نعيش اليوم في واقع متغير باستمرار على جميع الأصعدة، فالوظائف تختفي شيئًا فشيئًا، والدخل يتراجع تدريجيًّا، وحالة الهشاشة الاجتماعية تزيد يومًا بعد آخر. في مناطق عدة من العالم، يخاطر آلاف الناس يوميًّا بحياتهم لعبور البحر، فرارًا من الحروب والاقتصادات الهشة وتبعات التغير المناخي، صوب مناطق أكثر استقرارًا وأمنًا.
رغم إلحاح هذه القضايا، لا يزال السياسيون التقليديون يتجنبون معالجة تسونامي البطالة المتوقع بصورة علنية، إذ إنهم، على ما يبدو، متحيرون في كيفية التعامل مع الانتقال التاريخي القائم على الأبواب، أي تحول حصة كبيرة من العمل الذي كان يؤديه البشر إلى وظائف تفعلها الآلات.
مع ظهور تقنيات ثورية، مثل الذكاء الصناعي والواقع الافتراضي والواقع المعزز وسلسلة الكتل (Blockchain)، وبروز أصوات تنادي بإرساء قواعد نظام اقتصادي يوفر دخلًا أساسيًّا ثابتًا للناس كافة، صار واضحا أن العالم كما نعرفه يخضع لتغيرات على نطاق واسع، ما قد يزعزع قناعاتنا الشخصية ويعيد صياغة مفاهيمنا عن الإنسانية والإنسان، حسب ما جاء في مقال منشور على موقع الجزيرة بالإنجليزية.
تغوُّل التكنولوجيا
الذكاء الصناعي هو سلسلة من الخوارزميات المصممة لتحسين أداء الروبوتات، عبر منحها القدرة على التعلم من محيطها.
وبما أن هذه التكنولوجيا تسير بوتيرة متزايدة نحو الاستقلالية والتحكم الذاتي، فإن هذا يعني أن آلاف العمال الذين يشغلون وظائف تقوم على تكرار نفس العمليات، مثل قيادة السيارات وتجميع المنتجات، سيضطرون قريبًا إلى البحث عن وظائف جديدة، أو الرضوخ لحالة البطالة التي ستشمل آلافًا مثلهم.
يمكن استخدام اتكنولوجيا الواقع المعزز لتقييم المشاركين في قضايا عدة، وتقييم بصمتنا البيئية بصورة أفضل مما هو ممكن الآن.
استبدال الآلات الذكية بالبشر أصبح واقعًا لا مفر منه، لكن حتى هذا الواقع نفسه سيخضع للتحوير بصعود نجم تكنولوجيا الواقع المعزز. هذه التقنية، التي تلقي على العالم المألوف بيانات متنوعة من أصوات ومقاطع فيديو ورسومات بيانية، ستخلق واقعًا مغايرًا لما اعتدناه، وستُكسب مستخدميها أفضلية اجتماعية على من يتمسكون بالواقع الاعتيادي الممل، الأمر الذي سيحولها بالتدريج إلى ضرورة حياتية، كما هو الشأن اليوم مع الهواتف الذكية، لا بد من توفيرها لمواكبة العصر والمشاركة فيه.
ستربط هذه التكنولوجيا الصحفيين مباشرةً بالإنترنت، مما سيسمح لهم بالاستغناء عن الكاميرات وإجراء مقابلات حصرية والتحقق من خلفية الأشخاص الذين قابلوهم للتو، وستوفر للجنود القدرة على معاينة الأماكن التي هم على وشك مهاجمتها، بناء على صور ترسلها طائرات بدون طيار، في حين يعمل مهندسون بعيدون بآلاف الأميال عن الموقع على بث تصاميم ثلاثية الأبعاد مباشرةً إلى مجال رؤية الجنود.
