في العقود الأخيرة ارتبط مفهوم العنف خصوصًا، والإرهاب عمومًا، بالحركات اليمينية الدينية حصريًّا، لكن هذا الارتباط ليس قديمًا جدًّا، فكثيرًا ما ارتبط الإرهاب باليسار كما حدث في سبعينيات القرن المنصرم حين اتخذت بعض الحركات اليسارية من العنف طريقًا لها، مثل حركة «الألوية الحمراء» في إيطاليا، ومنظمة «بادر ماينهوف» في ألمانيا.
إقرار العنف خيارًا أيديولوجيًّا على الأرض، وإن قلَّ في اليسار وانحسر بشكل شبه تام في المرحلة التاريخية الحالية، لا يعني أن هذا التيار لا يمكنه أن يفرز نوعًا آخرًا من العنف: العنف الفكري. فرغم ارتباط اليسار مثلًا بقيم تكاد تكون مناهضة تمامًا لكل ما يمثله اليمين الديني، فإن المتابع لتطورات آليات هذا الخطاب سيرى تشابهًا مخيفًا في المآلات.
ففي حين تقوم الأسس الفكرية للحركات الراديكالية اليمينية (الدينية خصوصًا) باختلاف درجاتها على مبدأ انفصال/رفض الواقع، ومحاولة إعادة تعليبه في قوالب زمنية ماضية، ينغمس الخطاب اليساري المعاصر في محاولة مضادة لتفكيك ورفض كل ما هو واقع باعتبار أنه ميراث (ذكوري/استعماري/شمولي/مناهض للأقليات، إلخ). ورغم وجاهة الفكرة (في صورتها المعتدلة)، فإن المغالاة في هذا الخطاب أنتجت إرهابًا فكريًّا يساريًّا مشابهًا تمامًا لنظيره اليميني، يرتكز على الظاهرية اللغوية والمزايدة واحتكار الكود الأخلاقي.
«شرطة المصطلحات»
في السياق السلفي، تتحول كلمة «والنبي» إلى «بالله عليك»، و«عيد» الميلاد إلى «يوم» الميلاد.
التمسك بحَرفية النصوص دون اعتداد كبير بالسياقات كانت سمة المذهب الظاهري، وفي المطلق، يعطي اليمين الديني (السلفية مثالًا) اهتمامًا، ربما أكبر من اللازم، لضبط المصطلحات، باعتبار أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل فقط، ولكن ميدانًا للتباري الأيديولوجي والاستعلاء القيمي، فتتحول اللغة من وسيط للتواصل إلى ساحة صراع. في التصور السلفي، تمثل اللغة بداية الصحوة، وعلاقة اللغة بالإيمان في التراث السلفي بديهية، فضبط اللغة أول خطوات الضبط المنهجي للعقيدة.
احتكار اللغة ليس إلا امتدادًا لامتلاك الحق، إذ لكل كلمة معنى واحد هو بالضرورة ما أفهمه. ولذلك فإن علاقة اللغة والخيال في السلفية مرتبكة، وتصبح الوصاية اللغوية أولى مراحل السيطرة على الخيال.
ليس غريبًا أن تُستبدل بالمصطلحات التي يُرى فيها انتكاس أيديولوجي رمزي، كلمات أخرى قريبة وخالية من تلك الدلالات. ففي السياق السلفي المصري مثلًا، تتحول كلمة مثل «والنبي» إلى «بالله عليك»، باعتبار أنه لا يجوز الحلف بغير الله، ويصبح «عيد» الميلاد «يوم» الميلاد، فلا أعياد للمسلمين سوى عيدي الفطر والأضحى.
أضف إلى ذلك الهوس بإنتاج عشرات الكتب بعناوين على غرار «قل ولا تقل»، أو «احذر هذه الأقوال في العقيدة»، والتي لا يخرج محتواها عن إعادة مراجعة وضبط عشرات التعبيرات والأمثال الدارجة في محاولة منهجة عملية المراجعات اللفظية للمصطلحات اليومية، وتجريدها من السياق، وَرَدِّها فقط إلى أصلها اللغوي والعقائدي.
