كانت اليونانية لغة الفلسفة والعلوم والطب في العالم القديم، وحتى بعد الغزو الروماني الذي طال بلدان البحر الأبيض المتوسط، وزوال الديانات الوثنية التي كانت منتشرة وقتها، ظلت الفلسفة مرتبطة بصورة وثيقة بالثقافة الهيلينية، لدرجة أن مفكرين رومانيين بارزين مثل شيشرون وسينيكا، بنيا أفكارهما انطلاقًا من تراث الفلسفة الإغريقية الذي تشبعا به.
امتد تأثير العلوم، وخصوصًا الفلسفة، شرقًا إلى حدود الإمبراطورية البيزنطية، حيث استمر تدريس كتب أفلاطون وأرسطو بلغاتها الأصلية، ووصل أيضًا إلى مصر، مقر مكتبة الإسكندرية العظمى، التي ضمت بين رفوفها نسخًا من كتب أرسطو وأبقراط وأفلاطون، ما جعلها تضاهي أثينا وروما كمراكز لدراسة الفلسفة والطب على صعيد المتوسط.
وفي الوقت الذي كانت فيه هذه المراكز تستقطب الباحثين عن المعرفة والحكمة من أنحاء العالم، انطلقت بالتزامن حركة ترجمة دؤوبة تهدف إلى تقريب هذه المعارف للدارسين الذين يمنعهم حاجز اللغة من الوصول إلى المصادر الأصلية، حدث ذلك بدءًا بنقلها إلى اللغة السريانية ثم العربية، بعد أن صارت مهيمنة على مناطق النفوذ اليوناني السابقة، وفق ما جاء في مقال منشور على موقع «Openculture».
الترجمة كحافظ للعلم
بعد سيطرة العرب على بقاع شاسعة كانت في السابق تحت نفوذ الروم والفرس، واحتكاكهم المتزايد بمفكري هذه المناطق، بدأ المسلمون يولون اهتمامًا متناميًا بالنصوص اليونانية التي ضمت حكمة الأوائل.
لم يدّخر الخلفاء، حكام الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، جهدًا في الإنفاق على الترجمة، وزيادة المكافآت، بل والتسابق في إجزال العطاء للمترجمين، وإن اقتضاهم هذا أن يتعاقدوا مع علماء مسيحيين ويهود من العارفين بهذه اللغات الغريبة عن اللسان العربي، لإنجاز هذه المهمة.
بينما كان نفوذ النصوص اليونانية القديمة يتضاءل في أوروبا العصور المظلمة، دمجها العرب ووضعوا أساس الفلسفة الإسلامية.
كان نقل كتب الفلسفة والطب إلى العربية ظاهرة عابرة للمسافات والحدود الدينية واللغوية على حد سواء، فقد تطلب الأمر تجنيد خدمات أفراد يتقنون لغات عديدة، من خلفيات وثنية ومسيحية ويهودية ومسلمة، من بغداد في العراق وصولًا إلى طليطلة في الأندلس.
في بغداد القرن العاشر، كانت كتب أرسطو متاحة للعموم بفضل حركة الترجمة التي موّلتها الخلافة العباسية منذ النصف الثاني من القرن الثامن. خلال هذه الحقبة، تجمعت كمية كبيرة من النصوص العلمية المترجمة، أسهمت في تطوير لغة علمية رصينة غذت البحث العلمي في القرون التالية، وامتد تأثيرها إلى حدود العالم المسيحي.
بينما كان نفوذ النصوص اليونانية القديمة يتضاءل في أوروبا خلال العصور المظلمة، عمل مترجمو وشُرّاح تلك النصوص في العالم العربي الإسلامي على دمج مختلف هذه المعارف والعلوم في بوتقة واحدة، وأسهموا بذلك في وضع أساس الفلسفة الإسلامية.
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح أثر التحولات الثقافية في المجتمع
لا نهضة معرفية دون ترجمة
اختلفت دوافع دراسة الفلسفة اليونانية بين أسباب سياسية، إذ أراد الخلفاء تثبيت هيمنتهم الثقافية على المناطق التي كانت متأثرة بعد بالتقاليد المسيحية، وأسباب معرفية، تمثلت في رغبة المفكرين المسلمين في استخدام النصوص اليونانية للدفاع عن دينهم ضد النقد الذي كيل له، وللإسهام في فهمه بصورة أفضل.
حَفِظت الترجمة علوم الأوائل ودمجتها في صيغة فلسفة إسلامية، وازدهرت بعدها حركة خصبة لتبادل الأفكار، بفعل تنقل العلماء بين المناطق التابعة للنفوذ الإسلامي.
تعبيرًا عن هذا النهم المعرفي والديني، أشرفَ يعقوب بن إسحق الكِندي، أول من تفلسف باللغة العربية، على ترجمة مئات النصوص من اليونانية، وحاول أن يُظهر أن فكرة «السبب الأول»، أو «العلة الأولى»، في فلسفة أرسطو هو الله في التصور الإسلامي.
حفظت ترجمات الكندي أعمال أرسطو وغيره من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة، وعرّفت المفكرين المسلمين إلى أفكار أفلاطون عن الروح الخالدة، وأبحاث أرسطو في مسببات الظواهر في العالم الطبيعي، إضافةً إلى عديد من المذاهب الميتافيزيقية الأخرى.
حركة الترجمة هذه، التي رافقتها نقاشات فلسفية متنوعة واكتشافات علمية غير مسبوقة، كانت السبب في أن تصبح بغداد أهم مركز فكري في العصور الوسطى، مثلما كانت أثينا وروما والإسكندرية منابع المعرفة في العصر القديم.
دامَ هذا التقليد العلمي، الذي حفظ علوم الأوائل ودمجها في صيغة فلسفة إسلامية، إلى حدود القرن الحادي عشر، وازدهرت بعده حركة خصبة لتبادل الأفكار بفعل تنقل العلماء بين المناطق التابعة للنفوذ الإسلامي، لكنه تراجع بعدها تدريجيًّا، ليسلِّم بذلك العالم الإسلامي شعلة المعرفة إلى أوروبا، التي تلقفتها لتشيِّد عليها نهضة استمرت حتى وصلت إلى الهيمنة المعرفية الكاملة على العالم.