لستَ الأفضل، ولا الأقل، ولستَ مثل أحد: لماذا نشعر بالدونية؟

الصورة: Getty/NurPhoto

مريم ناجي
نشر في 2018/03/19

أردتُ يومًا أن أكون أنشودة من الكمال، فخلقت وهمًا وصرت أقارن نفسي به. تحول الوهم من شخص إلى فكرة، ومن فكرة إلى صوت رفيع في رأسي، متى احتجت إليه لأستشيره في وقت حرج ومهم، يغادرني. راقبته، فوجدته يحب أن يتجلى بكلماته عليَّ قبل النوم، وقبل مقابلة شخص مهم، وخلال تفكيري في: هل أُبدي رأيي في قضية ما أم أكتفي بالصمت، لأن العالم لن ينهار في الحالتين. صادفته أيضًا في كل مرة أرفع قدمي لأتقدم خطوة، يقول لا، ابتعدي، لستِ مثل الباقين.

بدلًا من أن أتقدم خطوةً أعود خمس. هذا إن كُنت أتفاعل معه وحدي، لكن إذا كنتُ في نشاط يتطلب المشاركة الجماعية، تتحول جِباه الجميع إلى ألواح حمراء كُتبت عليها إنجازاتهم، وكيف يمكن أن يكونوا كلهم بهذا الجمال واللباقة والهندام. تتحول جبهتي أنا إلى ورقة خريف جافة، يمكن لنسمة هواء أن تحطمها، فأستمر في الانكماش، ويكرر الصوت مؤكدًا أنه يجب أن أهرب من أمام هؤلاء لأنني، بالتأكيد، الأدنى.

أهرب ويأتي موقف آخر. أقارن، وأسمع الصوت، وأهرب مجددًا. وتتوالى قصص الهرب، ويقوى الصوت عليَّ، فأكون أنا الصوت، لا أسمعه فقط، بل أومن به.

الدونية: ما الذي يحدث بالضبط؟

الصورة: jim jackson

الدونية علميًّا: أقل من مرض، وأكبر من شعور.

يسمَّى هذا الشعور في علم النفس «Inferiority Complex»، أو الدونية، مصطلح أتى به الطبيب والمعالج النفسي النمساوي «ألفرد أدلر».

عرَّف أدلر الدونية بالعقدة النفسية، أو الشعور الغامر بعدم الأهمية. وعلى الرغم من أن جميع الناس لديهم نقاط ضعف يمكن العمل عليها وتحسينها، فإن الشخص الشاعر بالدونية يجمع كل نقاط ضعفه ويجعلها هي المقياس الذي يقيِّم به ذاته وأهميته. ونتيجةً لعيوبه الحقيقية أو المتخيلة، يستنتج أنه غير مهم أو أقل نجاحًا بالنسبة إلى الآخرين. وبطبيعة الحال، فإن لهذا التصور والتقييم عددًا من الآثار السلبية.

«شروق» (22 عامًا، اسم مستعار) من الذين اكتشفوا أن لديهم شعورًا بالدونية، لكنها لم تتذكر متى بدأ.

توضح شروق لـ«منشور» أن من العوامل الأساسية لهذا الشعور المقارنة المصحوبة بجلد الذات على أبسط الأشياء. تقول: «أرى أني شخص متوسط دائمًا، لست بليدة بالمرة في دراستي، ولا من الأوائل مثلًا، لكن بعدهم مباشرة. شعور الوسطية غير الحقيقي يأخذ بي إلى اللا انتماء، فأنا لست على القمة التي أريدها تحديدًا، ولا في الأسفل. ورغم أنه من الطبيعي جدًَّا قياسًا بعمري أن أشعر بهذا، فإني بسببه أحاول أن أثبت جدارتي دائمًا».

في بعض الحالات، مثل شروق، تؤدي الدونية إلى كثرة التعويض في جانب آخر من الحياة، وهذا أفضل سيناريو. يفعل الفرد كل ما في وسعه للتغلب على شعوره. وهذا يمكن أن يعني أنه في نهاية المطاف ينجح في وظيفته وعلاقاته. ورغم درجة الإنجاز الكبيرة التي يمكن أن يصل إليها، فإن شعوره بالدونية لن يتلاشى، ولن يحس بالرضا عن ذاته.

