ترسم عبارة «اختر بنفسك كيف تشاهد»، التي يبدأ بها المسلسل التفاعلي السوري «بدون قيد»، الرسالة الأساسية من طرحه للمشاهدين على موقع يوتيوب، بالسعي المبدأي إلى مشاهدة حرة بكل تفاصيلها، بعيدًا عن الحدود التي يرسمها الراعي الأول «التلفزيون»، الذي تعود عليه المُشاهد العربي عمومًا والسوري خصوصًا، بكثير من القيود التي طالما منعت الأفكار المطروحة سيناريوهيًّا من الوصول الأمثل إلى مشاهديها.
يخرج السيناريست والممثل السوري رافي وهبي عن صمته أولًا عبر صفحته على فيسبوك، معلنًا ولادة «بدون قيد» معروضًا على الإنترنت.
يؤكد صاحب مسلسل «سنعود بعد قليل»، الذي رُفض من عديد من المحطات التقليدية ولم يُعرض سوى على واحدة في سباق شهر رمضان 2013، أن إصرار الفضائيات التقليدية على تجاهل الأعمال السورية التي تتناول الواقع السوري يدفع إلى البحث عن أشكال جديدة ومبتكرة للسلعة الدرامية، وكذلك عن بدائل ومنصات جديدة، خصوصًا مع توفر مثل هذه المنصات وتفوقها على التقليدية وقدرتها على الوصول إلى شريحة أكبر من المشاهدين والتفاعل معهم، بشروط أقل حدةً رقابيةً من تلك التي باتت تلاحق الدراما الواقعية، فتعيق وصولها إلى المشاهدين وتمنع إنتاجها بحجة افتقادها جرعة الترفيه المطلوبة.
يقدم وهبي، بالتعاون مع صديقه اللبناني باسم بريش والمخرج اللبناني أمين درة، حكايات جديدة بكل ما فيها عن الأمل والسعي إلى البدايات الجديدة التي تناوئ الظروف القاهرة التي يعيشها السوريون في الحرب، باحثين عن مخارج حقيقية كل يوم مثل اللجوء، وصار التفكير في العودة هاجسًا لجميع اللاجئين على اختلاف انتماءاتهم أو أهداف عودتهم.
بدون قيد: حكايات ومصائر
يبدو تداخل حكايات سلاسل «بدون قيد» الثلاثة في سياقه الدرامي عاديًّا، بين العقيد وفيق (رافي وهبة)، والسيدة ريم (عبير حريري) التي أضاعت هويتها، وكريم (ينال منصور)، الذي تحول بسبب الاعتقال من مُدرس لغة إلى عنصر دفاع مدني تحت القصف.
تجمع الثلاثة صدفةٌ في فرع الأمن السياسي وأخرى على الحدود السورية، حيث يؤدي هذا الارتباط الدرامي دوره الواقعي للعارف بالحكاية السورية، فيؤكد وهبي ارتباط مصائر السوريين الحقيقيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية، راسمًا بداية ونهاية سورية خالصة تُكرِّس لحالة أن أمر سوريا للسوريين في كل أحواله، بعيدًا عن المُدخلات الغريبة التي امتلأت بها الساحة في السنوات السبعة الأخيرة، التي جعلت من سوريا نقطة صراع لعشرات الجنسيات، كما يذكر الضابط وفيق، أحد شخصيات العمل، المسؤول أمنيًّا عن التدقيق في البطاقات الشخصية للمواطنين السوريين والتحقيق في ضياع وفقدان كثير منها خلال الحرب.
قد يهمك أيضًا: الأفلام الوثائقية ترسم معالم الحرب في سوريا
توظيف الجنس والشتائم
كسر المسلسل نمط محو المَشاهد الجنسية والشتائم، أو إصدار صفير مُفتعل عند ورودها للتنويه.
مَن منّا لا يشتم؟ مَن لا يرغب في ممارسة الجنس؟
يمكن اعتبار هذه الأسئلة وجودية في حياة الإنسان، على افتراض أن مثل هذه الأشياء تدخل في تكوينه، إذ ينشأ ومِن حوله أحاديث كثيرة عن الجنس والرغبة المرتبطة دومًا بعبارات الشتائم التي يسمعها كل يوم.
