في عام 1648، وقَّعت إسبانيا وهولندا وفرنسا والولايات الألمانية وعدد آخر من القوى الأوروبية «صلح وستفاليا»، لُيسدَل الستار أخيرًا على فترة طويلة من الحروب التي اشتعلت نيرانها على مدار ما يربو عن 30 عامًا متواصلة داخل أوروبا.
لم يكن صلح وستفاليا مجرد صلح سياسي كغيره من الاتفاقيات والمهادنات، بل تمثلت أهميته الكبرى في أنه دشن لعصر جديد صارت الدولة فيه الكيان الأكثر تقديسًا واحترامًا، فحلَّت محل الدين، وشغلت حيزًا واسعًا في نفوس المواطنين وعقولهم، فصاروا رغم اختلافاتهم المذهبية والدينية مشتركين جميعًا في تقديم الولاء لكيان الدولة القومية.
تلك الدولة، التي أشار إليها الفيلسوف الإنجليزي الأشهر «توماس هوبز» بـ«ليفاياثان» (كائن بحري أسطوري ورد ذكره في العهد القديم)، استطاعت أن تفرض نفسها نموذجًا معياريًّا في الشرق، بعد أن رسخَّت قدميها في الغرب، لكنها قُدِّمَت في البلدان العربية تحديدًا بشكل يعتريه كثير من التشوهات، للدرجة التي جعلت منها كيانًا سلطويًّا مؤلَّهًا يمارس وظائفه بإجراءات استبدادية قمعية لم تظهر بالشكل ذاته في الغرب.
هنا يبدو السؤال المتعلق بأسباب اختلاف سلطة الدولة في البلاد العربية وبنيتها عنها في الغرب مُلحًّا، وهو ما سنحاول إيجاد إجابة عنه من خلال قراءة في كتابات عدد من الباحثين في علم الاجتماع السياسي.
الدولة العميقة: الإرث الاستعماري الذي استعان به الحكام الجدد
في كتابه المهم «استعمار مصر»، يطرح المؤرخ الإنجليزي «تيموثي ميتشل» وجهة نظره في ما يخص تغوُّل الدولة في الحالة العربية واستبدادها. وبحسب رأيه، فإن السبب الرئيسي في وصول الأنظمة العربية إلى تلك الدرجة من الدكتاتورية يكمن في الطريقة التي انبنت بها الدول القومية والوطنية في المنطقة، عقب انتهاء مرحلة الاستعمار البريطاني والفرنسي.
أضحت الدولة القومية العربية كيانًا ضخمًا معقدًا، لا سبيل لمناطحته أو الاعتراض عليه.
يعتقد ميتشل أن المستعمر الغربي فرض نظامًا إداريًّا معينًا لتدعيم نفوذه طوال فترة حكمه وسيطرته في المنطقة، في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
اعتمد هذا النظام الإداري على نظرية التراتبية السلطوية، والخضوع المطلق دون الحق في الاعتراض أو الرفض، واستطاع هذا النظام أن يجمع بين جميع الطبقات والدرجات الوظيفية والاجتماعية في نسيج واحد، بدءًا من الفلاح الذي يعمل في الأرض، نهايةً بمديري الأقاليم، ليصير كل فرد في هيكل الدولة مسؤولًا أمام رئيس له، ومسيطرًا على عدد من المرؤوسين، الأمر الذي نتج عنه نزعة بيروقراطية دكتاتورية لا يُستهان بها.
على سبيل المثال، وبحسب ما أورده ميتشل في كتابه، «كان يتعين رصد الفلاحين في أداء مهامهم، بأن يعملوا في الحقول تحت مراقبة المشد والغفير، وكان هؤلاء الموظفون يراجعون الفلاحين كل يوم، ويراقبونهم ليلًا ونهارًا لمنعهم من هجر القرية، وكان يجري الإبلاغ عن أي فلاح يتخلَّف عن أداء مهمته إلى شيخ البلد. وكان رئيس القرية تحت إشراف مسؤول عن الناحية، وهو حاكم الخط، فإن كان مهمِلًا في مراقبة الفلاحين، تعرض للتوبيخ في المرة الأولى، وعوقب بمئتي جلدة في المرة الثانية. أما الحاكم نفسه، فقد كان تحت إشراف مسؤول إقليمي هو المأمور، وكان المأمور مسؤولًا أمام مسؤول المديرية».