نتيجة أخرى لهذا الشعور هي أنه عند إحساس أحد بالنقص وعدم القيمة، وبأن أحدًا لا يلقي له بالًا، فإنه سيتصرف على هذا النحو. شعور الدونية يؤثر في طريقة التفكير والسلوك، وهذا سيغير نظرة من حوله وتعاملهم معه، وينتهي الأمر بأن يزيد شعوره بالدونية، بل ويتأكد من كونه أقل بسبب ردود أفعال من حوله، التي كان هو الدافع لها من الأساس.

قد يهمك أيضًا: الكمبيوتر ينجح في توقع ميول البشر الانتحارية

المقارنة: ميزان غير عادل

ينشأ الشعور بالدونية بسبب العيوب الجسدية أو العقلية، مثل انخفاض معدل الذكاء أو ضعف اللياقة البدنية أو التلعثم في الكلام.

تحكي «سلمى» (21 عامًا، اسم مستعار) أنها تتذكر من أين أتى هذا الشعور.

حدث هذا في المرحلة الابتدائية، عندما لاحظت إحدى صديقاتها شكل ساقيها، كانتا شديدتي النحافة، فقالت ببساطة إنهما «عصوان» وليسا ساقين. هنا بدأت تركز وتقارن جسدها بالآخرين، وحين اكتشفت الفروق آمنت بأنها أقل، وشعرت بالنبذ، وتصرفت على أساس شعورها، فعاملها الآخرون بنفس إحساسها، أنها غريبة، ففرضت على نفسها العزلة. حتى في المحيط العائلي، كانت نحافة سلمى مصدر السخرية الوحيد عند إخوتها، رغم تفوقها الدراسي ودرجاتها المرتفعة.

«في الجامعة، وجدت نفسي داخل مقارنة لا علاقة لي بها. أعتقد أن الفتيات لا يمكنهن أن يتوقفن عن النظر وتأمل ملابس وأشكال بعضهن. كنت في كل مرة أخسر بسبب وزني، ولم تعبأ إحداهن مرة بتأثير إعلان خسارتي أمامي، كأننا في مزاد وليس في جامعة».

«تواصلت خساراتي المعنوية المتعددة بسبب شعوري بأنني لست جديرة بشيء، ولا حتى بالحب أو الإعجاب. ففلانة دائمًا تتفوق، وأنا أفشل في الحصول على شيء بسبب مقارنتي بها تحديدًا. لم أكن أعبأ برأي من حولي تمامًا، بل بالصوت في رأسي. تتقافز الأفكار في عقلي، واحدةً وراء الأخرى، إلى أن أشعر بأن أفضل ما يمكن أن أقدمه لنفسي هو الاختباء من الجميع».

تتعدد الأسباب الفعلية وراء الشعور بالدونية. أحد الأسباب، مثل سلمى، يكون أحداث بارزة وقعت غالبًا في الطفولة، أو نتيجة معتقدات وأفكار ممنهجة تأتي بسبب الفشل المستمر أو النقد غير البنَّاء، مثل عدم حصول الطفل على التشجيع الصحيح والحب غير المشروط خلال طفولته، فهذه المواقف الأبوية تؤدي إلى الإحساس بالدونية عندما يكبر.

وفي حالات معينة، ينشأ هذا الشعور بسبب العيوب الجسدية أو العقلية، مثل انخفاض معدل الذكاء أو ضعف اللياقة البدنية أو التلعثم في الكلام. ويمكن لأحد هذه المواقف أن يسبب للطفل خيبة أمل، ويضعه تحت ضغط بسبب النقد المستمر، فيمتنع عن مشاركة الآخرين.

توضح شروق أن السبب الآخر لشعورها بالدونية هو الأشخاص المحيطون بها.

عائلتها كلها أطباء ومهندسون، وهي الوحيدة التي اختارت أن تتخصص في اللغة الإنجليزية، ما جعل أهلها يتساءلون: «ماذا ستفعل في حياتها بمجرد لغة؟ كيف ستجد وظيفة؟». يُشعرها هذا التساؤل بأنها غريبة عنهم، وأنها ليست جادة في شيء، حتى في تخصصها.

