تبدو الجاسوسية نوعًا سينمائيًّا أو دراميًّا (Genre) مألوفًا للمشاهد المصري والعربي. فشخصية الجاسوس أو عميل المخابرات كانت من علامات السينما والدراما التلفزيونية المصرية. لدينا أكثر من عمل يتناول الصراع بين المخابرات المصرية والموساد: «رأفت الهجان» و«دموع في عيون وقحة» و«بئر الخيانة» و«إعدام ميت»، وغيرها.
كل أفلام الجاسوسية المصرية ومسلسلاتها سلسلة من الانتصارات المستمرة للمخابرات المصرية. ضربات موجعة، خاطفة وذكية، أو ربما تستغرق عمرًا بكامله كما في «رأفت الهجان»، ملحمة صالح مرسي التي تحولت إلى عمل درامي جماهيري.
لأول مرة، يتسنى للمشاهد المصري أن يرى فيلم جاسوسية عالميًّا عن الصراع المصري-الإسرائيلي. تأتي الحكاية هذه المرة من الضفة الأخرى: إسرائيل. ومن الصعب ألا يتورط المشاهد المصري والعربي، فالصراع في هذه الحكاية يمسه بشكل شخصي.
فيلم «الملاك» الرواية «الإسرائيلية» عن أشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبد الناصر، ومدير مكتب الرئيس السادات في ما بعد، ومبعوثه للشؤون الخاصة ومستشاره المقرب. يتناول الفيلم دوره المهم والحاسم في حرب السادس من أكتوبر 1973، والسنوات السابقة كذلك.
بعد سنوات من أفلام نادية الجندي، بإمكاننا الآن أن نشاهد فيلما «عنا» من إنتاج شبكة «نتفليكس» بكل ما لها من رأسمال وأعمال ناجحة.
هناك أسباب عدة جعلت من فيلم «الملاك» حدثًا مرتقبًا. أهمها الجدال الدائم حول شخصية مروان. يؤكد الموساد أنه الجاسوس المصري الذي أنقذهم، بينما تعلن الرواية المصرية الرسمية أنه كان عميلًا للمخابرات المصرية داخل الموساد من أجل التلاعب بهم. إضافة إلى ذلك، هناك مصرعه الغامض في لندن عام 2007.
يأتي الفيلم بعد عقود من اتفاقية كامب ديفيد، وعدد من التغيرات في السياسية الخارجية المصرية تجاه القضية الفلسطينية، وبخاصة في السنوات الأخيرة. الإرث الدرامي للانتصارات والصفعات المصرية للموساد، والذي تربت عليه عدة أجيال، بدا مضجرًا الآن، بل إنه قد صار مادة للسخرية والتندر، إذ تتزايد الفجوة بين انتصارات دراما الجاسوسية والواقع السياسي المصري والعربي.
إذًا، بعد سنوات من مشاهدة أفلام نادية الجندي وتلاعب عادل إمام بأفراد الموساد، بإمكاننا الآن أن نشاهد فيلما «عنا» من إنتاج شبكة «نتفليكس» بكل ما لها من رأسمال ضخم وأعمال ناجحة وملايين المتابعين.
فماذا كانت النتيجة؟
يبدأ الفيلم بمونتاج سريع لبعض اللقطات الأرشيفية، وتعليق صوتي من خارج الكادر. التاريخ: صيف 1967، يصفه الراوي بـ«صيف الحب» (في إشارة إلى حركات الهيبيز والثقافة المضادة في أمريكا)، لكنه يتساءل إن كان باستطاعة فكرة «الحب والسلام» أن تُحدث تغييرًا في عالم يعيش على شفا الحرب.
في سرد سريع للأحداث المتوترة في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل، يعلق الرواي على غلق جمال عبد الناصر مضيق تيران أمام إسرائيل، وما أعقب ذلك من غارات جوية إسرائيلية مفاجئة، أسفرت عن ضرب الطائرات المصرية ونكسة يونيو.