اقرأ أيضًا: قريبًا يودعنا الهاتف الذكي.. ينتظرنا عالم أكثر ذكاءً
بدورها، ستسمح «سلسلة الكتل» بفك الارتباط مع المبدأ التعسفي المنظم للدولة القومية، فهذه التكنولوجيا التي تعتمد على إنشاء قاعدة سجلات شاملة ومتكاملة، وموزعة عبر الإنترنت، يمكن استخدامها لتقييم المشاركين في قضايا عدة، وتقييم بصمتنا البيئية بصورة أفضل مما هو ممكن الآن، وإلغاء البنوك، وخلق نظام ضريبي عالمي حديث يستند إلى تأثيرنا على كوكب الأرض بدلًا من دخلنا.
مستقبل التكنولوجيا مبهم
ستُستخدم التكنولوجيا في إحداث تغييرات جذرية على الطريقة المختلة أصلًا التي ندير بها شؤون العالم.
رغم وتيرة التغير السريعة التي نشهدها حاليًّا، لا يبدو أن هناك شعورًا عامًّا بإلحاح هذه القضية، وبضرورة إبداء موقف واضح إزاءها. فحتى مع بدء الحجز في فنادق تعمل بالتكنولوجيا بالكامل، والانتقال بسيارات ذاتية القيادة، واختيار الروبوتات لتلبية أغراض جنسية وتقديم العون الروحي، تظل أصوات أولئك الداعين إلى مُساءلة هذه الابتكارات وطرح موضوعها للنقاش العام مغمورة وخافتة وسط الجلبة الرقمية التي تحيط بهذه التكنولوجيا.
لهذا نادرًا ما نجد أحدًا يتساءل عن العواقب الاجتماعية التي ستترتب على استبعاد فئات مجتمعية بأكملها وإقصائها فقط لأنها أقل كفاءةً من الآلات، وتداعيات إدراك هؤلاء المستبعَدين أنهم ينتمون إلى جماعة قوية ومؤثرة تعدادها مئات الملايين. كذلك، قليلًا ما يجري الحديث عن الحدود الأخلاقية التي ستتخطاها البشرية، بعد أن يصير بمقدور أقلية من صفوة المجتمع تصميم أجساد بشرية محصنة ضد الأمراض والإعياء الذي يصيب البشر العاديين.
قد يهمك أيضًا: مزيد من العلماء يرجحون أننا لسنا في عالم حقيقي
كل هذه أسئلة مطروحة بالفعل وليست خيالية، في ظل الميول التي يُظهرها التطور التكنولوجي حاليًّا. ونظرًا إلى أن النظام الاقتصادي الحالي يدفع ملايين الناس إلى هامش المجتمع، ثم يلقي بهم خارج النظام القائم لعدم ملاءمتهم، كذلك ستُستخدم التكنولوجيا الحديثة في إحداث تغييرات جذرية على الطريقة المختلة أصلًا التي ندير بها شؤوننا الاقتصادية والبيئية والانتخابية.
ففي حين يمكن لتكنولوجيا «سلسلة الكتل» أن تحل محل الانتخابات التقليدية، إذ إنها تسهِّل إجراء استفتاءات محصنة ضد الاختراقات الرقمية في عدد من القضايا الملحة، فإن هذا لا يلغي الآثار السلبية والمدمرة لهذه التقنيات على البشر، فالانغماس الكلي في العوالم الافتراضية، التي تقدم عزاءً لمن يعيش واقع البطالة، له أضرار نفسية وخيمة على الأفراد، وتطور الذكاء الصناعي في اتجاء الاستقلالية يمثل خطرًا على الجنس البشري ويهدد مستقبله.
مع النمو الديمغرافي السريع والاستغلال غير العقلاني للموارد الطبيعية، بفعل نظام اقتصادي قائم على الاستهلاك واللامبالاة بالبيئة، يمكن للتكنولوجيا تقديم بدائل تنموية واقتصادية فعالة، والحد من حالة اللامساواة الطاغية الآن، والتقليل من تأثيرنا السلبي على البيئة، إذا استخدمناها لتحقيق هذه الأهداف. لكن فِعل هذا من عدمه قضية أخرى، وتتوقف بالطبع على موازين القوى المتحكمة ومدى استعداد السياسيين لدعم هذه الأفكار والسهر على تنفيذها.