قلَّما يجد الإنسان فرصةً للهدوء والتأمل وسط زحام الحياة اليومية وصخبها. سرعان ما ننغمس في مشاكل العمل ومسؤوليات المنزل، بخلاف المسؤوليات الاجتماعية، فلا نكاد نجد الوقت لأنفسنا، وهناك الكثيرون الذين لا يملكون القدرة على التأمُّل والغوص في أعماق النفس.
عندما سمع الشاب الكويتي عزَّان الزواوي من أصدقائه عن «التجربة الفريدة» التي مرُّوا بها خلال رحلة إلى منطقة طبيعية في سلطنة عُمان، لم يفهم سر تفرُّدها. قال له أصدقاؤه إن الرحلة تستغرق يومين، يُقضى اليومان في الطبيعة بشكل كامل: خيام ونوم على الأرض، كل مُشارك يحمل أمتعته وزاده، لا فنادق، لا حجوزات، لا رفاهية.
كان هذا جديدًا، فقرر الزواوي الالتحاق بواحدة من الرحلات إلى «جبل شمس» في عُمان ليكتشف السر بنفسه.
سياحة من نوع مختلف
لم تكن الرحلة اختبارًا للقوة البدنية واستمتاعًا بالمناظر فحسب، بل تجربة روحية خالصة.
«كانت المرة الأولى التي أسافر فيها ليس بغرض العمل ولا السياحة»، يقولها عزَّان قبل أن يوضح أن «السياحة التي اعتدناها في مجتمعاتنا غالبًا ما تأخذنا إلى عواصم عالمية: نجلس في أشهر مقاهيها، ننظر إلى الناس، نبحث عن أفضل المطاعم، نستمتع بالطعام اللذيذ، نخبر أصدقاءنا عن زيارتنا، نقضي ساعات في التسوق، لكن هذه المرة كنت على موعد مع سياحة من نوع آخر، سياحة وفرت لي كنوزًا من المعرفة الذاتية».
قد يعجبك أيضًا: المقاهي وأماكن التجمعات كمنصات لمراقبة الآخرين
كانت الرحلة، بحسب الزواوي، مزيجًا من المتعة والجهد البدني، إذ «نستغرق وقتًا طويلًا في المشي بين طبيعة خلابة رائعة الجمال، وتتيح لنا هذه التجربة، التي قد تكون شاقة، اكتشاف آفاق قوتنا الجسدية وقدرتنا على التحمل، نُدرك قدرات خفية في أنفسنا أحيانًا، وننحني أمام هيبة الطبيعة في أحيان أخرى».
لم تكن الرحلة اختبارًا للقوة البدنية واستمتاعًا بالمناظر الطبيعية فحسب، بل كانت تجربة روحية خالصة كما يقول الزواوي.
«كنت مُحاطًا بلحظات من الصفاء التام والمتعة الأخَّاذة في بساطتها، كنت منقطعًا عن سائر العالم إلى حدٍّ كبير، ألتحف نجوم السماء كل ليلة ويلفني هواء الطبيعة النقي، أعيش وسط منظر ساحر، ليس أمامي تليفزيون ولا هاتف، تَسكُنُني سعادة غامرة من هذه البهجة البسيطة».
كي يبقوا على قيد الحياة، كان على عزَّان الزواوي ورفاقه في الرحلة أن يعتمدوا على بعضهم، لم يكن أحدهم يعرف الآخر، لكنهم صاروا أصدقاء بسرعة. بسبب الحياة كمجموعة، قويت أواصر الصداقة وسقطت الأقنعة الاجتماعية، صار الجميع بشرًا طبيعيين دون تكلُّف، وهنا «يبرز الفارق بين تجربة العيش في الطبيعة والعيش في المدينة، وبين هذه المفارقات يبرز جمال الحياة البسيطة المبهجة».
اقرأ أيضًا: كيف غيرت رحلة إلى الخليج أفكار شاب أمريكي عن العرب؟
لستُ وحيدة وسط الطبيعة
لم يكن الزواوي وحده من استمتع بالرحلة، بل شاركته الرأي شمايل الشارخ، التي كانت وجهتها إلى كهف «الطاهري» في «هضبة سلمى» بسلطنة عُمان.
غامر شمايل إحساس بأنها مهما شعرت بالوحدة فهي ليست كذلك وسط الطبيعة.
تقول الشارخ إن المغامرة كانت «من أكبر التحديات التي واجهتها في حياتي، سواءً على الصعيد الجسدي، بسبب ما تتطلبه الرحلة من لياقة عالية وقوة تحمل، أو على الصعيد الذهني، من باب مواجهة المخاوف والتحديات خلال المسير».
التحديات التي ذكرتها الشابة الكويتية تتضمن السَّيْر بالقرب من هاوية تطل على وادٍ عميق، لكن زملاء الرحلة كانوا يساعدونها على المواصلة والتغلُّب على الخوف، وهو ما منحها القوة للاستمرار، كما «دعاني إلى إدراك أن الدنيا لا تزال بخير، فهناك من يتَّسِمون بالشهامة ويهتمون بغيرهم دون أن يجبرهم أحد على ذلك».
قد يهمك أيضًا: ماذا لو وُجدت أدوية لتقويم أخلاق الناس؟
قضت شمايل الشارخ ليلة مع المجموعة في الكهف، الذي كان فسيحًا والطقس رائقًا، وعندما بدأت تتأمل الجبال والوديان والسماء من فوقها، أدركت ربما للمرة الأولى «ارتباط البشر بهذه الطبيعة الأخاذة، وأننا جزء منها ونتناغم مع ظروفها، نقهرها مرَّات وتتغلب علينا مرَّات أخرى، فـغامرني إحساس بأني مهما شعرت بالوحدة فأنا لست كذلك وسط هذه الطبيعة».