انتصرت إسرائيل في حرب الستة أيام، ووقعت سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وشرق القدس في يد إسرائيل. وبينما كانت الدول العربية تخطط لاستعادة أراضيها المفقودة، بدأت بعض الجماعات القومية الفلسطينية التي تعيش تحت الحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، تخطط للثأر.
تنطلق الأحداث من لندن، وتحديدًا من مقر بيت السفير المصري، في العاشر من يوليو 1970. المشهد الافتتاحي على مائدة العشاء، وفي حضور عبد الناصر وابنته ونائبه السادات وقتها وسامي شرف وعدد من رجال الدولة، يتدخل أشرف مروان، صهر الرئيس، في مجرى الحديث مقترحًا على الرئيس والحضور التحالف مع الولايات المتحدة بدلًا من الاتحاد السوفيتي.
يتلخص اقتراحه في اتفاق العرب مع الولايات المتحدة، على عدم توجيه ضربات لإسرائيل مقابل الوساطة الأمريكية بينهما، والدعم الاقتصادي كذلك. يتهكم عبد الناصر على اقتراح مروان، ويسخر منه علانية.
يُظهر الفيلم عدم ثقة عبد الناصر في زوج ابنته، من خلال حوار شخصي بين الأب وابنته. يصف الأب زواج ابنته من مروان بأنه «غلطة». في المقابل، نرى تبرُّم مروان من استخفاف عبد الناصر به، ومن ملاحقة رجاله له في حياته اليومية في لندن ودراسته وسهراته مع الأصدقاء، ومن تحكمه في مواردهما المالية وطبيعة انفاقهما للأموال.
في أحد المشاهد التالية، نرى أشرف مروان، ويلعب دوره الممثل المغربي الأصل مروان كنزاري، وهو جالس في مدرج جامعي يستمع بانتباه إلى محاضرة. كان الأستاذ يتحدث عن «غاربو»، الاسم الحركي لـ«خوان بيغول» الذي صار أعظم عميل مزدوج في التاريخ، لاقتناعه بأن عليه عمل الخير من أجل البشرية. صار غاربو معروفًا الآن بصفته واحدًا من أعظم أبطال الحرب العالمية الثانية. نال وسام «الصليب الحديدي» من ألمانيا، ورتبة الإمبراطورية البريطانية.
مع التفاصيل التي كان مروان يقدمها إلى الموساد، كانت القيادة تنفذ الاستعدادات اللازمة وتعلن حالة الاستنفار، ما كبدها خسائر اقتصادية مستمرة.
في لحظة من اليأس والتهور، يُقدِم أشرف مروان، مدفوعًا بضائقة المالية وخلافاته مع والد زوجته الذي يريد طلاقها منه، على الاتصال بالسفارة الإسرائيلية في لندن، وطلب التحدث إلى السفير الإسرائيلي، لأن بحوزته معلومات مهمة، لكنه ينهي الاتصال بعدما تعذر الوصول إلى السفير. هكذا يبني الفيلم تناظرًا بين شخصية أشرف مروان وغاربو الذي ربما وجد مروان فيه شيئًا من الإلهام.
يرجع مروان إلى مصر مع زوجته منى عقب الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر. نتابع صعود مروان بعد ذلك وتقربه من السادات. كسب ثقة الرئيس المصري الجديد بعدما ساعده في إزاحة الثلاثي القوي المعارض له: سامي شرف وعلي صبري وشعراوي جمعة. وبعد أن أصبح المدير العام لمكتب السادات، يبتزه الموساد ويهدده بالكشف عن محاولة الاتصال القديمة، إن لم يتعاون معهم.