ولأنها لا تحب أن تكرر شخصيتها في مَن حولها، فإن كل أصدقائها المقربين من النوع الاجتماعي الذي يختلط بالناس، ولم يكن عليها كصديقة سوى أن تستمع إلى حكاياتهم، وهذا لم يُشعرها بالدونية في شيء، غير أنها كانت تتباطأ في التخلص من هذا الشعور لأنها لم تكن يومًا ملزمة بأن تبدأ محادثة أو تأخذ بزمام الحديث.

وفقًا لشروق، مواقع التواصل الاجتماعي لها تأثير يزيد من الشعور بأنها أدنى. على فيسبوك مثلًا، كلما أنجز أحدهم شيئًا، ولو كان صغيرًا، ينشره بطريقة استعراضية، وهذا يجعلها تقارن نفسها به دون حيادية. ومهما تكن تفاهة الإنجاز، فإنها تفترض أن هذا الشخص أفضل منها، وأنها لا تفعل شيئًا في حياتها، وبالتالي يتسرب إليها الشعور بالدونية.

كيف ننتصر على الدونية؟

ربما يكون المحيطون بنا السبب الأساسي للشعور بالدونية دون إدراك منهم. والتخلص من هذا الشعور يبدأ بعيدًا عنهم، يبدأ من داخلك، لأنه مثل عقدة حبل يمكن فكها بالعمل عليها.

ينقل لنا الكاتب «ستانلي سي لوين»، في مقال نشره موقع «Health Guidance»، عددًا من النصائح لتجاوز هذا الشعور.

  • تحدث مع نفسك بإيجابية

استفد من وجود صوت في دماغك يُملي عليك أنك لست جيدًا بما فيه الكفاية، وغيِّره بالتدريج لأنه ليس صوتًا، بل هو ذاتك.

تنبع قلة احترام الذات والتشاؤم من المحادثات التي تجريها مع نفسك، فأنت من تفترض أن الجميع يفكر في أنك لا تستحق، أو أنك عديم النفع. كُفَّ عن انتقاد ذاتك بخلق محادثات سلبية عنك. راقب أفكارك باستمرار، وضع «أنا متساوٍ مع الجميع» بدلًا من «أنا غبي»، وبالتدريج ستتمركز تلك الأفكار الجديدة في عقلك الباطن.

  • استخدم المنطق

مثلًا، إذا كنت تفكر في أنك أقل من الجميع لأنك لست وسيمًا، فأنت لا ترى الصورة كاملة، لأن المظاهر سطحية، ولا صلة لها بأي موهبة أو مهارة، وربما لديك عدد منهما. كذلك، لا يراك الجميع بنفس الطريقة، لأن الآراء حول المظاهر شخصية جدًّا وتختلف من شخص إلى آخر.

بالمثل، إذا كنت غير واثق في شخصيتك أو معتقداتك أو عاداتك أو هواياتك أو أي شيء خاص بك، فتذكر أن كل هذه الأشياء ليس لها معايير، وليس فيها ما هو صحيح أو خطأ، لأنه لا شأن لأحد غيرك بها.

فكِّر في تجربة أو موقف حدث فيه أن وصل شعورك الدونية إلى أعلى معدل، وحدد لماذا حدث هذا الموقف. مثلًا، إن كان والداك يتجاهلانك في طفولتك، فهذا بسبب أنهما والدان سيئان، وليس لأنك كنت طفلًا لا يستحق الاهتمام. أو إذا كان هناك شخص يضايقك في المدرسة، فربما لجأ إلى ذلك لأنه غيور منك ليس إلا.

اعثر على شيء أنت جيد فيه، أو اختر شيئًا جديدًا وأتقنه، وبهذا الإنجاز سترتفع ثقتك بنفسك.

  • فتش عن نقاط ضعف الآخرين

رغم أنها عادة غير مستحبة، فإن اكتشاف نقاط ضعف الآخرين، وتحديدًا من تشعر بأنك أدنى منهم، سيساعدك على تحويل نظرك عن نقاط ضعفك، وسيجنبك التفكير فيها. راقب مَن حولك لفترة معينة، وسترى أن لدى الجميع نقاط ضعف. أحدهم يتلعثم عند نطق كلمة ما، والآخر ضعيف بدنيًّا. وهذه أشياء ليس من العادي وضعها تحت المجهر وتحليلها، لكنها طريقة لملاحظة أنه ليس من المعقول أن يحكم أحدهم عليك بسبب أمور مشابهة لما عندهم.

