لفترة طويلة كانت «التجارب الفكرية» نهجًا مقبولًا في الفلسفة التحليلية. وهي الطريقة التي يمكننا أن نستخدمها لنجيب عن الأسئلة الكبرى. يندمج الفلاسفة في سيناريوهات حقيقية ومُتخَيلة حول المعرفة، والأخلاق، والإرادة الحرة، وأمور أخرى. ومن خلال هذه السيناريوهات يستنبطون ردود أفعالهم «البديهية» التي تُستخدَم في الجدلات الفلسفية.
يحاول هذا المقال المنشور على موقع «Aeon» استكشاف هذه المساحة من الفلسفة واتجاهاتها الجديدة.
تعد «حالة غيتييه» واحدة من أشهر أنواع تجارب التفكير، والمُسمَّاه باسم الفيلسوف الأمريكي «إدموند غيتييه». تعرض هذه التجربة عددًا من السيناريوهات التي تُستخدَم في طرح أسئلة حول تصور معين للمعرفة، ومبنية على عدة أمثلة أدرجها في مقال عام 1963.
قد يؤمن بعضهم بأن المعرفة مرادف لكل ما هو حقيقي ومقرون بالأدلة. لكن غيتييه اقترح أمثلة معاكسة لهذا التعريف، إذ يروي قصصًا ذات معتقَد صحيح، وبالأدلة، ثم يزعم أن هذه ليست معرفة.
كمثال: تخيل أنك في ظهيرة يومٍ تأملت ساعة متوقفة، فوجدت عقاربها تشير إلى الظهيرة. فإن اعتقادك أنها الظهيرة فعلًا حقيقي، وبشكل ما مدلل عليه أيضًا.
لكن السؤال هنا: هل تعرف بشكل مؤكد أنها الظهيرة؟ أم أنك فقط تخمن ذلك؟ فعدم معرفتك بتوقف الساعة يقدم لك في النهاية عددًا من المعلومات غير الحقيقية عن الواقع.
يبدو هذا المثال بسيطًا. إلا أن هذه الأمثلة في الواقع تعد خطوة إلى الأمام في المعرفة التحليلية.
بديهيات منحازة
حتى هذه اللحظة، كان غالبية الفلاسفة يؤمن بالنهج المتبَع، وهو أن يجلس الفلاسفة على أريكتهم، ويفكرون في ما يعدونه بديهيًّا بالنسبة إليهم.
تقول كاتبة المقال، «ستيفاني ويكسترا»، إنه في أواخر 1990 بدأ الفلاسفة «جوناثان وينبرغ» و«شون نيكولز» و«ستيفن ستيتش» في طرح أسئلة حول طريقة استنباط معرفتنا التي لا تستخدم المنطق والتجربة.
كان تساؤلهم هو: إلى من تنتمي هذه المعرفة أولًا؟ من يملكها؟ ومن يسيطر عليها؟ تساءلوا عن ما إذا كان الفلاسفة، على الأقل المهتمون منهم بأمر الفلسفة التحليلية، ذوي «بديهيات» تختلف عن أولئك ممن يشغلون أماكن ديموغرافية مختلفة.
وكان مصدر إلهامهم في طرح هذا التساؤل هو عملهم على الاختلافات بين الثقافات، جنبًا إلى جنب مع علماء نفس مثل «ريتشارد نيبست» و«جوناثان هايدت».
لم يكتف ستيتش وزملاؤه بالتخمين فقط حول ما إذا كانت الاختلافات موجودة أم لا، بل قرروا نقل تجاربهم إلى العالم الحقيقي. في بحثهم المبدئِي ركزوا على التجارب الفكرية الشائعة في الإبستمولوجي، وهو حقل فرعي في الفلسفة التي تهتم بدراسة موضوعات مثل الاعتقاد المبرَّر والمعرفة. سجلوا أشخاصًا شرق آسيويين وغربيين، وأيضًا آخرين من شبه القارة الهندية، وطلبوا منهم أن يقرأوا ويفكروا في بعض المقالات القصيرة الكلاسيكية في الإبستمولوجي.
في ورقتهم البحثية المنشورة عام 2001 زعموا أنه بين أكثر الاستنتاجات تميزًا وجدوا أمرًا غير متوقع، وهو: في حين أن معظم الأشخاص من المنطقة الغربية في تجربتهم رأوا أن «حالات غيتييه» السابق ذكرها ليست نموذجًا للمعرفة، فإن هؤلاء من شرق آسيا وشبه القارة الهندية اعتقد غالبيتهم عكس ذلك.
يرى ستيتش وزملاؤه أن هذا النوع من الاختلاف في تعريف ما هو البديهي بين الأشخاص يجب أن يُحدِث نقلةً كبيرة في طريقة ممارسة الفلسفة التحليلية. حتى هذه اللحظة، كان غالبية الفلاسفة يؤمن بالنهج المتبَع، وهو أن يجلس الفلاسفة على أريكتهم، ويفكرون في ما يعدونه بديهيًّا بالنسبة إليهم.