اقرأ أيضًا: فلاحو مصر العثمانية كما يراهم كتاب «هز القحوف»
بتلك الطريقة التي تعتمد على الرقابة المشددة والمستمرة، حُكِمَت مصر وغيرها من دول المنطقة إبان الحقبة الاستعمارية، حتى إذا حان الوقت الذي تخلى فيه الغرب عن إرثه الاستعماري، وصار جلاؤه عن المنطقة حتميًّا، تمسك أصحاب الحركات التحررية والاستقلالية بالنظام الإداري نفسه الذي اختطه الاستعمار من قبل، وإن تبدلت وتغيرت بعض المصطلحات والمسميات لتتوافق وتتلاءم مع العصر الجديد الذي صارت فيه البلاد تُدار وتُحكم من أبنائها.
بمرور الوقت أضحت الدولة القومية العربية كيانًا ضخمًا معقدًا لا سبيل لمناطحته أو الاعتراض عليه، وهو الكيان الذي عرَّفه بعض الباحثين باسم «الدولة العميقة».
هل الجيوش السبب في الدكتاتورية؟
واحدة أخرى من أهم الاجتهادات والمقاربات الحديثة التي حاولت أن تفسر أسباب تغوُّل الدولة في المنطقة العربية، كانت محاولة المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه «الدولة والسلطة والشرعية»، الذي نشره صاحبه عام 2013 بعد ما رآه من فشل ذريع آلت إليه ثورات المنطقة، وحاول فيه أن يبين بعض الأسباب المتعلقة بهذا الفشل.
عمل بلقزيز منذ البداية على التفرقة بين السلطة من جهة والدولة من جهة أخرى، فقد أكد في عدد من المناسبات، في كتابه، أن المجتمعات العربية تعاني من تغوُّل السلطة الحاكمة واستبدادها، تلك التي تتنامى في ظل وجود دولة ضعيفة متهالكة.
الأمة والشعب والوطن والجماهير، كلها مصطلحات تستخدمها السلطة في سبيل فرض قوتها داخل مناطق نفوذها.
لتبيان سبب ضعف الدولة، يقول المفكر المغربي: «تصطدم كل محاولة لتحليل أسباب ضعف فكرة الدولة في الوعي الجمعي بالحاجة إلى تحليل أسباب ضعف الدولة في الواقع الموضوعي، فالمسألة ليست مسألة وعي وفكر قاصرين، إلا بمقدار ما هي مسألة واقع يعاني عسر تحقق كيان الدولة فيه».
من هنا يبدأ بلقزيز، المتأثر والمحبَط من جراء فشل الثورات العربية، في تحميل المؤسسة العسكرية الذنب الأكبر في تأليه السلطة.
وفي سبيل شرح كيف وصلت الدول العربية إلى تلك النقطة، يستعرض ما أسماه «جيش السلطة»، وهو الجيش الذي يتحول إلى أداة في يد السلطة السياسية الحاكمة، ويكون مستعدًّا لاقتحام المجال السياسي في كل فرصة مواتية، فهو بذلك ينسحب من مهمته الأساسية التي تفرض عليه الاهتمام بدرء الأخطار الخارجية، ويتفرغ للتصدي لمحاولات الأحزاب والقوى السياسية الداخلية التي تعمل على الوصول إلى السلطة.
قد يعجبك أيضًا: الوطنية المصرية وأغنياتها
يلاحظ بلقزيز أن غالبية الدول العربية التي ظهر فيها نمط «جيش السلطة» تكون السلطة الحاكمة فيها مخترَقة من القوى الإمبريالية العالمية، وتفقد مع الوقت أي صبغة وطنية أو قومية، وتتحول إلى كيان سلطوي لا يهمه إلا الحفاظ على مكتسباته ونفوذه المتنامي، ما يضعه في النهاية في مصاف الآلهة، الذين لا يجوز المساس بهم ولا انتقادهم من قريب أو بعيد.
عُليا، أصيلة، غير مجزأة، آمرة: اختلاف الدولة العربية عن الغربية
في كتابه «الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين»، يحاول الأكاديمي المصري سيف عبد الفتاح أن يجد إجابة عن سؤال الدولة الإله، فيلتفت إلى أن بنية الدولة العربية الحديثة تختلف كثيرًا عن مثيلتها التي ظهرت في الدول الغربية.