  • اعثر على أشخاص وبيئة إيجابية

أحيانًا تكون مشكلة من يشعر بالدونية أنه غالبًا ما يتورط في علاقات سيئة، يسعى الطرف الآخر فيها إلى استغلال طبيعته الهشة وتقليل ثقته بنفسه أكثر. أو أن الطرف الآخر يكون غير واثق في نفسه أيضًا، فيحاول أن يستغل شعور الدونية عند شريكه ليشعر هو بالتحسن.

لذا، إن وجدت نفسك في علاقة مشابهة مع طرف ينتقدك بحدة أو يتصرف بفظاظة معك، فتذكر أنك لست بحاجة إليه في رحلتك للتخلص من شعورك بالدونية، وربما التخلص منه سيكون أفضل.

العثور على شريك محب من أفضل طرق زيادة احترامك وحبك لذاتك، شخص يحبك كما أنت، هذا هو من سيدعمك ويعزز ثقتك بنفسك.

  • اختر هواية أو مهارة، وأتقنها

مشكلة الدونية أنك تنظر إلى عيب واحد في شخصيتك، أو مجال واحد لم تتمكن من إتقانه مثلما أردت، فتضخِّم أهميته حتى تتخيل كيف أن حياتك ستكون أروع لو أن هذا العيب ليس موجودًا، فتؤدي الافتراضات إلى فقدان ثقتك بنفسك أكثر.

الحل أن تعثر على شيء أنت جيد فيه بدرجة ما، فتحسنه، أو تختار شيئًا جديدًا وتتقنه، وبهذا الإنجاز والتحسين سترتفع ثقتك بنفسك، وستدرك أن لديك من المميزات ما يغطي عيوبك وأكثر. اكسب الثقة بالجهد.

هذه الحلول مجرد طرق بسيطة لإعادة الهيكلة المعرفية للذات، أي لتتغير الطريقة التي ترى بها العالم من أجل صحتك النفسية وسعادتك. لكن لو كان شعور الدونية يمثل كفاحًا بالنسبة إليك، فهذا يعني أنك تخسر ذاتك، ولا تستطيع مواجهة أي خوف بسببه، فتقرر المكوث في المنزل وعدم مقابلة أحد. وفي هذه الحالة، من الأفضل الحصول على مشورة مهنية من طبيب أو معالج نفسي، ليساعدك على تجاوز الأمر والانطلاق في حياتك.

بالنسبة إليَّ، كان لهذه الحلول تأثيرها عندما قررت السعي للتخلص من الشعور بالدونية. كتبت: «ليس حقيقيًّا» على قصاصات ورقية، وألصقتها على مكتبي وخزانتي. بدأت بكتابة الانتصارات الصغيرة التي أحققها بشكل يومي، حتى إن كانت صغيرة وغير ملحوظة لمن حولي، مثل القراءة بصوت عال في محاضرة ما، أو الإجابة على سؤال، أو التحدث مع شخص غريب أراه شديد التميز.

لأكثر من شهرين، كنت عندما أنجز مهمة دون أن ألتفت إلى أني فعلت، ترصدها صديقتي دون أن ألاحظ، وتُطلعني على ما رصدَته كل أسبوع تقريبًا، وإذا شعرتُ بالدونية تغمرني وبخوف من التقدم، تُذكرني بالأشياء التي تمكنتُ من فعلها. أستطيع القول إنني راقبت الآخرين، حاولت أن أرى مخاوفهم لأؤمن بأنني طبيعة، وأن أجعل الصوت يصمت. وجدت أن الناس ليسوا أعدائي ولا منافسين لي، بل كنت أنا غريمة نفسي الوحيدة، ومنافسي هو الصوت الذي تركته ينمو. لم يكن الأمر سهلًا، ولم ينتهِ بعد. إنه مجرد شعور، في لحظة أجده يغمرني بالكامل، وفي أخرى أتمكن من الهرب.

مواضيع مشابهة