لقد كانت هذه هي الطريقة التي تحدث بها «الفلسفة». لكنهم يزعمون أن الدليل التجريبي قد قوَّض طريقة الممارسة التقليدية. إن كانت هذه الاختلافات في الحدس والبديهيات موجودة حقًّا، فلم نميز الحدس الخاص بنا، وما نراه بديهيًّا، أكثر من المجموعات الأخرى؟
ليس من الكافي أن نقول إنه حدسنا «نحن» حول العدالة أو المعرفة أو الإرادة الحرة هو كذا وكذا. بل إن من الواجب على الفيلسوف أن يحدد عن أي بديهيات يتحدث، ولماذا يكون هذا الأمر البديهي مهمًّا أكثر من غيره.
قد يهمك أيضًا: اليأس: الدليل إلى نفسك الحقيقية
نهج فقير
لكن السؤال المهم هنا: هل يمكن للتجارب الفكرية أن تنتج فلسفة حقًّا؟
يشير كاتب المقال إلى أن الفلاسفة التجريبيين عادة ما يشيرون إلى «أرسطو» و«ديفيد هيوم» و«فريدريك نيتشه» باعتبارهم سابقين في نفس الاتجاة. يقول «غوشوا نوبي» في كتابه «مانيفستو الفلسفة التجريبية»:
«كان من المألوف اهتمام الفلسفة بأسئلة عن حالة الإنسان. أن يتأمل الفلاسفة الناس، وكيف تعمل عقولهم. ولذلك كان من المعتاد أن تنصهر الفلسفة في أثناء ذلك مع علم النفس والتاريخ، أو العلم السياسي. تسعى حركة الفلسفة التجريبية الجديدة إلى استعادة هذه الرؤية مرة أخرى».
ما هي مواصفات من يُعدُّون «فلاسفة مختصين»، وكيف نميز من يمتلك هذا الوصف من الفلاسفة المحترفين؟
يختلف بعض الفلاسفة، حتى أولئك من المناصرين لحركة الفلسفة التجريبية، مع وجهة نظر نوبي هذه. يرى «ماكيري»، وهو زميل مؤيد للفلسفة التجريبية، أنه حتى إذا كان الفلاسفة اعتادوا قديمًا على خلط كل هذه الأمور، فإن هذا لا يعني أن دراسة الأمور كلها يجب أن يعد الآن فلسفة.
يشعر ماكيري بأن هناك شيئًا ناقصًا منذ أن بدأ الفلاسفة التجريبيون في الاختلاط بالعلماء الإدراكيين أكثر وأكثر، وفقدوا تركيزهم على ما اعتادوا أن يكون مركز اهتمام الفلسفة، وهو: تحليل المفاهيم. (فطبقًا لتحليل نوبي الأخير، 10% فقط من التجارب الفلسفية على مدار خمس سنوات تتناول تحليل المفاهيم، وأما الآخرون، فانشغلوا بكشفِ تأثيرات إدراكية جديدة ومناقشة أسبابها).
يتفق ماكيري هنا مع مؤيدين آخرين في أن محاولة تحليل المفاهيم من فوق الأريكة وسيلة ضعيفة بسبب الأدلة التجريبية التي تؤكد أن الأحكام الشخصية تختلف باختلاف المجموعات الديموغرافية.
هناك نوع ثانٍ من الآراء، وهو لمن يشككون في جدوى استنباط حدس غير المهتمين بالفلسفة أساسًا. فعلى سبيل المثال، يقول «ستيفن هيلز» في كتابه «النسبية وأساس الفلسفة»، إنه «يجب الاعتماد على حدس الفلاسفة المحترفين أكثر من حدس الآخرين، سواء كانوا طلبة غير متمرسين أو من عامة الناس».
يعد هذا الرأي، وهو ما يسمى بدفاع المختصين، ردًّا على موجة البرنامج السلبي في الفلسفة التجريبية. بينما تصف الفيلسوفة «جينيفر نادو» أن فكرة الاعتماد على الحدس المتعارض لغير المهتمين بالفلسفة خطأ بالأساس، بما أن حدس الأشخاص العاديين لا علاقة لها بالموضوع.
غالبًا ما يتشارك هذا الرأي مع حقولٍ معرفية مختلفة: إننا لن نأخد آراء غير المختصين في الحسبان عند تقدير أمور علمية أو حسابية.
لكن على الجانب الآخر يتساءل بعض الفلاسفة عن مواصفات من يُعدُّون «فلاسفة مختصين»، وكيف نميز من يمتلك هذا الوصف من الفلاسفة المحترفين؟
بصرف النظر عن موقفنا من الفلسفة التجريبية، فإنه من الواضح أن هذه الوسيلة الجديدة خلقت حوارًا مهمًّا. إنها لم تقدنا إلى التشكك في الاعتماد على الحدس في الفلسفة، (وما الذي نعنيه بالحدس)، وحسب، بل إنها فتحت نقاشًا حول ما يهدف الفلاسفة إلى تحقيقه.
وبالتالي، زادت الفلسفة التجريبية نار فلسفة الفلسفة (وتعني التحقيق في طبيعة الفلسفة، وتهتم بأهداف الفلسفة، حدودها وطرقها)، إذ يتفحص الفلاسفة أسس عملهم. سواء حينما يجلس أحدهم على الأريكة، أو لا.