يؤكد عبد الفتاح أن الدولة في مجتمعاتنا كانت ذات نشأة مشوهة، إلى الدرجة التي يمكن معها أن نصفها بأنها دولة «حابِسة» أكثر من وصفها بـ«الحارسة». ويؤكد كذلك أن مفهوم السيادة عند الدول القومية العربية من شأنه أن يزيد تلك المسألة جلاءً ووضوحًا، فالسيادة في الدول العربية ارتبطت بأربعة أمور جوهرية، أنها «سلطة عُليا، وأصيلة، وواحدة غير مجزأة، وآمرة».
معنى أنها سلطة عليا، أي أنه لا توجد سلطة أعلى منها أو موازية لها، فهي «تسمو فوق الجميع، وتفرض ذاتها». أما معنى أنها أصيلة فهو أنها لا تستمد أصلها من سلطة أخرى. أما مركزيتها وعدم قابليتها للتجزئة فإن ذلك يعني أنه، ورغم وجود سلطات مختلفة ومتعددة في الدولة، فإن تلك السلطات لا تتقاسم السلطة في ما بينها كما يبدو في الظاهر، بل إنها في الحقيقة تتقاسم الاختصاصات ليس إلا.
أخيرًا، فإن معنى أن تكون الدولة القومية آمرة أي أنها تصدر الأحكام والقرارات، ولا يحق لأحد من الأفراد الرفض أو الاعتراض، و«لا يتبدَّى ذلك في القوانين الصادرة عن سلطتها التشريعية فقط، وإنما يتضح ذلك أيضًا في ما يصدر عنها من قرارات إدارية: كالقرارات الصادرة بنزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة، والقرارات الصادرة عن الإدارة باعتبارها سلطة ضبط أو شرطة/بوليس».
يسمي عبد الفتاح تلك الدولة، التي وصفها في السطور السابقة، باسم «الدولة المتألهة»، أو الألوهية البديلة.
قد يعجبك أيضًا: البروباغندا: أعظم مغامرات دعائية في التاريخ
يوضح عبد الفتاح في كتابه أن مؤسسات الدولة في المنطقة العربية شهدت تداخلًا كبيرًا في الوظائف والاختصاصات والصلاحيات، ويذكر بوضوح أن «الدولة-السيادة، كما آلت إليه في بلادنا، إنما عبَّرت عن تماهي حدود مفاهيم اعتدنا على أن نميز في ما بينها، مثل الدولة والسلطة والحكومة والسلطة التنفيذية والنظام السياسي وجهة الإدارة والبيروقراطية، كل ذلك وفق عناصر مشوَّشة في الإدراك، مشوَّهة في الممارسة، أصبح لا حَدَّ بينها ولا فصل».
يحدد عبد الفتاح أحد أهم معالم الارتباك والتشويش الذي طال فكرة السيادة، عندما يتطرق إلى عدد من المصطلحات والمفاهيم المؤدلجة التي تتردد بكثرة في محيط المنطقة العربية، مثل «الأمة» و«الشعب» و«الوطن» و«الجماهير»، وكلها مصطلحات تستخدمها السلطة في سبيل فرض قوتها داخل مناطق نفوذها، ما يستتبع تحول العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى علاقة جبرية لا سبيل للفكاك من قيودها وأسرها، وتتحول الدولة فيها إلى تنين أسطوري، مثل ذلك الذي أشار إليه توماس هوبز في كتاباته.
يلاحظ الأكاديمي المصري أن القوة والنفوذ الهائلين اللذين تستخدمهما الدولة مع المواطنين، يترافقان ويتلازمان دائمًا مع حالة من الخضوع والاستكانة التي تتعامل بها الدولة-التنين مع المجتمع الدولي، ومع القوى العظمى التي توجد في العالم.
أخيرًا، يؤكد سيف عبد الفتاح أن الدولة لجأت عبر سبل شتى إلى شرعنة فرض سلطتها المطلقة على رعاياها، وكان مفهوم المواطنة أحد أهم تلك الطرق وأكثرها فعالية ونجاحًا، ذلك أن السلطة عملت على تقديم نموذج للمواطن الصالح، وهو ذلك الذي يكون فيه الفرد متماشيًا مع سياسات الدولة وتوجهاتها وميولها، بينما كل فرد يرفض أو ينتقد تلك السياسات تتعامل معه بوصفه مواطنًا غير صالح، وتُلصق به صفات سلبية مذمومة، مثل الخيانة والشذوذ الفكري.