في مقابلة معه أجريت في مهرجان «كان» عام 2007، قال المخرج الإسباني «فيكتور إريثيه»: «أعتقد أن تجربتي كمشاهِد كانت أعظم منها كمخرج».
لا يمكن تقدير مخرج بكمية الأفلام التي يقدمها، بالرغم من أن بعض الناس للأسف يرى أن الكمَّ مهما تكن جودته إنجاز كبير. فمثلًا «أندريه تاركوفسكي»، المخرج الروسي الشهير، قدم سبعة أفلام روائية طويلة فقط، ورغم ذلك تشعر بأن الفيلم الواحد له يعادل حياة كاملة.
من الجملة التي قالها إريثيه يمكن أن نفهم لماذا قدم الرجل أفلامًا قليلة جدًّا في مسيرته التي بدأت في أوائل تسعينيات القرن العشرين. قدم الرجل فيلمين روائيين فقط، وفيلمًا وثائقيًّا، وبعض الأفلام القصيرة.
تركيزنا هنا على فيلميه الروائيين الوحيدين «The Spirit of the Beehive» (روح خلية النحل) و«El Sur» (الجنوب). يفصل بينهما 10 أعوام، لكننا ندرك ارتباطهما الوثيق. وبرغم اختلاف الهيكل الأساسي لكل فيلم، فإن زاوية التناول كانت واحدة.
إريثيه: روح خلية النحل
يصف إريثيه حال الناس عقب إدراكهم أن الحرب الأهلية لم ينتصر فيها أحد، ولا يعتمد على «الكلمات» في إظهار هذه الإحباط.
أحب أن أُشبِّه ثلث الساعة الأولى من الفيلم بـ«الاستيقاظ من النوم». أراها أفضل مفتتح شاهدته في حياتي.
يلتقط إريثيه خيط قصته بسلاسة مدهشة، يُريك القرية التي تدور فيها الأحداث، كيف هي الحياة هناك، انبهار الأطفال حين يأتي صاحب دار عرض بفيلم من المدينة ليعرضه في القرية (وهي ذكرى محببة للمخرج تناولها في فيلم قصير بعنوان «La Morte Rouge»). ثم ينتقل بعد ذلك إلى البيت الذي تدور فيها حكاية الفيلم. الأب يُربي النحل في الصباح، وفي الليل يجلس ليكتب. والأم وحيدة معظم الوقت، وتكتب رسائل إلى حبيب مجهول لا نعرفه. ثم نُقابل «آنا» و«إيزابيل»، الطفلتين التي نرى الفيلم بأعينهما.
يخبئ إريثيه تفصيلة مهمة في خلفية الأحداث، فالفيلم يدور في الأربعينيات بعد انتهاء الحرب الأهلية في إسبانيا، لكنه لا يخبرنا بهذه التفصيلة مباشرة، بل يتركنا نستشعرها. لا يعتمد إريثيه في فيلمه على التسلية، باعتبار عنصر الأطفال أو الميلودراما استغلالًا للقصة، بل على التأثير، على ما تتركه في نفسك تفصيلة مهمة قد لا تلاحظها أصلًا.
يصنع الرجل لفيلمه جوًّا من الإحباط والاكتئاب دون حبكة أو تصاعد في الأحداث، يصف لنا حال الناس بعد الحرب الأهلية، الغارقين الآن في حكم الديكتاتور «فرانكو»، الذين أدركوا في النهاية أن الحرب لم ينتصر فيها أحد الطرفين. لا يعتمد على «الكلمات» في إظهار هذه الإحباط لأن الحوار في الفيلم قليل جدًّا، ولم يستخدم راويًا في الفيلم مثلما فعل في فيلمه الثاني «El Sur».
يُظهر لنا إحباط شخوصه وانفصالهم عن بعضهم، وعن الواقع، وعن ذواتهم أصلًا. الأب الذي يمكن أن يكون رمز فرانكو نفسه يربي النحل في الصباح، لكنه لا يهتم بأطفاله أبدًا، وفي الليل يكتب أبحاثًا وكتابات أدبية لصديق مجهول لا نعرف هل هو موجود أم لا. الأم تجلس وحيدة طوال الوقت، وتكتب رسائل إلى حبيب غائب نشك في وجوده لأنها لا تتلقى أي ردود على رسائلها.
ثم تأتي آنا البطلة الأساسية للفيلم، نراها وقد تأثرت بمشاهدة فيلم «فرنكنشتاين» لـ«جيمس ويل» في دار عرض قريتها، فيبدأ الواقع بالنسبة إليها يختلط بالخيال. وإيزابيل ذات الميول الشرسة التي تحب مضايقة أختها من وقت إلى آخر، ثم تكتشف الفتاتان بيتًا قديمًا مهجورًا، فيكون ملجأ لهما بعد المدرسة.
شخصيات الفيلم ببساطة منهَكة، لم تجد مفرًّا إلا بالهروب من الواقع إلى الخيال. وهم مستمرون وغارقون في ذلك رغم أن هذا الخيال يزيد من حزنهم وإحباطهم.
نلاحظ التباين في منظور آنا وإيزابيل إلى النضج. فآنا التي تصدمها قضية الموت حين تشاهد فيلم فرنكنشتاين تظل طوال الفيلم خائفة ومنشغلة بهذه القضية عن أي شيء آخر. بينما إيزابيل الأكثر واقعية بين أفراد عائلتها تتحول إلى نموذج شرس وعنيف لدرجة أنها تمثل أنها ماتت أمام آنا.
