال الشموع يوم السبت، وتلتزم النساء بـ«الميكفا» (Mikvah)، وهو الغُسْل بعد انتهاء الدورة الشهرية.
غير أن وجود تلك الفروق، كما تؤكِّد الكاتبة، لا يقف حائلًا دون اعتناق الشابَّات في هيوستن لليهودية الأرثوذكسية، فكثير منهن «لا يعبأن» بعدم السماح لهن بقراءة التوراة.
اليهودية الأرثوذكسية: هل تعقِّد الحياة؟
الالتزام بالقواعد الدينية اليهودية بحذافيرها قد يعقِّد بعض أمور الحياة الخاصة مثل المواعدة والزواج، لذا ربما لجأ الشباب إلى خدمات تسهيل الزواج إذا أرادوا فتيات ميَّالات إلى الالتزام، فكثير من الأشخاص يُضطرُّ إلى تغيير أسلوب ممارسته الشعائر ليتوافق مع شريكه.
الزواج بشخص ملتزم يجعل التديُّن أكثر جدية، لذا تقول إحدى النساء اليهوديات لكاتبة المقال إن تناول الأطعمة الحلال وإحياء شعائر السبت بات يشبه الواجب منذ زواجها.
ربما كان الأمر ببساطة رغبة في خوض «تجربة جديدة».
ولا يقتصر الأمر على الأزواج، إذ يذكر شاب أعزب أنه احتاج إلى مساعدة مجموعة من الحاخامات ليوصِّل إلى والديه فكرة تحوُّله إلى اليهودية الأرثوذكسية، فحينما صارح والدته باختياره خالجها شعور بأنه ضحَّى بكل ما علمته من أجل اختيار آخر، كأن ما علمته إياه لم يكُن مُرضِيًا.
تشير الكاتبة إلى أن ممارسة الأرثوذكسية بأي صورة تمثِّل تحدِّيًا للثقافة الأمريكية المعاصرة، ويبدو أن اختيار هذا النمط من الممارسة الدينية تحفزه رغبة في إكمال ما ينقص الحياة العلمانية، ومن ذلك إحساس الانتماء إلى مجتمع صغير والشعور بأن للحياة معنًى، وهو الأمر الذي تغذِّيه الممارسة المنتظمة لشعائر الدين.
قد يكون مبعث اختيار الأرثوذكسية إحساس اليهود بالصلة التي تجمعهم، وما يحمله ذلك من التزامات في الحياة اليومية والتزامات نحو موروث ثقافي واحد، أو ربما كان الأمر ببساطة رغبة في خوض «تجربة جديدة»، أو لإيجاد معنى للحياة وسط زحام الأشغال اليومية.