العميل «أليكس»، يلعب دوره «توبي كيبيل»، هو نقطة تواصل مروان مع الموساد. يحاول الاثنان بناء جسر من الثقة بينهما. يبرهن مروان على جدية تعاونه مع الموساد، ويستمر في مدهم بمعلومات شديدة الأهمية. إلا أن مصداقيته تكون دائمًا محل شك من بعض القيادات، وبخاصة حين تتكرر تحذيرات مروان بأن مصر على وشك الهجوم وبدء الحرب. مع التفاصيل والمعلومات التي كان مروان يقدمها إلى الموساد، كانت القيادة الإسرائيلية في كل مرة تنفذ الاستعدادات اللازمة، وتعلن حالة الاستنفار واستدعاء قوات الاحتياط، ما كبدها خسائر اقتصادية مستمرة.
كان السادات يؤجل قرار الحرب، ويعيد التنسيق مع الجبهة السورية. كان من المفترض أن تبدأ عمليات الجيش المصري في إبريل 1973، خطط الحرب صارت جاهزة، لكن تحديد الموعد النهائي تغير باستمرار من إبريل إلى مايو، إلى منتصف الصيف، حتى القرار النهائي في أكتوبر.
كانت شكوك الموساد تتزايد حول مروان، وتطعن في مصداقيته كجاسوس. لكن «عملية روما» في أواخر سبتمبر، بددت هذه الشكوك. والتي جرت عندما أحبط مروان، باتفاق مسبَق مع السادات، محاولة بعض رجال القذافي إسقاط طائرة ركاب إسرائيلية فور إقلاعها من مطار روما، في نوع من الرد الثأري على إسقاط إسرائيل طائرة ركاب ليبية فوق سيناء.
يخبر مروان أليكس، في مكالمة هاتفية، أن الأمر «سيحدث»، ويقول الكلمة المتعارف عليها: «بوتاسيوم»، التي تعني قرب اندلاع الحرب. يطلب مروان مقابلة «تسفي زامير»، مدير الموساد في لندن. في اللقاء الذي جمعه مع أليكس وزامير، عشية الجمعة الخامس من أكتوبر، يؤكد مروان أن السادات سيعلن الحرب في اليوم التالي، بالتعاون مع سوريا، تزامنًا مع «يوم كيبور».
وحين سئل عن الموعد بالتحديد أجاب: «السادسة مساءً». كان زامير متوجسًا، وقال لمروان: «لقد أخبرتنا من قبل مرتين أن الحرب ستقع، وكان إنذارًا كاذبًا في كلتيهما. لماذا يجب أن أصدقك هذه المرة؟». فأجابه مروان: «لأنك إن لم تفعل، فسيموت أبرياء كثيرون من الجانبين».
الحبكة: من هو «الملاك»؟
يكشف الفيلم في نهايته، عن اتفاق السادات مع أشرف مروان على ضرورة توجيه ضربة لإسرائيل. ضربة لا تقضي عليها، فقط توجعها كي تحثها على الدخول في المفاوضات. فمن دون خسارة مرحلية لإسرائيل، لن تُقدِم على وقف إطلاق النار ومفاوضات السلام.
ينتصر الفيلم في النهاية، ولو بشكل مبتسَر وضبابي، للسردية القائلة إن أشرف مروان كان عميلًا مزدوجًا. تلك السردية التي تؤكدها بعض الشخصيات الإسرائيلية وتنفيها أخرى. وخلافًا لكتاب «يوري بار جوزيف» «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، والمقتبَس عنه الفيلم، فإن صناع الفيلم آثروا عدم تغليب رواية على الأخرى، وإمساك العصا من المنتصف. في الوقت الذي يفند فيه الكتاب المزاعم حول فكرة «العميل المزدوج».
يستبعد البعض نظرية العميل المزدوج، ويؤكدون أن إسرائيل كانت ستخسر الحرب حتمًا لولا أن حذرها مروان في اللحظة الأخيرة.
