لماذا كان أرسطو سيحب «تيتانيك»؟

لقطة من فيلم «Titanic» - الصورة: 20th Century Fox

شادي عبد العزيز
نشر في 2018/01/17

مرت 20 عامًا على عرض فيلم «Titanic»، الذي حقق إيرادات تخطت 1.8 مليار دولار في دور السينما فقط، واحتل رأس قائمة أعلى الإيرادات حتى عام 2010.

كل هذا النجاح لا ينفي أنه فيلم حزين، حزين كما ينبغي لفيلم عن كارثة، وقصة حب يموت أحد طرفيها، وأناس لا يتساوون في فرص النجاة مع الأغنياء، وتدمير صرح هندسي عملاق بمقاييس زمنه. إنه فيلم الكارثة كما يجب أن يكون.

لم ينجح «تيتانيك» بالتأكيد لمجرد أنه فيلم حزين، لكنه يحمل من الحزن ما يكفي للتساؤل: لماذا نفضِّل في كثير من الأحيان مشاهدة الأفلام التراجيدية؟ أو: لماذا يستثير هذا النشاط الذهني مشاعر السعادة فينا؟

أمخاخنا متشابهة، لكنها مختلفة

النساء يتأثرن بالمؤثرات السلبية كالصدمات العاطفية والوفاة، بينما يميل الرجال إلى الاستجابة للمستثيرات الإيجابية مثل انتصار البطل.

تتشابه طرق معالجة أمخاخنا للحبكات الأساسية في الأفلام وخط سير القصة، أما التعامل مع المعلومات المتعلقة بالجوانب العاطفية للفيلم فيختلف بصورة لافتة من شخص إلى آخر.

يعتمد هذا الاختلاف على عدة عوامل، تتضمن طريقة سرد أحداث الفيلم، والشخص نفسه الذي يشاهد الفيلم، ويُحتمل أن يتأثر ذلك أيضًا بجِنس المُشاهد.

أظهرت دراسة أن النساء عادةً ما يتأثرن أكثر من الذكور بالمؤثرات العاطفية السلبية (كالصدمات العاطفية والوفاة والدموع)، بينما يميل الرجال إلى الاستجابة للمستثيرات العاطفية الإيجابية (مثل نَيْل شرير الفيلم جزاءه، أو انتصار البطل).

نشر موقع هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» مثلًا قائمة بأفلام أبكت الرجال، ولم يكن من الغريب أن جاء على رأس القائمة «Lord of the Rings» وأفلام مثل «Green Mile» و«Rocky».

تساءلت صديقة لي طالعت نفس القائمة: لماذا يبكي رجل يشاهد «روكي»؟ ما الذي يمكن أن يُبكي في فيلم عن الملاكمة؟ تحاشيتُ الإجابة التي بدت لي منطقية: ولماذا لا يبكي مُشاهدو «روكي»؟

اقرأ أيضًا: تاكوتسوبو: هل تقتلنا كسرة القلب حقًّا؟

لكن لماذا قد تجعلنا الأفلام التراجيدية أكثر سعادة؟

أصر أرسطو على أن القوة التطهيرية للتراجيديا شديدة الأهمية، لأنها تنظفنا من العواطف المضطربة وتشفينا من الصدمات.

لأمي، وللأمهات بصفة عامة، نظرية في الحياة تتلخص في أننا «أحسن من غيرنا، ولنحمد الله على ذلك»، والواقع أن هذا سبب مهم في الإقبال على الأفلام الكئيبة.

أيًّا كان يومك، فبالتأكيد هو أفضل من الموت وحيدًا في محيط ثلجي على مسافة مليون كيلومتر من أحبائك. تستجيب أدمغتنا لهذا النوع من القصص بتلك الطريقة عادة. هل يمكن لهذا أن يفسر عشقنا للنميمة؟ نحن نحكي قصصًا عن غيرنا، وننتهي فيها إلى أننا لا نفعل تلك الأشياء السيئة التي يفعلونها.