يقدم السيناريو قضية الموت إلى شخصيته آنا، وبالتالي إلينا بالتدريج، وكأنه يعطي فقط إشارات، وكأنه يرى مثل آنا. يبدأ بالماشروم السام الذي يصفه الأب لبناته، ثم النار التي تتخيل آنا أن أختها تحترق فيها كعقاب لها، ثم يأتي الموت الحقيقي الصادم لآنا.
قد يهمك أيضًا: 4 مخرجين بمثابة مدارس سينمائية مستقلة
لا يستخدم إريثيه إيقاع فيلمه فقط ليرينا الإحباط والعزلة، بل يستخدم كاميرته أيضًا، خصوصًا مع آنا، الشخصية التي تدخل الآن عالم العزلة بخطوات خائفة ومتعثرة، فيضعها في كادرات واسعة وفارغة، ثم يستخدم الكاميرا مع العائلة، فلا تظهر أبدًا في كادر واحد، وإنما كل شخصية دائمًا على حدة.
غير ذلك يستخدم المخرج عناصر أخرى، مثل جعل زجاج النوافذ في البيت على شكل سداسي كخليات النحل، ما يعزز شعور تحول البيت من «ملجأ» إلى «فخ». ويعزز مفهوم «الفخ» أيضًا حين يرينا شخصياته مهتمة بـ«الخارج» أكثر من اهتمامها بما يحدث في القرية. بل يجعل قضية الفيلم بأكلملها تبدأ مع وصول فيلم من المدينة (الخارج)، وكأنه استقبال لشخصية مهمة أو لنبي.
إريثيه: الجنوب
تمر 10 سنوات لا يُخرج فيها إريثيه فيلمًا واحدًا. 10 سنوات قد تُغيِّر أي فنان، ربما تجعل أسلوبه أكثر تطورًا، أو تسلبه لمسته السحرية.
على غرار فيلمه الأول «روح خلية النحل» يدور فيلم «El Sur» في مدينة نائية منفصلة عن بقية العالم، موجودة في شمالي إسبانيا. «أوغسطين» طبيب فقد وظيفته، وانفصل عن عائلته، وذهب برفقة زوجته وابنته «إيستيريا» إلى الشمال لبداية حياة جديدة. برغم مرور 10 سنوات لا ينسى إريثيه تأثير الحرب الأهلية، فأوغسطين فقد وظيفته وانفصل عن عائلته بسببها. وأيضًا على غرار فيلمه الأول نلمس بالتدريج العلاقة المختلفة بين أفراد الأسرة.
المحور الأساسي للفيلم هو علاقة الابنة إيستيريا بوالدها. ويأتي تقديم هذه العلاقة من منظور الفتاة، فيما يظل الوالد كعنصر ضبابي بالنسبة إلى الفتاة وإلينا.
برغم اختلاف الفكرة الأساسية لـ«روح خلية النحل» و«الجنوب» مع استخدام نفس العناصر تقريبًا، نرى أن زاوية التناول واحدة، لا أقصد فقط أننا نرى عالمَي الفيلمين بعيون الأطفال، ولكننا أيضًا نشاهد الفيلمين بعيون استكشافية، أبطال إريثيه خائفون أحيانًا ومفعمون بشغف غريب تجاه ما حولهم. آنا تحاول استكشاف ما حولها، وإيستيريا تحاول فهم والدها.
يمثل أوغسطين لابنته لغزًا من دون حل. ماضيه قبل أن يأتي هنا مجهول تمامًا لنا ولابنته. لا نملك منه إلا شذرات بسيطة وخيوط قصيرة لا تقودنا إلى صورة كاملة، لدرجة تشعرنا بأننا نستكشف شخصًا ملائكيًّا، وهي تفصيلة ساعد الإخراج والإضاءة في تكوينها.
لا تختلف شخوص «الجنوب» عن شخوص «روح خلية النحل» كثيرًا. فأوغسطين شخص صموت للغاية ومنعزل، وفي بعض الأحيان يُظهِر قدرات خارقة، مثل اكتشاف الماء. شخص مغترب وحزين لا يشعر بالدفء في مكانه الحالي، وفي نفس الوقت لا يشعر بالحنين إلى ماضيه ومكانه السابق، بل يحاول الهروب من الاثنين.
بعكس فيلمه الأول يستخدم إريثيه هنا راوية، هي إيستيريا نفسها بعد أن أصبحت كبيرة في السن. لكن رغم ذلك لا تقدم لنا الراوية مزيدًا من التفاصيل بقدر ما تزيد ضبابية ما يحدث أمامنا، وتقدم مزيدًا من الألغاز بسرد هادئ يحول الفيلم إلى حدوتة قبل النوم.
لا يهتم السيناريو هنا بعرض مشكلات الأب أو مناقشتها باستفاضة، بل يعرضها بكلمات قليلة وعلى استحياء. حتى حين تأتي جدة إيستيريا وخادمتها لزيارتهم تخبرها الخادمة بأن والدها كان بينه وبين جدها نزاعات كثيرة، لكن هذا في النهاية «كلام، مجرد كلام».
اقرأ أيضًا: السينما الروسية: مخرجون أعادوا تعريف «الأفلام»
لم تضع سينما فيكتور إريثيه الطفولة في إطار البراءة فقط مثلما فعلت السينما الإيرانية مثلًا، بل وضعتها في عدة إطارات تصنع في النهاية صورة واقعية متكاملة. لا يمكن اعتبار إريثيه مخرجًا محليًّا كما يعتقد هو، لأن لغته الشاعرية وسينماه لا ترى شخوصها من لحم ودم بقدر ما تراهم أفكارًا.