ليس الإلحاد ظاهرة جديدة على الثقافة الغربية وحتى الثقافة العربية الإسلامية، فعلى مر التاريخ ظهر دائمًا مشككون ومتسائلون، انتقدوا الأفكار التي قامت عليها الديانات السماوية وغيرها من الأديان، واعترضوا على مضامينها كلها أو بعضها.
ما نعاينه اليوم من تنامي هذه الظاهرة وتزايد أعداد الذين يفرون من الدين متجهين نحو الإلحاد، جعل بعض المحللين يدعون إلى توقع تراجع هيمنة الديانات المنظمة مستقبلًا، وشجع إطلاق عدة أبحاث تحاول رصد تجليات هذه الظاهرة وأسبابها.
لكن أي دراسة للموضوع لا تراعي الظروف المعقدة والأسباب المتشابكة التي تدخل في مجال هذه الظاهرة، خصوصًا إذا نظرنا إلى حديث بعض المتدينين عن الإلحاد باعتباره أعظم مشكلة تواجه البشرية، وتعرُّضهم للقضية بطريقة لا تخلو من سطحية، وإطلاقهم تعميمات تضع الملحد في مرتبة دون باقي البشر.
عديدةٌ هي الدراسات التي تبحث أسباب الانتقال من الإيمان إلى الإلحاد، أو من دين إلى آخر، لكن ما يتغاضى عنه الجميع وقلما يبحثه أحد، ربما لشيوعه بدرجة أقل من باقي أنماط الانتقال الأخرى، هو ترك الإلحاد والعودة إلى الدين.
لإعطاء نظرة بخصوص هذا الموضوع، يستعرض مقال منشور على موقع «ذي آوتلاين» الأسباب التي تدفع بعض الناس للعودة إلى كنف الدين مجددًا، والتي تتعلق في كثير من الأحيان بالأوضاع السياسية وعوامل السن والنظام الاقتصادي المهيمن.
تحت طائلة القمع السياسي، ولِّ وجهك صوب الدين
أزمة المؤسسات الحكومية تدفع الناس إلى البحث عن ما يُشعرهم بالأمان، وهنا يأتي الدين.
تشير بيانات من مركز «بيو» الأمريكي للأبحاث إلى أنه في مقابل كل أربعة أمريكيين متدينين يتركون الدين، يعود شخص واحد غير متدين إليه، حسب ما جاء في المقال.
فضلًا عن هذا، أظهرت دراسة استطلاعية أجريت عام 1978، شملت الأمريكيين غير المنتمين إلى الكنيسة، أن 46% منهم يتوقفون عن أداء واجباتهم الدينية في مرحلة من حياتهم، كما أن 80% من الذين ينقطعون عن الممارسات الدينية المنتظمة ينتهي بهم المطاف بالعودة إلى الكنيسة مرة أخرى، وتكون معدلات العودة أكثر ارتفاعًا عند من تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عامًا.
لا تعطي هذه الدراسة الأسباب التي تدفع الناس إلى اعتناق الدين بعد فترة الانقطاع التي مروا بها، لكن دراسة أجراها أستاذ علم النفس «آرون كاي» عام 2010 قد تجيب، ولو جزئيًّا، هذا السؤال.
يرى كاي أن من بين الأسباب التي تؤدي إلى تعاظم الإحساس الديني غياب الاستقرار الحكومي داخل البلد. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو النظام الذي شن حملات واسعة على جميع صور الدين، لا سيما المسيحية، ارتفع عدد الروس الذين تبنوا موقفًا إيجابيًّا من المسيحية الأرثوذكسية من 31% إلى 72% من السكان، في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
يضيف المقال أن أزمة المؤسسات الحكومية هذه تدفع الناس إلى البحث عن ما يخفف مخاوفهم ويُشعرهم بالأمان، وهنا يصبح الدين، حتى عند أولئك الذين لم يفكروا قبلًا بشكل جِدِّي في أمره، ملاذًا يُحتمى به من القمع والاضطهاد، لأن مكان العبادة غير خاضع لحكم البشر، وإنما لحكم الله.
اقرأ أيضًا: رحلة في موجة الإلحاد والثورة الاجتماعية في العالم العربي
الحكمة تأتي مع التقدم في السن
العمر عامل آخر يدخل في معادلة العودة إلى ممارسة الشعائر الدينية، إذ توصلت دراسة أجريت عام 2012 عن طريق مركز الأبحاث التابع لجامعة شيكاغو، التي تتبعت مجموعة من الناس من أكثر من 30 بلدًا لما يقارب ثلاثة عقود، إلى أن 43% من الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 68 عامًا قالوا إنهم متيقنون من وجود الله، مقابل نسبة 23% فقط ممَّن تقل أعمارهم عن 27 عامًا.
وفقًا لنفس الدراسة، يبرز الاعتقاد بوجود الله بدرجة متزايدة بين عمر 58 و67 عامًا.
في نفس الوقت، ظهر اتجاه جديد داخل الولايات المتحدة نحو نوع من «الروحانية» الغامضة عند من تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة، وهو ما يعني أن أعدادًا متزايدة من جيل الألفية لا تنتمي إلى دين محدد، رغم إيمانهم بوجود قوة عُليا تسيِّر الكون.
يمكن إرجاع أسباب هذا التوجه الجديد إلى تشابك السياسة مع الدين، خصوصًا داخل منظومة المسيحية الأمريكية، وذلك في إشارة إلى الفضائح الجنسية المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية والنقاش الدائر بشأن زواج المثليين، وفقًا للمقال.
أهي عودة إلى الدين حقًّا؟
قد لا يكون الملحدون مستعدين لقبول نص ديني، لكنهم يفضلون نوعًا من المتعة الاجتماعية توفرها الروحانية.
ربما يدفع ذلك الهوس بالروحانية بعض الملحدين إلى اعتناق هذا النوع الجديد من التدين الذي يحتفظ بوجود الله وينبذ الكنيسة، والذي تتيحه الرأسمالية الاستهلاكية كبديل عصري عن الأديان المنظمة.
نظرًا لكون هوية الفرد داخل هذا النمط الاقتصادي تتحدد وفقًا لمعايير الاستهلاك، يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى اختيار الفرد نوع المنتجات الدينية التي يود استهلاكها، والتي تتسق مع تصوره وفكرته عن نفسه، ضمن قائمة اختيارات تضم الصلاة والتأمل واليوغا وغيرها.
قد لا يكون الملحدون مستعدين لقبول نص ديني عن الله أو تصديق ما تقوله الأديان المنظمة، لكنهم ربما يفضلون هذا النوع من المتعة الاجتماعية التي توفرها الروحانية، خاصةً إن كانت رائجة.
يتماشى هذا مع الفلسفة العامة لوادي السيليكون، حيث يتم استغلال المظاهر الإيجابية للممارسات الدينية وسط بيئة علمانية لخلق نوع من «الروحانية الجماعية العملية»، التي تستهلك المشتغلين داخل الشركات هناك.
مع أن الأرقام الحالية تشير إلى أن موجة الإلحاد طاغية، تؤكد تقارير أخرى أن مستقبل الأديان سيكون واعدًا، ممَّا يدفعنا للقول إنه ربما يكون لظاهرة الانتقال من الإلحاد صوب الدين يد في ذلك، وهو ما يستدعي القيام بمزيد من الأبحاث لتوضيح ورصد الأسباب المختلفة التي قد تدفع الفرد إلى اعتناق الدين مرة أخرى بعد أن كان ملحدًا.