قد يعجبك أيضًا: العُزلة ليست وصمة
لا سياسة، لا دين، لا عمل
بدأت فكرة تنظيم الرحلات إلى عُمان عن طريق علي حسين، وهو شاب كويتي قضى سنوات من حياته بين الدراسة والعمل في ولايتي كولورادو وألاسكا الأميركيتين، اللتين تشتهران بالجبال والتضاريس الصعبة والطبيعة الجميلة، فاستغل وجوده هناك ليقضي جزءًا من وقته في المشي لمسافات طويلة واستكشاف الطبيعة، حتى صارت هواية محببة إليه.
بسبب عمله في مجال النفط، انتقل علي في 2008 إلى أبو ظبي في الإمارات واستقر بها، وقرر أن يعيد إحياء هوايته في استكشاف الطبيعة، فأخذ يسافر مع أصدقائه إلى سلطنة عُمان بين عامي 2009 و2012، ولمَّا أعجبته طبيعتها الأخَّاذة انتقل إلى الحياة والعمل هناك.
اقرأ أيضًا: حكاية مستشار أعمال لبناني ترك وظيفته كي يصنع النبيذ المحلي
يقول علي حسين إنه بدأ يخرج في رحلات استكشافية ويضع الصور التي يلتقطها على حسابه في موقع إنستغرام، فلم يصدق أحد أن تلك الصور التُقطت في الخليج العربي، وعندها قرر مع بعض أصدقائه أن يتوسع في الرحلات ويفتحها للجمهور، فأسَّسوا في 2013 شركة أطلقوا عليها اسم «Husaak Adventures».
خلال السنة الأولى من تأسيس الشركة، التحق بالرحلات 19 شخصًا فقط، لكن الرقم قفز في 2014 إلى 250 فردًا، ثم شهد الربع الأول من عام 2015 مشاركة 200 شخص جديد، ولم تعد الرحلات تقتصر على الكويتيين، بل يشارك عرب من دول أخرى مثل السعودية والإمارات.
متى كانت آخر مرة انفصلنا عن مظاهر الحياة المزيفة وارتمينا في أحضان الطبيعة؟
من أجل الحفاظ على انسجام المشاركين في الرحلات، خصوصًا أن أغلبهم يكون من خلفيات مختلفة ولم يسبق لهم التعارف، يطلب علي حسين منهم الالتزام بثلاثة قوانين رئيسية: لا حديث في السياسة، لا خَوض في الدين، لا ذِكر للعمل.
يؤكد الشاب الكويتي أن كل ما في الرحلة من شأنه أن يكسر الحواجز الشخصية التي يضعها الفرد، فكل واحد يجد نفسه مع آخرين غرباء، يأكل طعامًا مختلفًا عن ذاك الذي اعتاده، ويتعاون مع الآخرين طَوَال الوقت، فتُسهم روح الفريق في رفع معنويات الجميع.
يتساءل علي: «متى كانت آخر مرة تعرفنا فيها إلى أشخاص جُدُد؟ متى كانت آخر مرة انفصلنا عن مظاهر الحياة المزيفة وارتمينا في أحضان الطبيعة؟».
استكشاف الطبيعة.. اكتشاف الذات
فهم الزواوي أنه كان يعيش في فقاعة كبيرة، وأن العالم أكبر وأجمل من اهتماماتنا اليومية الصغيرة.
يشير علي حسين إلى أن ما يدفعه إلى الاستمرار في تنظيم الرحلات هو «التغيير الذي أراه على وجوه الناس. تخلق الرحلات أثرًا إيجابيًّا فوريًّا، وهو شعور جميل أن تتمكن من إسعاد البشر والتأثير في حياتهم».
لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالشاب الكويتي شغوف في الأساس بالارتحال ويشعر براحة البال وسط الطبيعة، ويُدرك أنه يُحيي روح الاستكشاف في نفسه ونفوس الآخرين، وهي «روح أصيلة لدى الناس، فجميعنا مستكشفون، إلا أننا آثرنا ترك الاستكشاف والتمسُّك بمظاهر الحياة المادية، وهذه الرحلات فرصة للتواصل مع روح الاستكشاف بداخلنا».
الفكرة هي أن يخرج الشخص من دائرته ومحيطه الاجتماعي والتعبئة الذهنية التي اعتادها، وأن يرى نفسه والآخرين بشكل مختلف، ويكسر الحواجز التي يضعها البشر أمامهم طيلة الوقت، فيرون الآخرين أشخاصًا أنقياء وبُسطاء وخالين من ترسُّبات المجتمع، بحسب ما يقوله علي.
قد يهمك أيضًا: علم النفس يخبرك عن العلاقة بين المادية والسعادة
في طائرة العودة من عُمان، ينظر عزَّان الزواوي إلى من حوله من الرفقاء ويبتسم. يتذكر كيف بدؤوا المغامرة غرباء لا يعرف بعضهم بعضًا، ثم انتهوا عائلةً واحدة.
خلال العودة، فهم الزواوي أنه كان يعيش في فقاعة كبيرة، وأن العالم أكبر وأجمل من اهتماماتنا اليومية الصغيرة، وأن رحابة الحياة أوسع من أن نبقى أسرى لمظاهر اجتماعية زائفة، نأخذها ذريعةً لنمنع أنفسنا من ممارسة الحياة. عرف الزواوي أن الرحلة منحته فرصةً أخرى كي يتحدى نفسه ويصل إلى إدراكٍ أجمل وأعمق للحياة.