ولأننا أبناء الواقع، كان لا بد من رسمه بطريقة أكثر سلاسةً مما يمكن رؤيته على شاشة التلفزيون التقليدية، وهذا ما فعله منتجو «بدون قيد»، فكانت الصدمة بمشهد جريء غاب لسنوات طويلة عن الدراما السورية بإنتاجها التلفزيوني والسينمائي، بقرار قسري من الجهات الرسمية التي منعت عرض مثل هذه الوقائع بحجة الحفاظ على أخلاق المجتمع، بينما يتورط المجتمع بفعلها في الخفاء، يدفعه الخوف من التورط في ما هو ممنوع.
من ناحية أخرى، فإن وجود مثل هذه المَشاهد في المسلسل كان لا بد منه دراميًّا، فبالعودة إلى الربط الدرامي في ما حصل مع ابن الضابط وفيق في السلسلة الأولى، سنجد أن ارتباطه بصديقته عاطفيًّا كان أحد أسباب قتله، وهذا يدخل في إطار السياق الدرامي الذي لا يمكن الاعتراض عليه.
بينما كانت الشتائم موظفة على لسان المحقق والسجانين، المعروفين في سوريا بألسنتهم السليطة التي لا تراعي أحدًا، ناهيك بأن عملًا كهذا لا يمكن أن يخرج عن القيد دون كسر مثل هذه النمطيات، التي تعودنا محوها أو إصدار صفير مُفتعل عند ورودها للتنويه.
اقرأ أيضًا: عن قُبلة لن تشاهدها: قصة الرقابة في الكويت
بدون قيد: أسلوب درامي جديد
اللافت في المسلسل إمكانية مشاهدة كل قسم على حدة دون ربطه بالآخر، قبل أن تبدأ الحكايات في التجمع تدريجيًّا.
لمّا كان اللجوء إلى منصة جديدة ضروريًّا للتغلب على أزمة العرض والطلب التي يعاني منها المنتَج السوري الذي يناقش الوقائع الحالية، كان لا بد من رسم جديد يشد المشاهد أكثر إلى أحد أكثر المنصات شيوعًا في العالم.
السلسلة التي تتألف من 29 حلقة كان يمكن أن تجد نفسها فيلمًا طويلًا يزيد على ساعة ونصف، لكن الضرورة الدرامية ومنصة العرض فرضتا نفسهما لإبداع شكل جديد يلائم فكرة العرض الافتراضي، بحلقات قصيرة سلسلة لا تتعدى ثلاث دقائق، ما يسّر للمشاهدين متابعة المسلسل، فضلًا عن حافز الشغف بمعرفة ما سيجري في الحلقات المقبلة، الذي دفع كثيرين إلى مشاهدة السلسلة في جلسة واحدة.
إلا أن هذا لا يمنع الاعتراف بأن اللافت في «بدون قيد» إمكان مشاهدة كل قسم منها على حدة دون ربطه بالآخر في البداية، وهنا كان دور الحبكة المنفصلة لكلٍّ منها، قبل أن تبدأ الحكايات في التجمع تدريجيًّا، بما يؤكد المقولة الأولى للمسلسل: «اختر بنفسك كيف تشاهد».
الدراما السورية: ماذا بعد كسر القيد؟
يتخلص «بدون قيد» من أَسْر التابوهات، يكرِّس لفكرة إمكانية العمل بالمتاح وإنتاج نجاح ملفت، خصوصًا أن المسلسل وصل إلى كثيرين بطرق عدة، فلاقى التأييد والاعتراض، وكلاهما في عالم الإبداع جيد، ويعني أن العمل أثار جدلًا بين رافض ومؤيد.
كل ذلك كان بأسماء شابة كثيرة تصدرت أدوار البطولة لأول مرة، فضلًا عن خبرة رافي وهبي ونادين تحسين بك، وهو ما يجعل الاعتماد على وجوه جديدة في الدراما السورية لاحقًا أسهل، فضلًا عن أن «بدون قيد» بداية لكسر كثير من الحواجز في الدراما السورية، ولربما يكون ما بعده مختلفًا تمامًا عما قبله، من حيث السعي إلى إنتاج دراما تُحاكي الإنسان السوري بكل ما فيه من أزمات وأحلام وعيوب وتناقضات وإيجابيات، يمكن أن تكوِّن في مجملها واقعًا حقيقيًّا لا دراما مفتعلة.