يقول يوري بار جوزيف، وهو أستاذ تاريخ وعلوم سياسية ومحلل ميداني سابق، في بداية الكتاب، إنه في مطلع التسعينيات بات معروفا أن للموساد الإسرائيلي «مصدرًا عجائبيًّا» في «قلب الجهاز العربي الاستراتيجي في مصر»، في السنوات التي سبقت حرب أكتوبر.
يضيف جوزيف أن اللواء «إيلي عيزرا»، مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، يزعم في مذكراته المنشورة عام 1993، أن المصدر كان في الحقيقة عميلًا مزدوجًا «خان الموساد في أحلك اللحظات»، وبذلك مكَّن الجيوش العربية من مباغتة إسرائيل في «يوم كيبور»، العيد الأكثر قداسة.
لكن بار جوزيف يستبعد فرضية «العميل المزدوج»، ويؤكد قائلًا: «يستبعد آخرون على دراية بالأحداث، ولا يقلون مصداقية عن عيزرا، نظرية العميل المزدوج، ويؤكدون أن إسرائيل كانت ستخسر الحرب حتمًا لولا أن حذرها المصدر في اللحظة الأخيرة». بعد عام 2000، أصبح المصدر معروفًا لكثيرين. إنه «أشرف مروان».
مأثورات: «الولد الذي صرخ: ذئب»
كرس الفيلم غالبية طاقته في تقديم تبرير أخلاقي لفعل الجاسوس، ومحاولة إيجاد غاية نهائية سامية وإنسانية، تبرر الوسيلة التي انتهجها أشرف مروان. الغاية النهائية هي «السلام»، فـ«السلام الدائم هو الانتصار الوحيد»، على حد تعبير الفيلم. وهذه الطبيعة الرسالية للعمل ليست مؤامرة خبيثة، بقدر أنها تغفل التعقيدات السياسية والحقوق التي يُشترَط استردادها من أجل إتمام عملية السلام.
ركز الفيلم على توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» ونجاح عملية السلام، وأظهر الخسائر البشرية أرقامًا، كآثار جانبية لأعمال الجاسوسية.
لم يرسم «آريل فرومين»، مخرج الفيلم، ملامح مطبخ العمليات المصرية والإسرائيلية، أو يوضح الكواليس قبل ساعة الصفر مثلًا، بما تتضمنه من زخم وتشابكات. لذلك، لم نشعر في الفيلم بلحظات توتر متقَنة كالتي شاهدناها في أفلام مثل: «Argo» أو«Spy Game» أو«Bridge of Spies». رغم خُلوِّ هذه الأفلام من مشاهد الحركة والإثارة، فإن التوتر كان يمكن أن يُخلَق في «الملاك» من رحم الصراعات الداخلية أو بفعل السباق مع الزمن.
في المقابل، اعتمد السرد على حكاية «الولد الذي صرخ: ذئب» كمجاز للحدث الرئيسي. هذا الولد الذي كذب في أول مرتين صرخ فيهما طلبًا للنجدة، وحينما صرخ للمرة الثالثة، وكان الخطر حقيقيًّا، فإن أحدًا لم يهب لنجدته. دور الملاك يشبه دور الولد، لكن رسالته تطلبت منه أن يقنع الناس، مجازًا عن إسرائيل، في المرة الثالثة.
لكننا يمكن أن نرى أشرف مروان في صورة «شيطان طيب» أو «ملاك شرير»، أقرب منه إلى حامل الرسالة الذي يغالب دموعه دومًا. ربما هو شبيه بالنبي إرميا، أحد أنبياء بني إسرائيل، والذي تنبأ بخراب مملكة أورشليم ودمارها وفناء أهلها على أيدي الأعداء، فكان يحث الناس على الاستسلام والعودة إلى الله. وبعيدًا عن المجازات التوراتية والحكايات المأثورة، فإن الفيلم ركز على توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» ونجاح عملية السلام، وأظهر الخسائر البشرية أرقامًا، كآثار جانبية لأعمال الجاسوسية.