ينقل مقال «BBC» وجهة نظر الباحثة «جيسيكا ماغيدسون» التي تتفق مع وجهة نظر الأمهات، وتوضح أن مشاهدة الأفلام الحزينة قد تدفعنا إلى تأمل ما تتميز به حيواتنا وعلاقاتنا الشخصية مقارنةً بما يحدث لشخصيات الفيلم، والشعور بالامتنان لهذا.

وصف أرسطو المسرحيات التراجيدية بأنها «ذات قدرة على تطهير الروح، ومساعدتنا على التأقلم مع جوانب من حياتنا لا يمكن أن يتصالح معها التفكير المنطقي».

أصر الفيلسوف اليوناني على أن القوة التطهيرية للتراجيديا شديدة الأهمية، نظرًا لأنها تنظفنا من العواطف المضطربة وتشفينا من الصدمات، لأن أفلامًا كثيرة تنقل الأفكار عن طريق العاطفة لا العقل، فبإمكانها تحييد نزوعنا إلى تثبيط مشاعرنا، ويمكن أن تحفزنا على إطلاق سراح تلك المشاعر. يمكن لذلك أن يفتح أبوابًا مغلقة في عقولنا وعواطفنا، ومن السهل بالتأكيد فعل ذلك خلال مشاهدة فيلم بدلًا من مواجهة شخص حقيقي في الحياة الواقعية.

عن طريق التماهي مع شخصيات بعينها وما تمر به من معضلات، يمكننا أن نختبر عواطفنا الخفية والمنسية.

يمارس الفيلم دور تدريب المشاعر، والمفتاح هنا هو عُنصر «الأمان». أنت تشاهد «تيتانيك» في غرفة معيشتك أو في سريرك، دافئًا، محميًّا من الماء والمطر والثلج وحطام السفينة. يسمح لك ذلك بمُعايشة الفيلم برفقة أحبائك، وفي بيئة آمنة يسهُل أن تسمح لبعض المشاعر بالخروج، بدلًا من حبسها عن قصد أو بغيره كالمعتاد.

في غرفة معيشتك وحيدًا مع مشروبك الساخن، لا مشكلة أن تسمح لنفسك بالتمادي في ذكريات فتاة تركتك، ولن يلومك أحد إن ذَكّرتك «كيت وينسليت» بابنة الجيران ذات النّمَش والنحافة المفرطة. ولأسباب سبق ذكرها أعلاه، ربما تفضل مشاهدة «روكي» وحيدًا ثم تؤكد لحبيبتك: نحن الرجال لا نبكي على الأفلام، و«روكي» فيلم أكشن عادي.

التفسير العلمي، بحسب العالم النفسي والكاتب «بول زاك»، أننا عندما نتعاطف مع الآخرين (حتى مع شخصيات الفيلم)، تُطلق أمخاخنا مادة أوكسيتوسين، التي تنشط دوائر معينة في المخ تحفزنا على الاهتمام بغيرنا. بشكل ما، يحسِّن هذا التعاطف قدرتنا على التواصل مع المقربين منا، سواء بعد مشاهدة الفيلم الحزين (كأن تحتضن زوجتك أو تبكيان تأثرًا)، أو لاحقًا عن طريق تدريب نظام إطلاق الأوكسيتوسين في مخك.

قد يهمك أيضًا: التعاسة كنز لا يفنى: للمشاعر السلبية أثر إيجابي كذلك

الأوكسيتوسين نفسه يُفرز بصورة طبيعية في حالات الأحضان والغناء والرقص، وحتى الغفران لمن أخطأ في حقك، والتربيت على كلبك الأليف، وركوب قطار الموت في مدينة الملاهي.

سواء كان الأوكسيتوسين هو المفتاح أو علم النفس، أو كل ما سبق وغيره في توليفة قد نختلف على مكوناتها، ستظل المجلات تنشر يوميًّا قائمة عنوانها (100 فيلم أبكت مُشاهديها حتى الوفاة)، أو (15 فيلمًا حزينًا ستُحيي إنسانيتك الميتة)، وسيظل الرجال يبكون في مشهد النهاية في «روكي» سرًّا وعلانية.

مواضيع مشابهة