في المقابل يمارس اليسار المغالي نفس الظاهرية اللغوية في شكل الصوابية السياسية (Political Correctness) المبالغ فيها، القائمة على مراقبة المصطلحات وتعديلها وضبطها باعتبارها ميراثًا جاهليًّا، والتحسس الشديد تجاه كل ما قد يُفهم أنه تكريس للرجعية المتوارثة، فتصبح كلمات مثل «عادي» محاولة احتكار مفهوم ما وتطبيعه، ونبذ كل ما هو مختلف عنه، وتتحول أي دعابة ساخرة إلى تَنَمُّر (Bullying)، وأي مجاملة إلى تحرش، وأي نقد للنسويات إلى ذكورية وتسلط، وأي نكتة إلى تصالح مع أفكار غير تقدمية من خلال جعلها مادة للفكاهة.
قد يعجبك أيضًا: كيف أصبحت نسوية نكدية؟
التحول من مراقبة التحيزات الواضحة إلى الخفية، وظهور مصطلح مثل «Microagression» للإشارة إلى تلك الأنماط الخفية من التحيزات الجاهزة في الكلام والفعل اليومي العادي، أدى إلى ظهور مجموعات تستاء من كل شيء يقوله الآخر، وتمارس رقابة ذاتية وغيرية مخيفة في حديثها مع العالم في الحالتين، لا يستطيع الفرد تكوين جملة دون مراجعة ومراقبة ذاتية، والاعتذار عن كل كلمة ربما تحمل قيمة تاريخية تنافي نظام المعتقدات الجدير بالاتباع، حتى وإن فقدت معناها بالكامل.
المزايدة
معركة اليسار المحتدمة ليست مع اليمين، وإنما مع الأقل يسارية وتقدمية، فيصبح المقبول فقط ما يحدده أقصى اليسار، وأي شيء آخر يعني أنك أقل تقدمية.
يتركز تمرد الجماعات المتطرفة على الوسطيين والمعتدلين في التيار نفسه، وليس على الآخر المضاد، وهكذا تأكل نفسها لأنها باستمرار في صراع مزايدة على الآخر المنتمي إلى نفس التيار حتى تتفتت وتذوب.
مثلًا، يتهم داعش القاعدة بالتخاذل والتمييع، والسلفيون يكيلون نفس الاتهامات للإخوان، والجَهْمية يسبون شيوخ السلفية المصرية، وهكذا يضع كل طرف الآخر القريب منه على يساره، ويلعنه ويعلنه خصمًا له. هذا الأمر نفسه يحدث مع اليسار.
قد يهمك أيضًا: قبل داعش والقاعدة: ماذا يخبرنا التاريخ عن الإرهاب؟
معركة اليسار المحتدمة ليست مع اليمين، وإنما مع الأقل يسارية وتقدمية، فيصبح المقبول فقط ما يحدده أقصى اليسار، وأي شيء آخر يعني بشكل تلقائي أنك أقل تقدمية ودعمًا للمساواة.
مثلًا، إذا كنت تدعم حرية المثليين في المطلق، وتؤيد حقهم في الزواج، وتختلف أو تتساءل فقط حول حقهم في التبني، فمن الممكن أن يمطروك بوابل من الاتهامات فحواها أنك فاشي وتمارس وصاية مجتمعية على الآخرين، كأنك تُكَفَّر من اليمين الديني تمامًا، رغم أنك على بعد خطوة واحدة أخرى من زميلك في أقصى اليسار.
يتضح ذلك أيضًا بشكل جَلي في جيل جديد يمارس النسوية بشكل متطرف، يعيش في عالم متناقض، يجرِّم (وليس ينكر) ما لا يعجبه، ويستدعي التهم الجاهزة لكل من يختلف معه في الرأي. لا يمكن إنكار التمييز الذي تتعرض له المرأة في المطلق، والمظلومية التاريخية في السياقات الاجتماعية والدينية، ومحدودية الفرص المترتبة على كل هذا، ولكن أن يحسب شخص ما مثلًا الوقت الذي تقضيه ممثلات الأفلام المرشحة للأوسكار في الكلام مقابل الممثلين الذكور، ويصبح هذا دليلًا على المظلومية، يبدو رد فعل مبالِغًا جدًّا.
أن تضغط مجموعات نسوية للمطالبة بإزالة لوحة فنية ترجع إلى الحقبة الفيكتورية من أحد متاحف بريطانيا باعتبارها تمثل تشييئًا مهينًا للمرأة (Objectification)، هذا فعل على مستوى المآلات يُضيِّق المسافة بين السلفية والنسوية المتطرفة. فبينما يدافع اليسار بشراسة عن حرية الإبداع، يمارس هنا رقابة انتقائية (Selective Censorship) تفتقد الاتساق مع الذات.
المبالغة في رغبة رؤية المرأة في المناصب والشركات والمهن والصناعات والقطاعات كافة (وهو مطلب مشروع)، وإرجاع أي اختفاء أو ندرة لها إلى وجود إقصاء منهجي بالضرورة (وإن كانت هناك احتمالات لذلك)، لا يصب إلا في مصلحة الذكوريين مباشرة، إذ يكون الاهتمام محصورًا في التمثيل، وليس في تغيير بيئة العمل بشكل يضمن تساوي الفرص.
الاهتمام بالتمثيل المتساوي وإغفال أهمية توفير بيئة عادلة مشابه تمامًا للاهتمام بالديمقراطية الإجرائية. فمعظم دول العالم الثالث تنغمس في مشاهد انتخابية شكلية، ولكن هل معنى ذلك أنها ديمقراطية فقط بسبب توَفُّر الشكل الإجرائي؟
الكود الأخلاقي
من المعتاد أن تحاول الحركات الدينية احتكار الكود القيمي والأخلاقي، وتقديم «روشتَّات» مختزلة وثنائيات جاهزة لضبط الأفعال والمفاهيم. فكل فعل إما صواب وإما خطأ، حلال أو حرام. وكل شخص مؤمن أو كافر، وكل شيء خير أو شر. هكذا يكون تبسيط العالم واختزاله في شكل معادلات بسيطة جاهزة للاستهلاك بعيدة عن التعقيد الإنساني.
وفي حين يبدو اليسار في مضمونه أكثر قبولًا لفكرة الطيف والاختلاف، مثلًا قبول التوجهات الجندرية والجنسية كافة، والخصوصيات الثقافية، إلا أنه مؤخرًا تشابه كثيرًا مع اليمين الديني في محاولته احتكار الكود القيمي والثنائيات الجاهزة، وكاد يكون دينًا جديدًا.
اقرأ أيضًا: الأريحية المخادعة: من يكتب «الكود الأخلاقي» الجديد؟
مثلًا، في إطار تنظيم التفاعلات الاجتماعية، على اليمين ما يسمى «الزفاف الإسلامي» باعتباره تفاعلًا اجتماعيًّا ذا طابع يميني ديني، هناك «مانيفستو» جاهز لكل ما يصح ولا يصح، مثل منع الاختلاط، وتحديد ما هو مقبول، وآداب الحديث، وما يصح من الترفيه: الأناشيد بدلًا من الأغاني، إلى آخره. وعلى اليسار، في مؤتمر ما ذي طابع ليبرالي يساري، ستجد ما يسمى ميثاق قواعد السلوك (Code of Conduct) الذي يكاد يكون نصًّا مقدسًا، في تحسس مبالَغ فيه للغة والمصطلحات، إلى آخره.
النقد ليس لوجود قواعد من الأساس تنظم التفاعلات الاجتماعية، ولكن للتفصيل المبالغ في تحديد ما هو مقبول بدلًا من الارتكاز لخطوط عريضة بديهية.
أحاول أن أقول إن التطرف هو نفسه يمينًا ويسارًا، فكريًّا أو على مستوى الفعل، وتبقى الضحية من هو أقرب إلى المنتصف دائمًا، فيظهر يساريًا لليمينيين، ويبدو يمينيًا تمامًا لليساريين، وهكذا يتعرض للنبذ في كل مجلس، ويكون الجميع أعداءه، شاء أم أبى.
على كل حال، عادةً ما تحتاج كل الحركات في طريق النضج إلى شطحات ومحاولات متعددة للنقد الداخلي (أتمنى أن تكون تلك إحداها) للوصول إلى الاعتدال، فقط نتمنى أن لا تطول هذه الحقبة، وأن تكون هذه هي الذروة.